هذه قصة صلتي بالأستاذ الشيخ الإمام عبد الفتاح أبي غدة (3)

ثالثاً: في المجتمع:

عاد الشيخ إلى حلب عام 1950 بعد أن أنهى دراسته الأزهريَّة، الشهادة العالية لكلية الشريعة (الليسانس)، والعالمية مع إجازة التدريس (دبلوم التربية والتدريس) فتزوج -كما ذكرت- وعُيِّن مدرساً للتربية الدينيَّة في حلب.

ثم انتقل من بيته الذي كان يسكنه مع أهله في الجبيلة -كما ذكرت- إلى بيت عربي في (زقاق الدولاب) بين جامع البياضة وجامع الحموي، ثم عُيِّن خطيباً للجمعة في جامع الحموي، ثم خطيباً للجمعة في المدرسة الخسروية.

وذاع صيت الشيخ، وكثر أتباعه ومريدوه، وطوَّر خطبة الجمعة، وجدَّد فيها أسلوباً ونظاماً، وعُني فيها بالحديث الشريف وتخريجه، وقراءة نصِّه أحياناً من الورقة مكتوباً، احتراماً وتقديراً لشأنه، وكانت الجماهير الطلابية تشيعه من المدرسة بعد خطبة الجمعة إلى بيته، وخاصة بعد أن انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأصبح نائباً لرئيسها المرحوم الشيخ مصطفى السباعي رحمهما الله تعالى.

وكنت أنا قد انتسبت – كما ذكرت- إلى كليَّة الآداب من جامعة فؤاد الأول في قسم اللغة العربية، بعد نيلي الشهادة العالمية من كلية الشريعة... فرجعت إلى مصر لأتابع دراستي الجامعية، وبقي الشيخ أبو زاهد رحمه الله تعالى في حلب يدرس، ويقوم بالدعوة، ويفقِّه الطلاب في الجامع في دروس خاصَّة...

ولما نلت الليسانس في الآداب، انتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول، وكنت أجمع بين الحقوق وبين الدراسات العليا في الآداب، أتخصص في (قسم اللغات الشرقية، فرع اللهجات العربية) ولم تكن في الأزهر دراسات تخصصية عالية (للدكتوراة، إذ كانت مغلقة حتى عام 1958)

مرض السيد الوالد الجليل- رحمه الله تعالى- وأنا في السنة الثانية من الحقوق، وقد سجلت موضوع رسالة للدكتوراة في كلية الآداب بعنوان: (قراءة الكسائي وصلتها باللهجات العربية القديمة) بإشراف الدكتور شوقي ضيف والدكتور محمد خليل نامي رحمه الله تعالى، بعد أن نلت الماجستير (الدبلوم ثلاث سنين) في اللهجات العربية.

فتركت مصر، وكل شيء في مصر، وانقلبت راجعاً إلى سورية لأتوفَّر على خدمة الوالد في آخر حياته...

واضطرتني ظروف الحياة المادية على التوظف، فتقدمت إلى المسابقة لتدريس اللغة العربية في المدراس الثانوية.

كنت أنا أول المتسابقين -كما نبَّأني بذلك الدكتور زكي الركابي الذي امتحنني شفهياً بعد التحريري في درس (كان وأخواتها) -وكنت آمل أن أعيَّن في حلب، لأخدم الوالد، وخاب أملي -للأسف- لما عُيِّنت في (دير الزور)، وعيِّن في حلب شخص آخر حمل وقتئذ في السنة نفسها إجازة الليسانس في الآداب، لا يحمل سواها، إذ كان من الجماعة... ولم أعيَّن في حلب مع أني أحمل علاوة على الآداب: ليسانس في الشريعة، دبلوم في التدريس، دبلوم في القضاء الشرعي، وفي السنة الثالثة من دبلوم اللهجات العربية الشرقية...

باشرت عملي في ثانوية الفرات في الدير، في صعوبة بالغة، أغادر الوالد في حلب فجر السبت، في باصات قديمة، أصل إلى الدير المغرب، أدرِّس الأحد والاثنين والثلاثاء، وأرجع إلى حلب صباح الأربعاء، لخدمة الوالد، فقد توفيت الوالدة -رحمها الله تعالى- وليس لي أخوات يخدمنه...

كدت أنقطع عن العلم، وانغمست في المجتمع في أقسى ظروف حياتي.. وجاء الفرج حيث أنشئت كلية الشريعة في جامعة دمشق عام 1955 وأُعلن عن مسابقة لمعيدين ثلاثة، وما كنت منشرحاً للاشتراك في هذه المسابقة؛ لأنها ستقرر مصيري في دمشق، وتبعدني عن الوالد، الذي حجبني مرضه عن العلم، لكن تقدمت كالمكره، وربما دعوت ربي أن لا أنجح؛ لكني كنت أول الناجحين الثلاثة، من ثمانية وعشرين من المتقدِّمين.

ونقلت إلى دمشق، بعد عمل أكثر من شهر في الدير... وكلفت بإلقاء ثلاث عشرة محاضرة أسبوعياً في أمَّهات كتب الفقه والأصول، الهداية، والتنقيح، مما اضطرني إلى ترك الحقوق وأنا في السنة الثالثة... لتحضير محاضراتي على أتم وجه، وطلابي أقوياء كبار، ذوو عمائم ولحى، تلاميذ الشيخ حبكة، ودبس وزيت، والشيخ الميداني، والشيخ الدقر (تحويشة من دراسة المساجد والحلقات) دخلت الجامعة استثناءً.

كان نصاب الأستاذ المنتدَب من مصر إلى دمشق ست ساعات، وراتبه آلاف... ونصابي 13 ساعة وراتبي 350 ل.س.

أُوفد ثالث المعيدين الناجحين، وهو حقوقي - لا صلة له بالشريعة - إلى حقوق القاهرة للحصول على المؤهَّل بعد شهور من تعيينه معيداً؛ لأنه كان موظفاً في الابتدائي سابقاً..

وأُوفد الثاني بعد سنة، إلى نفس الكلية...

وبقيت ثلاث سنين أدرِّس مقرَّراتي، منقطعاً عن الآداب والحقوق كلياً، فالمحاضرات تحتاج إلى تعمق وتحضير طويل في كتب قديمة، ومراجعات للحواشي والتقريرات...

ولم أوفد إلى الأزهر للأستاذية (الدكتوراة) إلا بعد جهود، إذ كانت الحاجة إليَّ ماسَّة، والمستحضرون المنتدبون من مصر للتدريس ليسوا في المستوى المطلوب، بشهادة الطلاب، فاضطرت الجامعة للاستعانة بالشيخ عبد الفتاح بعد إيفادي ...

درَّس في الجامعة نحو خمس سنين، هي مدَّة إيفادي، يتردَّد بين دمشق وحلب، وحاول أن يعيَّن استثنائياً في الجامعة (بدون مؤهل دكتوراة) كما استثني من قبله بمرسوم جمهوري، أستاذه وأستاذي وأستاذ الجيل، فقيه العصر، الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء - حفظه الله وتولاه- فلم تُغْن المحاولات، ولم يكن الجو في ملاءمته، فقفل راجعاً إلى حلب.. بعد عودتي من الإيفاد في صيف عام 1963م.

وحاول حينئذ أن ينتسب إلى جامعة الأزهر للدراسات العليا مع المشايخ: محمد علي الصابوني، وعبد الله ناصح علوان... وآخرين، لكن الأزهر لم يفسح لهم المجال، ورفضهم بكل أسف...

وانقطعت في دمشق، عن أخبار الشيخ إلا قليلاً، فلا نكاد نلتقي إلا في عيد جامع، أو زيارة في مناسبة، أو في طريق، ذاهبين لممارسة عمل، أو عائدين من مهمَّة، أو في صلاة الجماعة، أو الجمعة، كل ذلك في حلب.

قابلها وصححها وأعدها للنشر : مجد مكي

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين