هذه قصة صلتي بالأستاذ الشيخ الإمام عبد الفتاح أبي غدة (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

وبعد: فإن صلتي بالمغفور له، الأستاذ الشيخ الإمام أبي زاهد عبد الفتاح رحمه الله تعالى ونوَّر ضريحه، ووسّعه عليه، وعطّره له، ونداّه ونمَّقه وخضّره، ترجع إلى أكثر من ستين عاماً، كانت بين الإقليمين العربيين الكبيرين: سورية ومصر.

وهي صلة علميَّة، لا تتجاوز مقاعد الدراسة، وحلقات المسجد، وقراءة العلم، ودراسة كتبه: لا شأن لها بدنيا قريبة، ولا أغراض بعيدة، ولا مقاصد وحظوظٍ خاصة.

أولاً في سورية:

كان اللقاء في المدرسة الخسروية عام 1356هـ. 1936م، في الصف الأول من صفوفها الستة يومئذ، وكنت نلتُ الشهادة الابتدائية سنة 1935 من مدرسة الفيوضات، (في باب النيرب، ثم سمِّيت بمدرسة المثنى، ثم العروبة)، وقد تجاوزت العاشرة، وميلادي كما في هُويتي: سنة 1925 في حلب: البياضة.

كان مدير المدرسة وقتئذ: الشيخ وحيد حمزة، فلمَّا توفي تولَّى المديرية الشيخ مصطفى باقو، وتولاها من بعده: الشيخ محمد راغب الطباخ رحمهم الله تعالى، وطالت مديريته لها حتى تخرجنا من الخسروية، أنا والشيخ، على نظامها القديم، قبل أن تسمَّى (الثانوية الشرعية).

وكان الشيخ وقتئذ حليق اللحية، يلبس طربوشاً أحمر مثلي، عرفت أنه ترك صنعة (النول اليدوي) وارتحل عنها ليطلب العلم الشرعي، وكان شاباً جَلْداً، أحمر الوجه، أشقر الشعر، طويلاً نحيفاً، خفيف الحركة، متعطشاً للعلم، يحب صحبة المشايخ، يأخذ عنهم المعارف، وأخبارهم وأخبار شيوخهم، حِلْس الكتب، يلفُّها في منديل ملون مبصوم برسوم، شأن أكثر التلاميذ وقتئذ، يلبس ثوباً مفتوحاً يلفه بزنار، يلقي عليه معطفاً طويلا( بردسون)، وأنا ألبس ثوباً مسدوداً، عليه (جاكيت) قصير، ما بلغت مبلغ الرجال، تخرجت من الخسروية عام 1942م، وما نبتت لحيتي، ولا طرَّ شاربي تماماً.

وفي السنة الثانية من الخسروية اعتمَّ الشيخ، ولفَّ طربوشه الأحمر بالشاش الأبيض، وتأخَّرت أنا في التعمُّم، حتى السنة الرابعة من المدرسة، حيث ألزم المدير جميع الطلاب بالتَّعمُّم، فكنت لا ترى في المدرسة إلا العمائم البيض على الطرابيش الحمر.

بالنظر إلى سنِّ الشيخ، إذ كان يكبرني – في تقديري – بنحو ست أو ثمان سنوات، كان يتقدَّمني في المجالس والدخول والخروج، والاتصالات العلميَّة بالمشايخ، وحضور حلقات الدروس.

اتخذ غرفة، هي أوسع الغرف في المدرسة المستدامية في محلة البياضة، فكنا نتدارس فيها المقررات العلمية، وخاصة في النحو والصرف والفقه...

كنا مع الشيخ، وكان هو رابع ثلاثة: عبد الوهاب الجذبة، عبد الرحمن الصابوني، والفقير إليه تعالى، فكان الشيخ – باعتبار سنِّه – يقرأ المادة العلميَّة، ويتولى التفسير، كما لو كنَّا تلاميذه، ثم افترقنا، فكان معه في المدرسة عبد الرحمن الصابوني - وهو إنسان آخر غير الصابوني الذي صار عميد الشريعة فيما بعد-، وكنت أنا مع الشيخ عبد الوهاب، حتى انتهت الدراسة على النظام القديم فنجحت أنا -وكنت أول المتخرجين- ونجح الشيخ، ورسب الشيخ عبد الوهاب والشيخ عبد الرحمن...

استطاع الشيخ بصلاته العلميَّة بالمشايخ، أن يعقد صلة قوية بالشيخ محمد جميل العقاد، وكان حديث عهد بالتخرج من الأزهر الشريف، والعودة من مصر، والتفَّ حوله الشعب الحلبي، إذ كانت له دروس عامة في المساجد، خاصة الجامع الأموي الكبير، وبانقوسا وقرلق، إلى جانب دروسه في الثانويات في مدارس المعارف. 

وكان له شعر يلقيه في المناسبات، وله نكتٌ ظريفة يضحك حاضري دروسه...

فمن شعره قوله:

يا فلسطين اطمئني = إنَّ جيش العرب لجب

جزء سوريا الجنوبي = غير هذا الاسم كذب

وكان الشيخ يصحبه جماعات وزرافات... كان يحفظ القرآن والحديث، ويملي على تلاميذه الحديث، وكان الشيخ من ألصق التلاميذ والطلاب بالشيخ العقاد، فاستطاع أن يقنعه بعقد حلقة درس في الفقه، لي وله فقط، في جامع البرهمية، في الجلوم، قرأ لنا فيها كتاب "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" للشرنبلالي الحنفي، بعد صلاة العشاء في أيام معينة من الأسبوع.

كان الشيخ العقاد يحدثنا عن الأزهر وعلمائه ونهضته الحديثة، وكلياته الثلاث، ممَّا حبَّبه إلينا وألقى في رُوعنا -ونحن في السنوات الأولى من طلب العلم في المدرسة الخسروية- التفكير في استكمال الدراسة في مصر، فإلى الشيخ العقاد يرجع الفضل في دراستنا الجامعية في الأزهر، والرحيل عن سورية في طلب العلم.

ثم استطاع الشيخ أبو زاهد -رحمه الله تعالى- أن يقنع الشيخ إبراهيم السلقيني -رحمه الله تعالى-وهو جد الشيخ إبراهيم الأخ العالم الكبير والأخ الوفي، وعميد كلية حديثة في الإمارات.

استطاع أن يقنعه بأن يدرسني أنا وهو فقط، كتاب "الأزهرية في النحو"، وحاشية الشيخ خالد الأزهري على الأزهرية.

فكنا نحضر عليه هذا الكتاب، في أيام معيَّنة، في مدرسة للشيخ في باب المقام، بعد العصر؛ والأستاذ الشيخ إبراهيم قد جاوز الثمانين، واحدودب ظهره، وسالت دموع مآقيه، وشفَّ جسمه، ورقَّ عظمه، يقرأ علينا الأزهرية، في علم العربية، ودرسه: نصفه في النحو، ونصفه في التصوف والموعظة، والتذكير بالآخرة، ورقابة الله تعالى، والبكاء، والاعتراف بالتقصير في حقوق المولى سبحانه وتعالى.

وربما حضر معنا الدرس -في أيام رمضان، وكان في الشتاء، والدرس بعد العصر -حفيدا الشيخ الصغيران (إبراهيم وعبد الله) جاثيَيْن على الركب، لابسَيْن ثياباً داكنة، خاشعَيْن خاضعَيْن للجد، العالم الوقور، الذي لا يعرف الفضول، ولا يفتر ثغره عن ابتسامة.

كما استطاع الشيخ الإمام أن يضمَّنا إلى حلقة درس الشيخ محمد الرشيد (مفتي الجامع الكبير) فكنا نقرأ عليه -رحمه الله تعالى -حاشية ابن عابدين، في الحجازية، من الجامع الكبير، ومعنا الشيخ (باسم عجم). 

ولما توفي الشيخ محمد الرشيد بعد ذلك- وبعد عودتنا من مصر -في الخمسينيات؛ رثاه كلانا بعد مواراته في مقبرة الصالحين، وكان يحبنا حبًّا جمًّا، ويعلق علينا آمالاً كباراً ...يرحمه الله...

كان من أجلّ شيوخنا: الأستاذ الشيخ أحمد الكردي، أمين الفتوى، ثم مفتي حلب، رحمه الله تعالى، وكان يؤثرنا على جميع الطلاب، في الخسروية، وفي الإسماعيلية؛ إذ كنا نقرأ عليه أيضاً "الدر المختار" للحصكفي، وكان يقول للطلاب: إذا نجح أحد من طلابي، فلا ينجح إلا فلان وفلان، يعنيني ويعنيه، بأسمائنا، وكان يسمِّي الشيخ أبا زاهد (أبا نواس)؛ إذ كان روح الحلْقة ومصدر حركتها وحيويتها، كما كان صوتها الساري، وصداها المؤنس.

قرأتُ معه على أستاذنا الأجل وأستاذ الجيل: الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء- حفظه الله تعالى وتولاه في الصالحين- في جامع الخير في سويقة حلب، الكتب التالية:

1 – الجامع الصغير للسيوطي.

2 – الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي.

3 – وكتاب الطراز في البلاغة.

4 – كما قرأنا عليه في المدرسة الخسروية مع الجذبة والصابوني فقط؛ إذ كنا نحن حنفيي المذهب كتاب "درر الحكام شرح غرر الأحكام" لمنلا خسرو، وكان الأستاذ الزرقاء فرحاً جداً بقراءة الكتاب كله لأول مرة في هذه المدرسة، وكان يشكرنا لإعانته على إتمامه في الدراسة.

وكان يقرؤه على طلاب الحنفية والده قبله: الشيخ أحمد الزرقاء -رحمه الله تعالى -ولم يتمه، ولم ندركه نحن كلانا؛ لأنه توفي قبل انتقالنا إلى السنة الرابعة في المدرسة الخسروية، إذ كان يُبدأ فيها بتدريس هذا الكتاب القديم القيم... ولنا تعليقات عليه من الشيخ الزرقاء، ومقدمات لكل باب، تتناول موضوعه وهيكله العام، وحكمته التشريعيَّة، وعمل المحاكم أحياناً، واتجاه القانون السوري، وبعض التقنينات العربية المعاصرة.

وإذا اعتذر الأستاذ الزرقاء عن الدرس، أداها بالنيابة عنه الشيخ محمد الملاح -رحمه الله تعالى -وكان قد قرأ "حاشية ابن عابدين" على والد الأستاذ الزرقاء؛ وهو يتمتَّع بعقليَّة فقهيَّة حنفيَّة عجيبة، وله -إذا حضر معنا الدرس- مناقشات لطيفة، ومحاجَّات عميقة، للأستاذ الزرقاء.

كان همُّ الشيخ رحمه الله تعالى في فترة الدراسة الخسروية، منصرفاً إلى جمع الكتب، وتحصيل العلم، وصحبة المشايخ، وكان يصحب الأستاذ الزرقاء، ويتولاه ويؤْنسه أكثر من غيره... إذ كان الشيخ أكبرنا سنًّا، وكان الأستاذ الزرقاء أصغر أساتذتنا سنًّا، فكان له تلميذاً، وكان كالصاحب والصديق له... كانا متقاربَين في المظهر والطول، والفكر والمقصد...

لما أنهينا الدراسة في المدرسة الخسروية، وتخرجنا منها سنة 1942 سويَّة، التقطت لفرقتنا -ولم تبلغ عشرين طالباً- صورة تذكارية، كلنا ذوي عمائم، وكان فينا- فيما أذكر- هؤلاء المشايخ: حسن المكتبي، علي الخطيب، موسى الزيادي، فياض الحسن، صالح الرفاعي، محمد البكار، حسن الرزوق.

المشايخ الواقفون من يمين الناظر: علي الجيني، صالح الرفاعي، فوزي فيض الله، رشيد عساف، الشيخ فياض الأسود (من المسلمية).

المشايخ الجالسون من يمين الناظر: حسن مكتبي، عبدالفتاح أبو غدة، حسن رزوق، عبدالله خطيب (من كفرنبل)، محمد البكار، موسى الزيادي، رحمهم الله تعالى. 

طلاب الدفعة السابعة عشرة : ( 1362هـ - 1942م).

وتقدَّمت أنا والشيخ عبد الفتاح بطلب انتساب إلى كلية الشريعة في الجامع الأزهر، وكان بتحريض وتوجيه من أستاذنا وصاحب الفضل علينا الشيخ محمد جميل العقاد رحمه الله تعالى، وقد نبَّهنا إلى أن قبول الطلب قد يتأخَّر سنة أو أكثر، ونصح لنا بالعمل وعدم الانقطاع عن العلم.

فتقدمت لمسابقة في اختيار أئمة في الأوقاف، وعملت معلماً في المدرسة الفاروقية، ثم في المدرسة الخالدية، ومدير الأولى: نجيب الجبل، ومدير الثانية: طه العنجريني... وكان يدرّس معي في الخالدية في الصفوف الثانوية الأستاذ الأديب الكاتب: خليل الهنداوي، وأنا في الصفوف الابتدائية، ومعي فيها: فاضل كرزون، وفريد الأسود.

وكان علينا أن نصحب شهادتنا من الخسروية إلى الأزهر؛ لإثبات دراستنا الدينية والعربية بما يعادل الدراسة للثانوية.

فقمت أنا والشيخ بالتقاط صورة لنا، فردية؛ لإلصاقها على شهادة المدرسة الخسروية، لأنها كالشهادة الثانوية (البكالوريا)، وتعورف على إلصاق كل طالب صورته على شهادته، فتصورت أنا كما كنت في السنوات الأخيرة في الخسروية، بعمَّتي وبدلتي، ووافق الشيخ عبد الفتاح على لبس البدلة، وربطة العنق، والعمة مع الطربوش؛ لالتقاط صورته، ولصقها على شهادته من المدرسة الخسروية، وأهداني صورته، كما أهديته صورتي، تذكرة لدراستنا الدينية والعربية في المدرسة الخسروية، ووقَّع جميع مشايخ الخسروية على الشهادة حسب العادة، والمدير الطباخ على صورنا أيضاً.

وتأخَّر قبولنا في الجامع الأزهر أكثر من سنة... وجاءت المقادير بقبولي طالباً في كلية الشريعة، قبل قبول طلب الشيخ عبد الفتاح بشهور، وأنفقت هذه الفترة في استكمال حفظ القرآن، فحفظت نصفه في الصيف.

فسارعت إلى مصر مسافراً في البر، إلى بيروت ثم حيفا، ثم القاهرة في شباط عام 1944م، حيث كسبت السنة الأولى من الكلية، ولم أحضر إلا شهراً وبعض شهر، وكان العميد يرفض قبول امتحاني آخر العام؛ لولا تدخل الشيخ عيسى منون (شيخ رواق الشوام في الجامع الأزهر، وشيخ كلية أصول الدين وكلية الشريعة فيما بعد) الذي ضمن لي التقدم للامتحان، وأوصاني بالاجتهاد، بعد أن أخفقتْ جميع الوساطات لقبول امتحاني آخر العام، لعدم حضوري النسبة المطلوبة من المحاضرات.

وكان من نعم الله عليَّ أن نجحت في الدور الأول، من السنة الأولى إلى الثانية بتفوق، وكان ترتيبي الأول بين الناجحين، وعددهم ثمانون أو يزيدون، وكان ذلك أيضاً بفضل حفظ القرآن كله، وهو شرط كل امتحان يتقدَّم إليه أي طالب أزهري في سائر مراحل التعليم الأزهري، وله ثلاثون درجة في كل سنة.

ورجعت إلى سورية في صيف عام 1944 للاصطياف، ولقيت الشيخ عبد الفتاح، وحدَّثته بما جرى من الأحداث... وانتقالي إلى السنة الثانية في شريعة الأزهر...

فرح لي بذلك، وأعلمني أنه قُبل طلب انتسابه إلى الأزهر، وأنه سيسبقني إلى الأزهر في مطلع العام الدراسي المقبل، فهنَّأته بذلك...

قابلها وصححها وأعدها للنشر : مجد مكي

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين