القاضي المستشار يوسف جانكيه

ودعت مدينة حلب علماً من أعلام الصلاح والاستقامة القاضي المستشار يوسف جانكيه الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الإثنين12 صفر 1442 الموافق 2020/09/28 . كان رحمه الله تعالى محمود السيرة عرف عنه نزاهة اليد وسداد الراي ورجاحة العقل وسعة الاطلاع.

 كان رحمه الله واسع الثقافة ومتبحراً في علوم الفقه. لم تمر به ساعة من يوم إلا وكان يمضيها في قراءة القرآن الكريم أو في قراءة في كتاب.

ولد الفقيد عام 1931 في حي القصيلة في مدينة حلب وكان الأخ الوحيدلأربع بنات. و كان رحمه الله حسن الهيئة بهي الطلعة,  كان لوالده دكاناً لبيع الألبان والأجبان والسمن و ماشابه في سوق القصيلة في حلب.

دخل في صغره كتاتيب تعليم القرآن الكريم فتعلم قراءة القرآن على يد الشيخ عبدو قناية رحمة الله. ختم قراءة القرآن الكريم في عمر 8- 9 سنوات وأقيمت حفلة بهذه المناسبة ويذكر الفقيد أنه أثناء الحفل الخاص بالخريجين لمن أتم القراءة جرى قصف جوي مجهول المصدر لطائرات فرنسية أو إنكليزية لبعض المواقع فانفض الحفل مبكراً إثر سقوط قذائف انتشر على إثرها رئحة غريبة.

من الذكريات التي لا ينساها هي رؤيا كان قد رآها في صغره, أنه بينما كان يلعب مع اولاد الحارة في الساحة رأى حصاناً أبيض جميلاً وعلى ظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم هرع إليه فمسح رسول الله بيده الشريفة على رأسه وسلمه كيساً أبيضاً كبيراً ليحمله على ظهره ويمشي به إلى البيت فرحاَ بتلك الأعطية الشريفة. قص هذه الرؤيا على والده الذي اصطحبه الى شيخ معروف ليحدثه عنها، فما كان من الشيخ إلا أن بكى من شدة التأثر بتلك الرؤيا الصالحة وبشر أباه بالخير الذي سيصيب ابنه يوسف و بشرف الأمانة التي حملها إياه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكما جرت العادة عند السوريين كان الفقيد يعمل في العطل الصيفية فتعلم كتابة الدوبيا( مسك دفاتر الحسابات ) عند أقاربه من آل القضيماتي. 

بعد اجتيازه رحمه الله لصف العاشر بدأ في التدريس في قرية الدانا التي تبعد حوالي 40 كم غرب مدينة حلب واستمر في التدريس في الدانا لمدة سنتين وبعد البكالوريا درس في حلب في مدرسة خالد بن الوليد في منطقة جب أسد الله.  وفي عام 1954 تقريباً و نظرا لخبرته في المحاسبة والتدريس عمل في (ثانوية الغزالي) المعهد العربي الإسلامي سابقاً ( التي كان يديرها الأستاذ عادل كنعان) كمدرس براتب عشرين ليرة سورية ثم أنيطت له وظيفة أمين السر وأمين الصندوق بالإضافة إلى التدريس هذا بالإضافة الى الدراسة في كلية الحقوق والتي أعفت طلابها من الدوام لاحقاً.

  وفي عام 1958 سجل الفقيد كمحام متدرب في مكتب الأستاذ عبد القادر سبسبي ثم في مكتب الأستاذ أسعد جلب رحمهم الله تعالى. استمر الفقيد رحمه الله في عمله كمحام متدرب بالإضافة إلى التدريس في ثانوية الغزالي لمدة ثلاثة سنوات بعدها سجل كمحام أستاذ وافتتح مكتبه الخاص في جادة الخندق.

 و في عام 1958 وبواسطة زوجة الأستاذ محمد حموي رحمه الله تعالى تزوج من المربية الفاضلة عريفة صباهي ورزق منها بصبي واحد وسبع من البنات أولاد. كتب فيهم رحمه الله قصيدة جاء في مطلعها:

حـــياكــم اللـه مــن أهل ومــن ولــــد=ووقاكم ضير الردى وقالة الحسد

وبارك فيكم وروداً زاهياتٍ=شـــذا عــــطرها يدعـــو إلى الرغـــد

رباكــم الله أســـوياء على عينــه=فبورك فيكم يا أفــــخر الولــــد

أُمّكُــــمْ قــــُدوةُ الطّــهارةِ والحِجا=طابَتْ أصولُها جـــدوداً و جُــدَدِ

داوَمَتْ وظيفــتَها طَـــهَتْ أكْلَتَها=أرضَعَتْ طِفلتَها دونَمـــا رَقــــَــدِ

إذا ماشاهدتَها نَهاراً وجدتها=دوّامةَ عملٍ وبذلٍ في كـــــبَدِ

جــــــزاكِ اللّهُ خـــيراً ومَغــْفــِرةً=وأمدّ في عُمرِكِ مدىٰ السّرمَدِ

ترك المحاماة وانتسب إلى القضاء بعد حادثة اتضح له فيها فيما بعد أنه كان وكيلاً للدفاع عن الجاني المذنب بدون علم منه وكان قد قبض منه الدفعة الأولى، وحين علم أن وكيله مذنباً ما كان منه إلا أن اعتذر عن متابعة الدعوى واستدان من أصدقائه المبلغ الذي استلمه سابقاً من المدعى عليه  ورده إليه بالكامل. 

في بداية  تعيينه في سلك القضاء عين قاضياً في المالكية أقصى الشمال الشرقي لسوريا ويروي أن الفسيفساء السورية  تختصر في تلك المناطق فتجد السني والشيعي والآشوري والكلداني والكردي و اليزيدي.  تدرج الفقيد في سلك القضاء والنيابة والقضاء الشرعي والاستئناف أما أطول المدد فكانت في القضاء العمالي والقضاء الشرعي.

ومن المحطات المميزة في حياته القضائية رحمه الله أنه في عام 1973 تم نقل كامل الهيئة القضائية التي يعمل معها من مدينة حلب إلى مدينة إدلب لتحل محل الهيئة القضائية الجنائية التي اعتدي عليها بإطلاق النار عليها في قاعة المحكمة إذ نجح  أحد أقارب الجناة بإدخال سلاح ناري (مسدس) إلى قاعة المحكمة و أطلق النار على الهيئة القضائية وذلك احتجاجاً على الحكم فتم تغيير الهيئة القضائية حفاظاً على سلامتها واستبدلت بالهيئة البديلة التي فيها فقيدنا فكانت جلسات المحاكمات بعد هذه الحادثة يشوبها التوتر والحذر  وكل حركة من الحضور تلتفت إليها الأعين بريبة وحذر خاصة أنها كانت محكمة جنايات وأحكامها ليست بالسهلة.

 عرف عنه رحمه الله حبه الشديد لفعل الخير و تفانيه في ذلك فكانت حياته رحمه الله رحلة في عمل الخير و رعاية الأيتام وكان بيت جده لأبيه الحاج يوسف عامراً بالأيتام يرعاهم ويكفلهم. وفي عام 1960 ساعد في إشهار جمعية التعليم ومحو الأمية. كما كان عضواً في الجمعية الخيرية الإسلامية. ثم أكرمه الله تعالى بترأس الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1970-1980 المسؤولة عن دار الأيتام وكانت ترعى في دارها الكائن بجوار مدرسة حطين مايزيد عن الثلاثمائة وخمسين يتيماً. و كان فضل الله عليه عظيماً إذ كتب له القبول الحسن أينما حل. وفقه الله تعالى بقيادة حملة علاقات عامة كبيرة ساهمت في رفع مستوى الجمعية الخيرية الإسلامية  فنمت مواردها وتسابق أهل الخير في تبرعاتهم لرعاية الأيتام وتأمين حياة كريمة لهم. وسن رحمه الله سنة الإفطار الرمضاني الخيري حيث يتكفل أحد المحسنين بإقامة إفطار جماعي للأيتام على نفقته الخاصة و يأتي المحسن شخصياً لحضور طعام الإفطار مع الأيتام ليشاركهم صالة الطعام  و يجلس على مائدتهم ليأكل من أكلهم ويشرب من شربهم وسط دعوات الأيتام للمحسن بالخير والبركة. فتركت تلك البادرة أطيب الأثر في نفوس المحسنين وشجعتهم على الاستمرار في فعل الخير. ثم تطور الإفطار الرمضاني الخيري ليصبح باقي أيام السنه.     

أدت حملة العلاقات العامة التي قادها رحمه الله إلى إكساب الجمعية وزناً معنوياً مما ساهم في تيسير أعمالها المتعددة والمتنامية فقد تعددت زيارات محافظ حلب آنئذ أستاذ شتيوي سيفو الذي كان له أثر طيب في تجاوز العديد من العقبات  لدى الدوائر الرسمية ولا بد من الإشارة إلى مجهودات الشيخ محمد الشامي رحمه الله في هذا الصدد حيث الكلمة الطيبة البليغة الآسرة. كما زارها  المطران كبوشي بعد فك أسره و زارها من قطر احد كبار المسؤولين في وازرة الأوقاف القطريه وزارها فضيلة الشيخ الأستاذ يوسف القرضاوي وذلك بمعية الأستاذ عادل كنعان وسليمان الستاوي رحمهم الله

تطورت أعمال وأساليب الجمعية الخيرية الإسلامية في رعاية الأيتام فقد تجاوزت رعايتها من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية و الثانوية والصناعية و قامت الجمعية ببناء مدرسة عبد المنعم رياض في شارع الملك فيصل واستغلت الأدوار العلوية لطلبة الإعدادي والصناعة وأجرت الأدوار السفلية إلى وزارة التربية (مدرسة عبد المنعم رياض) . وكان يقوم على إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية الشيخ الفاضل طاهر خير الله رحمه الله وكان يتولى إدارة دار الأيتام الأستاذ يوسف صقال رحمه الله فكانت نعم الكوكبة الصالحة.

كما أكرمه الله تعالى أثناء رئاسته للجمعية الخيرية الإسلامية بانتخابه رئيساً لاتحاد الجمعيات الخيريه في حلب والتي كانت تضم الجمعيات الخيرية لجميع الطوائف. 

 استمر رحمه الله برئاسة الجمعية حتى مغادرته إلى الكويت عام 1980 وبعد عودته من الكويت في 2001 استلم رئاسة الجمعية لعدة سنوات أدخل فيها مفهوماُ جديداً في كفالة اليتيم استقاه من الكويت حيث يتم كفالة اليتيم في بيته حتى لا يحرم حنان أمه.

في عام 1980 انتقل إلى العمل في الكويت. بمساعي صديقه الأستاذ المستشار محمود مادون الأسعد رحمه الله حيث فوضه بتقديم طلب إلى رئيس المحكمة الكلية في الكويت فبادر الأستاذ محمود مادون الأسعد رحمه الله إلى تقديم طلبه وزكاه مع الأستاذ المستشار طلحة الخوجة رحمه الله.

شاء الله أن يجتمع في الكويت مع العديد من الأحبة من قامات العلم الشرعي فكانت لهم السهرات الدورية التي يتخللها الكثير من النقاشات العلمية الفقهية التي كانت تضفي روحاً ومتعة لا يدانيها متعة مع وجود علماء أفذاذ يمثلون مشارب عدة مثل د. محمد رواس قلعجي رحمه الله، د. أحمد حجي الكردي, د. محمد أبو الفتح البيانوني.

تدرج فقيدنا رحمه الله في سلك القضاء الكويتي إلى مستشار في محكمة الاستئناف حتى بلغ سن التقاعد في عام 2001  ويبدو في الصورة أثناء القسم أمام أمير الكويت المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله.

بعد التقاعد غادر الكويت إلى حلب رغم العروض التي تلقاها للبقاء في الكويت.

 وبمناسبة مغادرته الكويت كتب الأستاذ الشاعر محمد عبد الله قولي:

ياملتــــقى الأحباب حبك جامع =سر مشى بين القلوب يقــــرب

ماودعــــوك على الحقـــيقة إنما=جـــــاؤوا لتــهـــنئة الإياب ورحــــبوا

فلـــئن رجــعت إلى الـربوع حبيبة=فلأنت في أرض الكويت محبب

سيظل ذكرك في النفوس يشدها=مشـــتاقـة كــي تلــتقـيك تـوثـب.

كان رحمه الله يحمل إكباراً خاصاً للكويت وقضائها المستقل عن أي سلطة أو تدخلات.

شاء الله أن يكون رحيل الفقيد بعد يومين فقط من انتقال صديقه وحبيبه الأستاذ المستشار محمود مادون الأسعد إلى رحمة الله إن شاء الله.

إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا مايرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون طيب الله ثراك و عطر ذكراك. طبت حياً وطبت ميتاً و عزاؤنا أن ما عند الله خير وأبقى وإلى الملتقى عند ملك غفور رحيم إن شاء الله. و صل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين