العلامة الإمام المحدث الشيخ محمد المكي الكتاني رضي الله عنه

 

رئيس رابطة العلماء ومفتي المذهب المالكي في سورية وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة

ولادته ونشأته 

أبصر السيد محمد المكي الكتاني النور في مدينة فاس المغربية في يوم عيد المولد النبوي الشريف (عام 1312هـ الموافق 1894م ) حيث نشأ في بيت والده شيخ الإسلام الإمام المحدث سيدي محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني بيت العترة النبوية الطاهرة بيت العلم والعمل والإخلاص والاهتمام بالقضايا العربية والإسلامية وكان محاطا بالعناية الإلهية التي ألبسته لباس التقوى والورع ومحبة العلم والعلماء منذ نعومة أظفاره حيث بدا دراسته في كتاتيب فاس بحفظ القرآن الكريم فأتم حفظه وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره على يد عدد من العلماء الحفاظ إذ كان يتردد على مجالس العلم والعلماء والفقهاء والمحدثين إلى أن التحق بجامع القرويين والذي أصبح جامعة فيما بعد وهي من أقدم واعرق الجامعات الإسلامية فقرأ فيه العلوم الإسلامية من لغة وفقه وحديث وعلوم القرآن والأصول والتصوف، كما شرع في حفظ المتون وكثيرا من الأحاديث النبوية وكتب الحديث والمصطلح على يد كبار علماء عصره وعلى رأسهم والده المحدث الأكبر والفقيه الصوفي الأشهر الإمام سيدي محمد بن جعفر الكتاني صاحب التآليف الشهيرة والتصانيف الفريدة والتي من أهمها وأشهرها كتاب الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة وكتاب نظم المتناثر من الحديث المتواتر وغيرها الكثير إذ تجاوزت مؤلفاته الستون كتابا والتي لا مجال لذكرها هنا، كما اخذ العديد من العلوم والإجازات عن عدد من علماء المغرب الآخرين. 

الهجرة إلى المدينة المنورة

عندما بدأ المستعمرون الفرنسيون والاسبان باحتلال بعض شواطئ المغرب وثغوره على البحر المتوسط والأطلسي شعر والده الإمام سيدي محمد بن جعفر بأن الوضع خطير وأن هنالك مؤامرة استعمارية كبرى لاحتلال المغرب، وأن المستعمر على أبواب احتلال المغرب بأكمله، في مؤامرة لا قبل للمغاربة بها، ورفضِ سلطان المغرب في حينه خطة الإصلاح التي وضعها سيدي الجد في كتابه النصيحة، رغم المناشدات التي قدمها للسلطان بعد اجتماعه به مراراً داعياً إياه لأمور أهمها: رفض تعليمات الفرنسيين وتشكيل جيش وطني للدفاع عن المغرب والمغاربة، مما دفع سيدي محمد بن جعفر لقرار الهجرة إلى المدينة المنورة فراراً بدينه، مع باقي أفراد الأسرة قصد المجاورة الشريفة، فهاجر للحجاز إلى المدينة المنورة، وباشر بتدريس كتب الحديث النبوي الشريف كالموطأ ومسند الإمام أحمد وصحيح البخاري في الحرمين الشريفين مكة والمدينة المنورة

 

 

الهجرة الأولى لبلاد الشام 

في أواخر الحرب العالمية الأولى وتحت ضغوط الفتن التي حلت بالحجاز وأهله، حيث فُقِدَ الأمن وعمت الفوضى مما اضطرهم للرحيل فرحلوا إلى دمشق الشام لما ورد من الأحاديث النبوية بفضل الشام وأهلها، حيث تابع سيدي المكي تلقي علومه على يد كبار علمائها وعلى رأسهم المحدث الإمام الشيخ بدر الدين بن يوسف البيباني الحسني الذي اخذ عنه علمي الدراية والرواية وقسطا من العلوم الكونية كالفلسفة والإلهيات، كما اخذ عن العلامة الشيخ أمين سويد وعن العلامة الشيخ توفيق الأيوبي وعن غيرهم من كبار علماء الشام في حينه، كل ذلك مع التزامه الشديد بدروس والده وأحواله، وأخذ عن والده سيدي محمد بن جعفر الكثير من العلوم والفوائد والخصوصيات والفرائد، وقد أجازه إجازة عامة شاملة بإجازاته كلها بالمعقول والمنقول والأسماء والصفات والأصول والطرق والأسانيد والمسلسلات والمرويات والفرائد، وعندما شعر والده سيدي محمد بن جعفر بدنو أجله قرر العودة بأسرته كاملة للمغرب فعاد الجميع ومعهم سيدي المكي لفاس وبعيد وصولهم للمغرب بوقت قصير وفي عام 1345هـ 1927 توفي سيدي محمد بن جعفر الكتاني رضوان الله عليه. 

هجرته الثانية لدمشق الشام واستقراره فيها

بعد وفاة والده شعر سيدي المكي بضيق شديد وضاقت عليه الأرض بما رحبت حزنا على فراق والده، فاستشار واستخار، ثم وبعد عدة استشارات واستخارات، حزم أمره وقرر العودة بأسرته الصغيرة لدمشق الشام التي كان يحبها ويشعر بالراحة والطمأنينة بها، لذلك قرر اتخاذها موطنا دائما له ولأولاده وعائلته، حيث تابع فور عودته إليها، ما كان بدأه بحياة والده بها من اهتمام بالقضايا العامة والإسلامية وشؤون العلم والعلماء وتابع التدريس في عدد من مساجد دمشق المختلفة فدرّس بالشيخ محي الدين وبالأموي وجامع تنكز وجامع السنجقدار وجامع مازي بالميدان وفي دوره ودور تلاميذه وأحبابه وفي جميع المحافل والآجتماعات وأينما وجد الفرصة مناسبة لذلك، كما تابع التواصل والحوار مع كبار علماء بلاد الشام ووجهائها ومفكريها طالبا منهم تجاوز الخلافات وداعيا إلى التآخي والتضامن ووحدة الصف والكلمة، 

أدبه وأخلاقه وسيرته

امتاز سيدي المكي بالاستقامة والكرم والنشاط والحيوية والحياء والأدب الجم والذوق الرفيع مع الصغير والكبير والأمير والأجير والعمل الدؤوب في التحصيل العلمي وعدم إضاعة الوقت إلا في العمل المثمر، فنشأ في مروءة وتقوى لا يعرف للراحة سبيلا فهو إما في محراب العلم دارسا أو مدرّسا وإما في عمل جهادي أو اجتماعي أوطني أو إصلاحي هادف، إذ كان يتمثل أخلاق النبي الكريم والسيرة النبوية العطرة في كل أحواله وأفعاله وأقواله، من حلم وشجاعة وتواضع وكرم وصلة رحم وإصلاح ذات البين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ومحبة واحترام الصالحين والعلماء وآل البيت ودعمهم ماديا واجتماعيا، ومن قواعده التي بنى عليها أمره الحب في الله والبغض في الله، ومن صفاته رضي الله عنه أنه كان شديد البر بوالده كأعظم ما يكون البر، ومن بروره بوالده أنه كان لا يخالف له أمرا ولا يحد فيه بصرا ولا يرفع صوته في حضرته، وكان دائم الخدمة لضيوف والده، وكان ساعيا للخير والصلح، يحب الخير وأهله والمنتسبين إليهم، ويحب الأشراف ويحترمهم ويكرم الجميع، وكان رحمه الله يرحب بالصغير والكبير والفقير قبل الغني والدراويش قبل الوجهاء والأمراء، يحب أهل العلم وطلبته ويفرح بلقائهم لا بل كان يحب الآمة كلها ويهتم بشؤونها العامة والخاصة أكثر من اهتمامه بأهله وأبنائه وشؤونه الخاصة، وكان أغلب كلامه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم العربية التي كانت لا تكاد تفارق شفتيه، ولا أظنني أذيع سرا إذا ما أخبرتكم أن أكثر من أربعين بالمائة من الأحاديث التي أوردتها في كتابي صفوة الأحاديث النبوية الشريفة سبق وحفظناها على يدي سيدي الوالد، موائده عامرة وبابه مفتوح دائما للصغير والكبير والقريب والغريب، وخصوصا في رمضان حيث يقصد مائدة إفطاره اليومية المشهورة العديد من أحبابه ومريديه فهي مفتوحة ( ولا تزال بفضل الله) ومنذ أكثر من تسعين سنة لكل من قصدها، وأغلبهم من الفقراء والمساكين، وكان يقول لأهله وأولاده (إن الضيف يأتي برزقه ويذهب بذنوب أهل البيت) وكان كثيرا ما يردد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (صدقة السر تطفئ غضب الرب وصنائع المعروف تقي مصارع السوء) وكان يحض على إطعام الطعام وكان يقدم الطعام لضيوفه في وقت الطعام وغيره، 

وكانت مجالسه مجالس هيبة وعلم وذكر ومذاكرة وإنشاد وإرشاد وتراجم للعلماء والصالحين من السلف الصالح ونكت ونوادر أدبية رائعة في جلسة تجمع بين روحه الجمالية وهيبته الجلالية، وكان كثيرا ما يقول لأبنائه (إن شرف الانتماء للعترة الطاهرة لا يعني أبدا التميز عن الخلق والتعالي عليهم، بل هو شرف خدمتهم وخدمة العلماء والصلحاء)، وكان رضي الله عنه عطوفا على أبنائه وأقاربه رحيما بهم واصلا لهم يبدؤهم الزيارة والإكرام في العيدين ورمضان وغيرهما من المناسبات الإسلامية، 

- نشاطاته العلمية والسياسية والجهادية

على ضوء تعدد رحلاته وهجراته والدروس واللقاءات والتلقي عن كبار علماء ووجهاء ومفكري البلاد الإسلامية التي زارها في المغرب والجزائر ومصر والحجاز والشام و وتركيا والهند وغيرها من الدول الإسلامية تحفه العناية الإلهية والهمة العالية والدأب التام في الدراسة والتحصيل والإخلاص لله ولرسوله في كل أحواله، وقد أتاه الله فهما مميزا لكلام أقطاب الصوفية وقدرة قل نظيرها في شرح هذا الكلام وإيضاحه، يتضح ذلك من الدروس التي كان يلقيها في منزله وفي مساجد دمشق الشهيرة ويحضرها الصفوة المختارة من العلماء وطلبة العلم، واستمراره بنشاطه العلمي والإصلاحي، وقيامه باستقطاب حركات الشباب المسلم وزعماء الأحياء وتوجيههم الوجهة الدينية الصحيحة، وبعد فترة وجيزة من استقراره بدمشق الشام أصبح السيد محمد المكي موئلا للعلم والعلماء يلجؤون إليه طالبين النصح والإرشاد لحل معضلاتهم العلمية ومشاكلهم الخاصة والعامة، مما جعله مرجعا مهما للعلماء والوجهاء والزعماء ونشاطاتهم واجتماعاتهم وجهادهم ضد المستعمرين، هذا وقد ساهم مساهمة فعالة في الجهاد ضد القوات الفرنسية الغازية والتحذير منها ومن عملائها من الأحزاب والشخصيات الإلحادية، داعيا إلى الإعداد والجهاد ومساهما فيه مع إخوانه من الزعماء الوطنيين أمثال الشيخ محمد الأشمر والحاج شريف آل رشي وأبو ياسين الكردي الذين كانا من خلص أحبابه وغيرهم من زعماء الثوار الوطنيين المؤمنين، إذ كان مرجل نار وثورة متأججة متنقلة في أحياء دمشق والمحافظات يقيم الدنيا على المستعمرين ويؤلب عليهم الثوار ويشترك فعليا في الجهاد فكثيرا ما كنت تراه راكبا فرسه وبندقيته في يده مدربا تلاميذه وأبناءه على اقتناء وركوب الخيل، وكان دائما ما يحث تلاميذه وأحبابه على الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وطرد المستعمر الغاصب عن كل أقطار الإسلام، باذلا لهم من جهده وماله ودمه، كما ساهم رضي الله عنه بإنشاء فرقة فدائية فلسطينية أسماها (شباب فلسطين) من بعض تلاميذه وأحبابه الذين تكاثروا في بلاد الشام من فلسطينيين وأردنيين وسوريين وذلك من عام 1936م، وكان مدركا إدراكا كاملا لخطورة الهجمة الصهيونية الصليبية والاستعمارية على حياة ومستقبل الأمة العربية والإسلامية مما دعاه لمضاعفة دعمه للمجاهدين في فلسطين ماديا ومعنويا حيث أسس لهذا الغرض عددا من الجمعيات والمنتديات الفكرية والتي كان منها شباب محمد ورابطة شباب دمشق بهدف الإصلاح الديني ومكافحة قوى الاستعمار والإلحاد حيث أصبح منزله قبلة للمواطنين المناضلين والعلماء والمثقفين المخلصين ...

أنشطته الفكرية والدينية والإجتماعية 

استطاع بإخلاصه وتفانيه في خدمة القضايا الدينية والوطنية أن يعزز مكانة العلماء ويزيد من تأثيرهم الفكري والاجتماعي والسياسي، كما ساهم في تأسيس ودعم عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية والإسلامية كالجمعية الغراء وجمعية الهداية الإسلامية وجمعية توسيع مسجد الشيخ محي الدين بن عربي وغيرها من لجان المساجد الكبرى. 

ونظراً لمكانته العلمية الرائدة التي تحدثنا عنها وبعيد استقلال سورية بفترة وجيزة، اختاره رئيس الجمهورية لمنصب مفتي المالكية فيها بالإضافة لمهامه العلمية والفكرية الأخرى، 

وقد قام ضمن حلقة من حلقات اهتمامه بالقضايا العربية والإسلامية والوطنية بالمساهمة مع غيره من كبار علماء سورية بتأسيس رابطة العلماء، عام 1946م وقد اختير فيها نائبا للرئيس العلامة الشيخ أبو الخير الميداني ثم رئيسا للرابطة سنة 1960 إلى أن انتقل للرفيق الأعلى هذه الرابطة التي كانت تضم في عضويتها خيرة العلماء العاملين المخلصين في سورية، وانضم للرابطة بعض علماء بلاد الشام الكبرى من فلسطين والأردن ولبنان، فكانت من أهم التجمعات الدينية والفكرية تأثيرا في مجريات الأحداث الاجتماعية والسياسية خصوصا على الانتخابات النيابية السورية إذ كانت الرابطة تهتم بشؤون الانتخابات وتدعو المواطنين في بيانات تصدر قبل الانتخابات إلى انتخاب المرشحين المؤمنين والبعد عن الملحدين واللادينيين وأعوانهم، لذلك كله كان مرشحوا الرابطة هم الأوفر حظا في المقاعد النيابية مما دعا إحدى الصحف السورية وبعد أول انتخابات ديموقراطية حقيقية بعد الاستقلال عام 1947م لتسمية سيدي المكي ( صاحب السبحة التي ربحت الانتخابات ) وذلك بعد أن فاز مرشحوا الرابطة ومؤيدوها بنسبة جيدة من مقاعد المجلس النيابي السوري، وقد أصبحت رابطة العلماء السورية مثالا يحتذى في باقي الدول العربية والإسلامية، 

وكان من المنادين والمتحمسين للوحدة العربية توطئة برأيه للوحدة الإسلامية الكبرى ولذلك دعم بكل ما أوتي من قوة قيام الوحدة السورية المصرية وقيام الجمهورية العربية المتحدة، وتحققت الوحدة وهي حلم كل عربي مخلص لعروبته وإسلامه.. إلا أن عبد الناصر الذي وعد الإمام الكتاني ووفد رابطة العلماء خلال زيارتهم للقاهرة قبيل الوحدة بدعوة منه بالعمل بالشورى والديمقراطية ووفق مقاصد الشريعة الإسلامية، وتجديد أمجاد خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، إلا أنه وبعد أن استتب له الأمر في دمشق قلب لهم ظهر المجن وأحاط نفسه ببطانة بوليسية مخابراتية، بدلا من الاعتماد على الأحزاب والشخصيات الوطنية المؤمنة ذات الشعبية العريضة، عوضا عن إقامة دولة المؤسسات الديمقراطية سارع إلى إلغاء الأحزاب والجمعيات وكم أفواه المفكرين والمصلحين وحل الأحزاب الوطنية كلها، ومارس مسرحيات انتخابية أوصلت للبرلمان أتباعه ومؤيديه، فخابت آمال معظم السوريين بالوحدة، وأصبحت الوحدة شبحاً مرعباً بعد أن كانت حلماً وطنياً مميزاً ..مما دعا العلماء وعلى رأسهم رابطة العلماء بوجود رئيسها الإمام الميداني والإمام الكتاني والشيخ الطنطاوي وكبار العلماء، لتنظيم تجمعات شعبية أسبوعية في مساجد دمشق لانتقاد الحكم وبيان مساوئه بالطرق السلمية والديمقراطية، وقد أصبحت هذه الاجتماعات محط أنظار الشعب السوري ومتنفسه الوحيد، وقد طافت هذه المجالس على أهم مساجد دمشق وجوامعها، وبدأت الحكومات البوليسية بمحاربتها ومضايقة منظميها وقادتها، وازدادت النقمة الشعبية على النظام البوليسي المخابراتي بازدياد الظلم والقمع العسكري لكل مخالف، مما أدى لتمزيق عرى الوحدة، 

نشاطاته واهتماماته المغاربية

على الرغم من انشغاله بمشاكل المشرق العربي والعمل لما فيه مصلحة العرب والمسلمين فيه، إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين اهتمامه بقضايا وطنه الأم المغرب العربي، فقد كانت داره ملتقى المجاهدين والثوار والزعماء والطلاب المغاربة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. مما دفعه لتأسيس جبهة تحرير المغرب العربي لدعم جهاد إخوانه المغاربة ولتقديم العون المادي والسياسي والأدبي للمجاهدين المغاربة في كل من الجزائر والمغرب وتونس وذلك بالمشاركة الفعالة مع عدد من الزعامات السورية الوطنية السياسية والدينية وخصوصاً التي تنحدر من أصول مغاربية، كالأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر والشيخ محمد الهاشمي الجزائري والشيخ زين التونسي والشيخ أحمد التلمساني والأمير الحسن والأمير أنيس من أحفاد الأمير عبد القادر، وبعض المفكرين والعلماء والوجهاء السوريين فكان دارته تغص بالوافدين من علماء وزعماء المجاهدين في سوريا والمغرب، فقد استضاف غير ما مرة الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي والزعيم علال الفاسي والحسن الوزاني من المغرب واحمد بن بيلا وعباس فرحات وهواري بومدين والشيخ البشير الإبراهيمي من الجزائر والحبيب بورقيبة والشيخ بن عاشور وغيرهم من تونس والمجاهد العلامة السيد أحمد السنوسي والشيخ بشير السعداوي من ليبيا وذلك خلال فترة كفاحهم الوطني لنيل الاستقلال وأقام لهم المؤتمرات والمهرجانات لدعم حركاتهم الوطنية سياسيا وماليا، هذا وكان منزله ولا يزال بيت المغاربة في المشرق طلبة علم وزائرين وقد أكد هذا المعنى جلالة الملك الحسن الثاني بقوله له أثناء استقباله له (إنني اعتبركم السفير الدائم للمغرب في المشرق)ِ وذلك خلال زيارة فضيلته للمغرب بدعوة من جلالة الملك الحسن الثاني عام 1962م حيث استقبل استقبالا رسميا وشعبيا في كافة المدن والمناطق التي زارها حيث كان يستقبله أمراء المناطق وحكامها على أبواب مدنهم ومناطقهم وحيث أصبح حديث الصحف والإذاعة والتلفزة طيلة زيارته للمملكة كما استقبله جلالة الملك عدة مرات خلال هذه الزيارة وكان أن قابله بإحدى هذه الزيارات بقوله ( إنني أعلم المكانة السامية التي تتمتعون بها في قلب كل عربي ومسلم نتيجة كفاحكم المتواصل لخدمة الإسلام والمسلمين ولا أدل على ذلك من أن جميع الحكومات المتعاقبة على الحكم في سورية تطلب نصحكم وإرشادكم ) . هذا وقد حث علماء المغرب على تأسيس رابطة للعلماء فيها ولم يغادر المغرب حتى جمع أغلب علمائه تحت رايتها إثر مؤتمر عقدوه بمدينة فاس بمشاركته التوفيقية والفعالة.

رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة

- كما كان من أشد المتحمسين والداعين لتأسيس رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وكان عضوا مؤسساً بمجلسها التأسيسي الأول وهي الرابطة التي أنشئت في موسم حج عام 1385-1965 وجمعت كبار علماء ومفكري العالم الإسلامي ورؤساء الروابط وجمعيات العلماء في أغلب الدول الإسلامية، ومن أهم أهدافها العمل على توثيق عرى الأخوة بين المسلمين وتضامن الشعوب والدول الإسلامية بكافة الوسائل والطرق ودعم روح التعاون 

هذا وقد زار عدداً من ملوك ورؤساء وعلماء الدول العربية والإسلامية كما استقبل عددا منهم في أماكن إقاماته على رأس وفود رابطة العلماء ناصحا ومرشدا مهنئا ومعزيا وداعيا بالحكمة والموعظة الحسنة لما فيه خير الإسلام والمسلمين، نذكر منهم الملك عبد العزيز آل سعود الذي قال لجلسائه مرة ( لو أن في العالم الإسلامي عدة علماء من أمثال الشيخ الكتاني لكنا في خير عميم ) كما زار الملك سعود والملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين عاهل الأردن والرئيس الجزائري احمد بن بيلا كما لبى دعوة جلالة الملك الحسن الثاني لزيارة المغرب للمرة الثانية عام 1391 -1971م وكان بمعيته أنجاله الشيخ الفاتح والأستاذ عمر والدكتورعبد القادر، وحيث استقبل استقبالات رسمية وشعبية في كافة المدن المغربية وقد استقبله جلالة الملك عدة مرات 

تأسيس الميثاق الوطني السوري سنة 1962

هذا وقام بعد عودته من المغرب مباشرة عام 1962 بدعوة عدد من زعماء الهيئات والأحزاب والقوى السياسية الوطنية السورية لاجتماع هام عقد بدارته العامرة بدمشق وذلك بهدف لم شمل التيارات والأحزاب الوطنية،

مما أسفر عن تشكيل جبهة وطنية عريضة للأحزاب والهيئات الوطنية صاحبة النفوذ القوي في الشارع السوري مما أسهم في وحدة كلمة هذه الأحزاب والقوى الوطنية المعتدلة ورص صفوف المواطنين للوقوف بوجه القوى الاستعمارية والصهيونية التي كانت تحيك المؤامرات للنيل من صمود سورية بوجه القوى الاستعمارية، وقد أعد هذا التجمع ميثاقا للعمل الوطني خلال عدة أشهر من العمل الدؤوب أكد على ضرورة وحدة الصف والكلمة وتجنب الخلافات التي تؤذي الوطن والمواطن وضرورة العودة للنظام الديمقراطي الحقيقي لدعم جبهة القوى الوطنية، مما دعا الصحافة العربية لاعتباره أهم تجمع وطني سوري في وقته، ومن أشهر الشخصيات التي شاركت في هذا التجمع بالإضافة لسماحة السيد المكي الكتاني الرؤساء شكري القوتلي وناظم القدسي ومن رؤساء الوزراء الأساتذة صبري العسلي وخالد العظم والدكتور معروف ألدواليبي ومن العلماء فضيلة الشيخ عبد الكريم الرفاعي وفضيلة الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الزعبي وفضيلة الأستاذ محمد المنتصر الكتاني وغالبية علماء الرابطة وشبابها ومن الوزراء الأساتذة محمد المبارك ومصطفى الزرقاء ورشيد الدقر وأحمد مظهر العظمة وفؤاد العادل ورشاد جبري ورياض العابد وسهيل فارس الخوري وغيرهم كثير بالإضافة لعدد من رجال الأعمال والصناعيين والوجهاء منهم رئيس غرفة التجارة والصناعة الأستاذ هاني الجلاد وعثمان النوري وصفوح بابيل وبشير العوف وقد طالب العديد غيرهم من رجالات سورية الانضمام لهذا التجمع، وخلاصة القول أن غالبية الزعماء والسياسيين والمفكرين والوجهاء الوطنيين المؤمنين المعتدلين كانوا ممثلين في هذا التجمع الوطني الكبير الذي يمثل أغلب التيارات الحزبية والسياسية الوطنية في سورية إلا أن الأحداث والمؤامرات أوقفت هذا المشروع الوطني العملاق، فقام اليساريون واللادينيون بحركة 8 آذار الانقلابية المشؤومة سنة 1963 وحيث سيطرت الحركات والأحزاب الطائفية والعلمانية اليسارية على مقاليد الحكم وحيث قامت هذه الحركة بإلغاء الدستور واعتقال رئيس الجمهورية والوزراء وعدد من الزعماء والوجهاء وقامت أيضاً بعزله مدنياً وسياسياً ومعه كبار زعامات سورية الوطنية والدينية والسياسية، وفرضوا على فضيلة الشيخ المكي الكتاني الإقامة الجبرية في منزله الصيفي بالزبداني، مما اضطره لاعتزال العمل السياسي والتفرغ للعمل العلمي والدعوة إلى الله تعالى فقط إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى عام 1973م حيث شيعته الجماهير المؤمنة بالتهليل والتكبير بما يقارب النصف مليون مشيع يتقدمهم كبار الزعماء والعلماء والوزراء والسفراء والوجهاء حيث أقيمت صلاة الجنازة على جثمانه الطاهر في المسجد الأموي والساحات المحيطة به التي غصت على سعتها بالمصلين الذين وصلت بوادرهم لمقبرة العائلة بالباب الصغير ولا يزال المسجد عامراً ببقاياهم، وقد ووري الثرى بمقبرة الأشراف آل البيت الكتاني هناك، وقد أقيمت صلاة الغائب على روحه الشريفة بالمشرق والمغرب في عدد من المدن العربية والإسلامية، وبقيت المآذن السورية والمغربية تبث القران الكريم ذلك اليوم على روحه الطاهرة،

وقد تنافس كبار علماء سورية على تأبينه بعد الصلاة عليه وعقب مواراته الثرى، وقد وصفه العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في ترجمته فقال (كان شيخنا السيد الشريف الجليل الشيخ مكي الكتاني ـ رحمه الله تعالى ـ في دمشق: مجمع الفضائل، وملتقى الأكابر والأماثل، وموئل العلماء في النوائب، ومقصد الفضلاء في درء المصائب، وريحانة الشام وعلمائها، ومرجع الناس في بلائها وضرَّائها، ولما غاب بدره لم يبزغ بعده هلال".)

وقال فضيلة الشيخ حسين خطاب متحدثا باسم شيخه العلامة الشيخ حسن حبنكة (إن العالم الإسلامي قد فقد عالما جليلا وصوفيا كبيرا وحبرا من أحبار الإسلام ومجاهدا من مجاهدي السلف الصالح ورجلا وهب حياته لمرضاة الله عز وجل فهو لا يفتر عن الإرشاد والتوجيه والذكر والعبادة والعلم والتعليم، وإنها لخسارة كبيرة لا تعوض خسرها المسلمون بوفاة فقيدنا الراحل رضي الله عنه، كيف لا وهو رئيس رابطة العلماء في القطر السوري فلقد كان ملجأ للمسلمين إذا ادلهم الخطب وعبست الأيام واشتدت المحن والأرزاء على هذه الأمة، ولقد كان والله ركنا ركينا قويا وجبلا راسخا في العلم والعمل وسياسة الأمور ذا بصيرة نفاذة في فهم الحوادث وبالجملة كان رضي الله عنه أمة في رجل، لا يخشى في الله لومة لائم وقد صدق فيه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا تسد) ) 

، هذا وأقيمت مجالس العزاء والتأبين في كل من دمشق والرباط وجدة والمدينة المنورة ومما قيل في تأبينه في حفل حاشد مهيب أقيم بالرباط بالمغرب حضره كبار العلماء والوزراء والسفراء والمفكرين وتداول فيه الكلام صفوة الحضور ومنهم رئيس رابطة علماء المغرب والأديب والشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الأميري الذي أنقل ما جاء بكلمته باختصار شديد حيث قال (تشرفت بلقاء السيد الكتاني في مؤتمر للعلماء عقد عام 1937 فكان من أركان المؤتمر المرموقين.. إذ كان لا يفتر عن الإسهام في كل عمل إسلامي عام.. لا يعرف اليأس ولا التشاؤم.. كان رحمه الله قليل الكلام.. رحب الابتسام لا يكاد يعبس إلا إذا رأى منكرا.. خاشع العبادة.. كريم الوفادة.. مسارعا إلى صلة الأرحام وبر المساكين.. مع سلامة فطرته وإشراق طيبوبته.. عميق التفكير.. يسأل ويستشير ويستخير، يكرم بدون تكلف ويصبر ولا يتأفف وهو دائما على يقين بأن الخير فيما اختاره الله ...وبهذا ألبسه الله ثوب الوقار وأشاع ذكره ورفع قدره بين علماء عصره.. وفيه يتمثل قوله تعالى 

(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة لا تبديل لكلمات الله،) وقد قال عنه أحد كبار مترجميه من العلماء ما نصه (لقد كان علما خفاقا في العلم والجهاد والوطنية.. فيه نفحة من أخلاق الأنبياء وطهرهم وكثير من صفاتهم وقد نذر حياته وعلمه وماله لخدمة الإسلام والمسلمين، وبصريح العبارة فقد كان وارثاً محمدياً كاملاً) 

وقد رثاه الشاعر المغربي الشهير حمداتي ماء العينين نائب رئيس البرلمان المغربي السابق في قصيدة طويلة نقتطع منها قوله:

طلَعت شموسُ علومِه في مغربٍ=غرُبت أشعة نورها بالشام

عجباً غروب الشمس في شرق غد=أيسير هذا الكون دون نظام

إلى أن قال

ولقد ورثتَ من الرسول شمائلا=بَذلُ العلوم وغايةُ الإقدامِ

وكذا الجهاد لمحو كلِ ضَلالة=وروافدُ الإلحادِ والأوهامِ

أبناؤه وتلاميذه

وِقد خلف رحمه الله سبعة من الأبناء الذكور وسبعة من الإناث وعدد لا يحصى من التلاميذ والأتباع يتقدمهم كبار علماء بلاد الشام والمغرب والحجاز وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وأنجاله الكرام البررة بترتيب سنهم هم فضيلة المربي العلامة الشيخ محمد الفاتح و(المرحوم المربي فضيلة العلامة الشيخ تاج الدين والمرحوم الأديب الأستاذ محمد عمر الذي عاد للمغرب، والمرحوم المهندس محمد خالد الذي كان مهندساً بالحرم المدني الشريف)، رحمهم الله جميعاً

والباحث الدكتور المهندس عبد القادرالكتاني صاحب كتاب صفوة الأحاديث النبوية الشريفة وكتاب أشهر أعلام الفكر الإسلامي، ورئيس قسم وأستاذ الدراسات الإسلامية العليا والتخصصية بجامعة الفتح الإسلامي بسوريا سابقاً ورئيس مركز الحكمة للدراسات العربية والإسلامية، والذي عاد للمغرب مع بداية الثورة، للإسهام بالتدريس في الكليات والمجالس العلمية والندوات، والدكتور الجراح الداعية عبد الله والمهندس الداعية محمد علي ولكل من أنجاله الكرام اهتماماته الوطنية والعربية والإسلامية ونشاطاته العلمية والفكرية والاجتماعية وأحبابه وطلبته إضافة لأعماله ومشاغله الخاصة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين