شذا العطر في ذكر مواقف مع شيخنا العلامة المحدث الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على النور المبين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فهذه ورقات قليلة؛ أذكر فيها بعض المواقف مع شيخنا العلامة المحدث المفسر المحقق المدقق التقي الزاهد بقية السلف الصالح المربي الأستاذ الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى، أكتبها بقلم التلميذ عرفاناً بجميل وفضل أستاذه وشيخه عليه، أكتبها بقلم المحب الذي ما زالت روحه تشتاق لسكنها العقلي والروحي، فيؤلمه البعاد وتسليه الذكريات فيتعلل بالصبر راغبا في الأجر.

إنَّ هذه الورقات ليست ترجمة لشيخنا حفظه الله وإن كانت تأخذ بعض معالمها، وإنما هي مواقف عشتها كما عاش مثلها كثير من طلاب شيخنا، فكان لها الأثر العميق في رسم شخصيتنا العلمية والتربوية، وما زلنا ننعم ببركتها؛ فكانت دليلا على منهجه في التربية والتعليم. وأنموذجاً راقياً لي ولأمثالي من طلاب العلم، نتعلم منها كيف يكون سلوك العامل الرباني المربي المخلص في التعليم والتربية.

وإنني إذ أكتبها فإنما أكتبها عرفانا بفضله عليّ أولاً، ثم شكراً له امتثالاً لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ  قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِيهِ، فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» الحديث، وفي رواية: مَنْ أَوْلَى مَعْرُوفًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ خَيْرًا إِلاَّ الثَّنَاءَ، فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» الحديث (1)، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(2). 

إنَّ أولى الناس بالشكر ورثة الأنبياء العدول الذين يحملون هم الإسلام فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ويبنون للأمة رجالاً يعمرون الإنسانية ويتصدون للمفسدين، ولعل من الوفاء بحقهم تكريمهم وإجلالهم في حياتهم وبيان قدرهم أمام الناس.

كما بينت في هذه الورقات توصيف شيخنا بما رأيته وأحسبه، ولا أبالغ في القول إن قلت لو عرف الناس قدر هذا الجبل الراسخ لحملوه على الرؤوس وما تركوه يمشي على الأرض إكراما له.

فشيخنا من عائلة مباركة مشهود لها بالعلم والصلاح والتقى، لها أياد بيضاء على طلبة العلم في حلب خصوصا وفي عموم بلاد الشام وفي غيرها، سواء بالتدريس المباشر أم بالتأليف.

فهو سليل عائلة مباركة ذات نسب نبوي من جهة أبيه وأمه، تربى ونشأ على حب العلم وتشرب التقوى والعبادة سلوكاً وممارسة.

إيمانه وإخلاصه رحمه الله تعالى:

إن تجليات الإيمان في أحوال شيخنا كان لها الأثر الكبير على جلاسه، فإن اليقين الذي يعيشه العالم مع ربه حضورا وشهوداً، ليس كاليقين الذي يعيشه العالم حفظاً لصفات ربه ولا أثر لهذا الحفظ في حياته، وإن شيخنا ليملك من الإيمان واليقين بربه ما يجعله رابط الجأش حازم الرأي في المواقف الحرجة، راضيا بقضاء الله مسلماً أمره لله، وتجلى ذلك منه في وفاة خاله وعمه الإمام المحدث الحافظ المفسر الشيخ عبد الله سراج الدين، وفي وفاة ولده الأكبر الطبيب الحاذق مجاهد رحمه الله، ومن يعرف تعلق شيخنا بالشيخ عبد الله سراج الدين، وماذا يعني فقد الولد يدرك قيمة الموقف الذي عاشه شيخنا حفظه الله من التسليم بقضاء الله وقدره ومتابعته مع ذلك لترتيب أمور الدفن والتعزية وتنظيم شؤون العائلة ويقظته لكل شاردة وواردة.

ثم يتجلى إيمانه بعلو همته – وعلو الهمة من الإيمان - وحرصه على نشر العلم وخدمة السنة مع كبر سنه وتزايد أوجاع المرض الذي عاناه لسنوات، فلم يفتر شيخنا عن مجالس العلم ومجالسة طلابه ومجالس سماع الحديث وإحياء سنن المصطفى.

إلا أن أعظم دلائل الإيمان الصادق: الإخلاص لله تعالى، وكانت معالم الإخلاص عند شيختا مشهودة في حرصه على أداء واجبه بما يرضي الله، وتحري قبوله من الله تعالى، فلم يكن يأبه بالدنيا ولا بالشهرة... ولم يسعَ إلى إرضاء بشر مهما علت مكانته على حساب دينه وهيئته العلمية، بل كان ينأى بنفسه عن أي موطن قد تزلُّ فيه قدمه نحو الدنيا أو الأعمال التي تضيع وقته وتهلك منفعته، فلم يحرص على حضور حفلات خاصة أو عامة أو رسمية يبرز فيها إلا إن كان له مقصد شرعي أو علمي أو دعوي ذو منفعة شرعية غالبة، ولم يسع إلى منصب ينتفع به لدنياه، ولم يقترب من ذي سلطان أو جاه، بل كان بعيداً كل البعد عن ذلك.

و كلما سنحت له الفرصة في تذكير طلابه بالإخلاص يستغلها، ويكون لكلامه الوقع في القلوب، ولحاله الأثر البليغ في طلابه، ومما أحفظه من كلامه حفظه الله (ينبغي على طالب العلم أن يكون مهتما بقبول عمله من الله، لا تنظروا للدنيا وتهتموا لشأنها فإنكم إن أخلصتم لله في طلب العلم فسيأتيكم الله بها راغمة تحت أقدامكم شئتم أم أبيتم فلا تهتموا لأمور الدنيا والمعاش وأخلصوا لله في طلب العلم).

ومما أوصاني به من الدعاء وأخبرني بأنه يدعو به أيضاً وكنت في جلسة خاصة معه (اللهم إني أسألك الإخلاص لي ولأهلي في كل لمحة وطرفة عين).

ولعل من أهم آثار الإخلاص ما يتركه كلامه من أثر في النفس ووقع على القلب حتى إنك لتشعر برقة في قلبك ونشوة في روحك تحلق في ملكوت الله معه، هذا المعنى ليس خاصاً بي، بل سمعته من كثير من طلاب شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء .

ومن أهم دلالات إخلاصه: تعظيمه لكتاب الله وبيان معانية فهو جزاه الله عنا خير الجزاء يسير على سنن السلف الصالح في تعظيم كلام الله تعالى والوقوف عند حدود بيانه وفق الأصول العلمية والضوابط الشرعية، وكان يحثنا على التقيد بها ، فهو شديد الرأي في أن التفسير لا يتكلم به إلا من امتلك أدواته وتأهل له، ويحذر من الخوض في كتاب الله لمن لم يمتلك أدوات المفسر، إذ يقول في كتابه علوم القرآن:

(فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات:

إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم، وهؤلاء قالوا في التفسير برأيهم مع التوقي والتحفظ، والهيبة والخوف من الهجوم، فنحن أولى منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم.

الثانية [أي من طبقات الناس]: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم، فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه، وسبيله أن يأخذ تفسيراً يدرسه بمراجعة العلماء.

الثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض، فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه، لأن الأصل عدم العلم، فعندما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال، وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين، ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل)ا.هـ

حاله مع القرآن:

كما أنه شديد التأثر بكلام الله وترى أثر ذلك عند استفاضته في بيانه والغوص في أعماقه فيستخرج الدر الثمين من المعاني التي تقع في القلب موقعا عظيماً، وأذكر أني لما انتهيت من رسالتي الدكتوراه(3) في تفسير سورة النحل وبيان الدلائل الكونية فيها؛ سألني - وكنت في بيته في دمشق – عن السورة التي تشبه سورة النحل في ذكر الدلائل الكونية، فأجبته: سورة الأنعام إذ بالكاد تفرق بينها وبين سورة النحل في المحور والمقصد والآيات، فسكت هنيهة متفكرا، ثم تورد وجهه وأراد أن يتكلم وهو يحبس دمعته، ثم قال بصوت متقطع فيه حشرجة وغصة: (إنها سورة عظيمة جمعت دلائل عظمة الله وتوحيده ونهت أشد النهي عن التقول على الله تعالى)، ثم بدأ يتلوا من آيات الأنعام ويستعرضها لتكون شاهدا على كلامه، ولكنه لما قرأ قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)﴾[الأنعام].. كان يقرأها وهو يبكي متأثرا ولا أخفي أني بقيت أياما كثيرة متأثرا بهذا الموقف تنتابني القشعريرة والجلالة كلما أذكره.

تواضعه رحمه الله تعالى:

ومن دلائل الإخلاص: التواضع، وهذا طبع إيماني في شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء ، فكنا لما نزوره في بيته مع بعض طلاب العلم يجالسنا ويباسطنا وكأنه واحد منا، مع ما نحمله في قلوبنا من المهابة له، وأذكر في أول زيارة له مع بعض أخواني من طلبة العلم في بيته بدمشق، استقبلنا، وأجسلنا في غرفة الضيوق، ثم دخل بيته لبعض شأنه؛ فلما رجع وقفنا احتراما له، فنظر إلينا وقال - مع ابتسامة جميلة- : (أكلما دخلت إليكم ستقومون، "الشغلة طويلة" ، لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، لا يصح تصرفكم هذا، الأعاجم كانت كلما خرج ملكهم قاموا وإذا دخل قاموا وقد ورد نهي عن هذا)، فالتزمنا.

كان تواضعه جزاه الله عنا خير الجزاء يزيده مهابة لما حباه الله من الجلال، فكان بذلك على قدم النبي صلى الله عليه وسلم، من رآه هابه، ومن جالسه أحبه.

لم يكن يرضى أن يقبل أحد من الطلاب يده، وكان يقول عندما نصر على ذلك وهو يبتسم: (لا تكبرونا فأنا ما زلت شاباً مثلكم).

كما لم يكن يطلب من أحد أن يحمل له حقيبته المنتفخة بالمراجع وابحاث الطلاب، يحملها معه حيثما حل أو ارتحل، وإنما كنا نتبادر لحملها فيأبى ذلك، ويقول صاحب الحاجة أولى بحملها حتى إذا رأى الإصرار منا أعطاها.

حرصه على منفعة الطلاب: 

ومن دلائل إخلاصه: حرصه على منفعة الطلاب واستكمال حقوقهم في الوقت، وتحري الحلال في استحقاق أجرة عمله، فهو جزاه الله عنا خير الجزاء كان ذا حرص شديد على ذلك، ومن ذلك ما شهدته في أثناء الدراسة في مرحلة الماجستير، فقد يضطر للغياب عن المحاضرة إما لمؤتمر أو لعذر قاهر، أو التأخر بعض الوقت بسبب ازدحام الطرقات وأحيانا بسبب السفر، فكان يفطن لهذا ويعوضنا عن الوقت الذاهب إما بامتداد المحاضرة أو بمحاضرات أخرى، بل عندما يجد منا النشاط للمتابعة فإنه يسترسل في العطاء حتى يرى التعب في وجوهنا فيقف، ولا أنس تلك الليالي التي نسهر فيها معه لتصل في بعض الأيام من بعد العصر حتى الحادية عشر ليلاً ما بين مصطلح الحديث والحديث التحليلي والتفسير التحليلي، وقد يفاجئنا كثيرا بأنه أوصى بحلوى وعصير على حسابه يمتعنا بها في أثناء الحاضرة ويروح بها عنا لنتنشط في المتابعة معه.

أدبه في الفتيا:

من معالم منهجه جزاه الله عنا خير الجزاء أنه لا يفتي ولا يجيب السائل وهو في الطريق أو ماشياً، وكثيرا ما كنا نرافقه في بعض أعماله فيسأله السائل وهو يمشي في الطريق فيقول له: لا أعلم، وأحيانا يقول مبتسماً يا بني لا أجيب وأنا في الطريق، فليس هذا من أدب الفتيا.

إلا أنه أيضا كان يحثنا على البحث والمدارسة، فكم كنا نسأله أو يسأله أحد طلاب العلم فيقول له شيخنا: أنت طالب علم ومهمتك البحث، وها هي المكتبة أمامك ابحث عن الجواب ثم تعال نتناقش إن صعب عليك شيء.

سياسته مع طلابه:

من خالط شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء يدرك أنه أمام جبل راسخ في العلم وقامة عالية في التربية والإرشاد، فكان حقيقة عالماً عاملا، يراقب الله في تصرفاته، ويهدف من سلوكه صناعة علماء ربانيين، وكل ذلك كان بحاله قبل كلامه، ومن ذلك:

- أنه كان يعلمنا المحافظة على الأوقات والمواعيد بمحافظته هو عليها، ويظهر تأسفه الشديد لما آل إليه حال طلاب العلم من تهاونهم في شأن الأوقات والالتزام بالمواعيد، واعتبارهم أن قول (إن شاء الله) وسيلة للتهاون بدل أن تكون للجزم والتوكل على الله تعالى، ولحرصه ولمكانة الوقت عنده كان لا يقبل بحثا من طالب أتى به بعد الوقت المحدد له، بل إن بعض الأخوة – وما زلت أذكر هذا الموقف – سافر إليه من دمشق إلى حلب ليسلمه بحثا بعد الموعد المحدد بأسبوع، فاستقبله شيخنا وأكرمه؛ ولكنه رفض أن يستلم منه البحث لأنه تأخر عن الموعد المحدد، فكان درسا عمليا بليغا.

- كما أنه كان يربينا على استغلال الأوقات بالانشغال بالعلم وتحصيله، وكنا نرى ذلك في سلوكه، فقد كانت همته في القراءة والتعليم عالية تعجز عنها همم الشباب، فقد كان لا يقف عن القراءة والبتدقيق العلمي في سفر ولا حض، فتراه يصطحب معه في سفره ما بين دمشق وحلب ذهابا وإيابا كتبا أو أبحاث الطلاب يقرأها ويحكمها أو كان يستغل مجالسته في سفره مع العلماء في المناقشة في قضايا العلم والمعرفة الحديثة وكنا نلاحظ ذلك من خلال ما يسرده لنا مناقشات عديدة مع بعض المفكرين في أثناء السفر.

ومن أبرز المواقف التي أذكرها هنا أنه رضي الله عنه قدم من دمشق إلى حماة وأكرمنا بزيارة في مناسبة خاصة شتاء عام 1425هـ، وكان وصوله عند المغرب، وكنت وقتها ما زلت أ أكتب في رسالة الدكتوراه، وبعد انتهاء المناسبة قبيل منتصف الليل أصر على السفر وكانت وجهته إلى حلب، لأن مرتبط بموعد في صباح اليوم التالي، وهو كما سبق حريص على التزام مواعيده؛ فطلبت مرافقته في رحلته من حماة إلى حلب، فقال لي: أحضر ما كتبته لنراجعه في الطريق، فاندهشت لذلك وخفت من إتعابه، ولكني امتثلت، فكنت أقرأ له في السيارة وهو يسمع، وما زلت أذكر المبحث الذي قرأته: "تعريف الإعجاز العلمي للقرآن"، وبينما كنت أعرض التعريفات المتعددة؛ وصلت إلى تعريفه الذي نقلته من كتابه "فكر المسلم وتحديات الألفية الثالثة" وهو: (موافقة القرآن الكريم أو السنة النبوية لحقائق العلم التجريبي الحديث)، وكان مطأطئ الرأس أحسبه نعساً من التعب؛ فإذ به يرفع رأسه ويقول لي: أهكذا مكتوب في كتابي فكر المسلم؟!، قلت له: نعم يا سيدي، فحصلت مناقشة سريعة في هذا التعريف حول تقييد العلم بالتجريبي، ثم قال لي: (اكتب أني أرجع عن قيد العلم التجريبي، بل يشمل حقائق العلوم كلها التطبيقية والتجريبية وغيرها)، وقد قيدت ذلك وأثبته في رسالتي الدكتوراه في محلها.

فكان هذا من الدروس العملية في استغلال الأوقات والحرص على التحقيق العلمي، ودرس آخر: في أن الشيخ لا يجد غضاضة من الرجوع لما هو أفضل في الرأي العلمي إن اتضحت له الحجة واقتنع بها. 

ولا يفوتني أن أذكر كثرة تنبيهه لنا في أثناء محاضراته في الماجستير بأن طالب العلم في مرحلة التحصيل عليه أن لا يلتفت لغير العلم، وأن يبتعد عن مواطن الانشغال عنه كالولائم والحفلات وكثرة مجالسة عوام الناس حتى لا يصرفونه عن المهم من شؤون العلم.

كما أنه كان حريصا على متابعة أحوال طلابه ومعرفة حالهم المعيشي والتحصيلي ويتفقدهم ولو بالاتصال هاتفياً، بل كان يكرمهم ويعينهم في معيشتهم ماديا دون أن يحرجهم أو يجرحهم بعطائه، والأمثلة على ذلك كثيرة.

كما أنه جزاه الله عنا خير الجزاء كان ينتهج أسلوب المدارسة العلمية بطريقة السؤال والجواب في إيصال الفكرة وترسيخها، وفي نفس الوقت يحرص على تعليمنا كيف نتعامل مع كتب المتقدمين من العلماء، وطريقتهم في التأليف وإيراد الجمل والترجيح، فكان يطلب منا أن نقرأ ونشرح ثم إما أن يقر الشرح أو يقومه، كما كان ينوع لنا في قراءة الكتب لأجل تدريبنا على المقارنة بين المناهج العلمية في المؤلفات، فكنا نقرأ من تفسير أبي السعود؛ فأقرأنا قطعة من تفسير النسفي حتى نميز بين منهج هذا ومنهج هذا في التأليف والإيراد والترجيح والأسلوب...الخ

وأذكر أنه كان يسجل في ورقة خاصة به رموزا لا نفهمها ولعلها كانت كلمات السر لديه في تقيم الطلاب أمامه، وكان هذا التقييم في كل محاضرة معه.

إن لشيخنا الدكتور جزاه الله عنا خير الجزاء أسلوبا في التربية العلمية ومنهجا خاصا وشاقا في البناء العلمي، فقد كان يصنع طلابه على عينه، وكان جهد الشيخ منصب على بناء الملكة العلمية بتقوية الملكة البحثية والدراية المعمقة في قواعد العلم وأصوله، ثم - من خلال متابعته لطلابه - يستكشف ميولهم العلمية الدقيقة ومحل براعتهم فيغذي كل واحد بما يناسبه ويوجهه إليه.

كما أن لشيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء فراسة عجيبة في طلابه، فيصنفهم حسب اجتهادهم وقوتهم العلمية وميولهم ويكلفهم من الأعمال بما يتوافق مع ميولهم، ويحيطهم بعنايته ويعطيهم من وقته ويتابعهم في شؤونهم ولا يتوان في الاتصال بهم هاتفياً أو السؤال عنهم ولو عن طريق أصدقائهم كما فعل معي ومع أخواني من طلاب العلم.

في كل محاضرة أو مجلس علمي أرى له موقفا علميا أو تربويا تجده فيه يحمل أخلاق النبوة وشدة الحرص على شرف العلم، أقف أمامها طويلا لأتعلم منها كيف أتعامل مع طلاب العلم وطلابي الآن.

لقد كان من فراسة شيخنا الدكتور نور الدين استنهاض مهارات طلابه وتوجيهها علمياً، فبعد انتهائي من مناقشة رسالة الماجستير في تحقيق تفسير ابن عادل، ذكر لي رفع الله مقامه أن سر كثيرا بالتعليقات العلمية على التحقيق وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الكونية، ووجهني للكتابة في الإعجاز العلمي في القرآن، وحثني على الدراسة التأصيلية فيه، فكانت رسالة الدكتوراه من بركة توجيهاته رضي الله عنه.

فهو في كل حال ينبهنا بأسلوبه العملي على أن طالب العلم محط أنظار الناس فينبغي أن يلتفت لتصرفاته وأن يلتزم حدود الشرع والعرف كي لا يتكئ الناس على تصرفاته المخالفة فتكون حجة للناس في المخالفة أيضاً.

أذكر أني رافقته من بيته إلى جامعة دمشق، فلما ركبنا سيارة الأجرة وضع حزام الأمان وكانت وزارة الداخلية آنذاك أصدرت بياناً تحث فيه على وضع حزام الأمان، ثم قال: (هذا أمر فيه خير للناس وحفاظا على حياتهم ينبغي أن نشجع الناس عليه عندما يروننا نضعه).

ولكن سأسرد لكم موقفا يكون مثالا على كل ما سبق:

كان مما كلفنا به شيخنا رحمه الله في مقرر الحديث التحليلي في الماجستير أن أعطى لكل طالب بضع أحاديث من كتاب بلوغ المرام وجعل خطة البحث بأن يقوم كل طالب بتخريج الحديث من المصادر التي ذكرها ابن حجر في بلوغ المرام عند تخريج الحديث، ثم يستوعب الطالب تخريج الحديث من مصادر الحديث الأخرى غير التي اعتمد عليها ابن حجر، ثميدرس الطالب الأسانيد إن لم تكن في الصحيحين، ثم تفسير غريب الحديث، ثم ترجمة الراوي، ثم شرح الحديث شرحا مجملاً، ثم شرحه تحليليا، ثم بيان ما يستنبط من الأحاديث، ثم بيان مذاهب العلماء في مسائل الحديث التي دل عليها؛ مع بيان استدلال كل مذهب، وكان نصيبي عشرة أحاديث بفضل الله تعالى، وفي أثناء البحث في دراسة إسناد أحد الأحاديث - وكان إسناده السلسلة المشهورة - (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) وجدت لشيخنا كلاماً في منهج النقد عن هذه السلسلة يبين رأيه فيها حول حكم هذا السند ومرجع الضمير في(أبيه وجده)، فلقيته بعد محاضرة من المحاضرات وأخبرته أنه قد تبين لي خلاف رأيه في مسألة من مسائل هذا الإسناد، فتبسم راضيا ثم قال: إذن ناقش رأيي في ضوء ذلك وبعد أن ينتهي بحثك سأناقشك به .

لا أخفي أني توقفت طويلا أتفكر في هذا الكلام، فشعرت أني تورطت، فاستكثرت في البحث أراجع المسألة بحرص شديد؛ لأن الخطب جلل إذ أني سأعرض على جبل العلم وهو المحقق المدقق، وبعد بحث طويل وأيام بين كتب الجرح والتعديل وكتب الرجال ومقارنة بين الأقوال؛ تبين لي بأن ما رجحه شيخنا كان خلاصة دراسة متعمقة جدا تعتمد على الدراية العملية الدقيقة، فأخبرته بذلك وذكرت له بأن ما قلته لكم سابقا إنما لقصور في البحث لدي، فقال مبتسماً: إذن الحمد لله رب العالمين.

فكنت أذكر هذه الحادثة في كل مناسبة لأخواني طلاب العلم لأبين لهم أن العالم الرباني المربي المخلص يفتح آفاق البحث لطلابه ليكونوا أحراراً في القناعة العلمية ما دامت وفق أصولها، مع الإخلاص في الوصول إلى الحق.

ومن المواقف التي ما زالت راسخة في نفسي ولها أثر كبير؛ أنني أخذت منه موعداً لمراجعة المراحل الأخيرة من رسالتي الماجستير في تحقيق تفسير ابن عادل وكان موعدي الساعة الثامنة صباحاً في بيته في منطقة الإذاعة بحلب، فوصلت البيت قبل الموعد بربع ساعة لعلمي بدقة مواعيد شيخنا وغضبه في عدم الالتزام بها، وهذه كانت من أخلاقه حفظه الله كما تقدم، وفي الثامنة تماماً دخلت إليه وبدأنا في مراجعة الرسالة – وكان قد قرأها - قلبناها في المجلس ورقة ورقة وقلما تخلوا ورقة من تعليق أو إشارة له، ثم دُق باب الغرفة فذهب ثم عاد وبيديه (سفرة) فيها فطور وما زلت أذكره: (جبنة وزيت وزعتر حلبي وشاي ...وهكذا) لا تكليف فيه، فأكلنا وكان من أطيب الأطعمة التي ذقتها في حياتي على بساطتها، ثم بعد الفطور أكملنا مراجعة ومناقشة الرسالة، وقد قاربت الساعة على العاشرة، فرن هاتف بيته، فقام شيخنا ليرد عليه وكان الهاتف في نفس الغرفة التي نجلس فيها، ومن خلال المكالمة فهمت بأن أحد الفضلاء يدعو الشيخ لأمر ما والشيخ اعتذر منه، إلا أن طريقة اعتذار شيخنا كان فيها تربية ودرس، فقد قال للرجل: (اعذرني؛ فإن عندي رجل من أهل العلم ولدينا عمل علمي نقوم به ولا أستطيع تركه)، فتعجبت والتفت حولي فلم أجد غيري عنده، فأدركت حينها أن شيخنا يريد أن يلفت انتباهي إلى أمرين:

أحدهما: مسؤولية حمل العلم، فإن حمل هذه الأمانة تحتاج إلى تضحية وعدم انشغال في أمور يضيع معها الوقت والجهد، وأن أعظم الأعمال هو التفرغ لتربية مختصين.

والأمر الثاني: أراد أن يعلمني التواضع، فأين أنا من مكانته وعلمه، وأين أنا من الوصول إلى أهل العلم، ولكنه أراد أن ينبهني إلى أن الإنسان مهما بلغ من المعرفة والعلم يبقى محتاجاً لأن يتعلم، نعم هذا ما وقع في قلبي.

مواظبته على السنة وحاله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

إن المواقف التربوية والعلمية التي استفدت منها في أثناء ملازمة شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء كثيرة وكثيرة، ولكن من أعظم هذه المواقف: مواقف التربية على محبة النبي الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم ، أما هذه فلا يكتبها القلم بل تكتبها الأنفاس المخلصة المحبة، فحال شيخنا في هذه حال ثقيلة مؤثرة، فلم يكن شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء يستطيع إمساك دمعه عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تنتابه حالة من الخشوع تؤثر على من حوله تأثيرا عجيباً، فلا نقوم من مجلسه إلا وقد ازددنا إيمانا وحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أذكر أنه كان يفسر آية تحويل القبلة من سورة البقرة، فلما ذكر قول أمنا عائشة رضي الله عنها (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) سكت سكوتا حبس فيه أنفاسه ودمعته واحمر وجهه احمراراً أضاء فيه، أما أنا فشعرت أن قلبي يكاد ينخلع من صدري لهذا الحال.

ومثل هذه الأحوال وتسلسل الدموع منه عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وأثره في ذلك على مجالسيه كثيرة عديدة، فحاله كمال قال الشيخ صالح الفرفور رحمه الله:

مهما كتمت لظى شوق يؤرقني ........قد يفضح القلب دمع العين أحيانا

ولذلك كان جزاه الله عنا خير الجزاء حريصا على تعليم طلاب العلم فضائل وخصائص ومكانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم سيكونون ورثته وحملة تركته، بل وكان حريصا على تبسيط سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعامة فألف كتيبا صغيرا في مولده وسيرته صلى الله عليه وسلم وكان يقرأه في مجلس واحد تلهج فيه الأرواح قبل الأنفس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن حرصه على السنة كان يحرص على مجالس السماع للحديث ومواظبته عليها في دمشق وحلب فقد كان له مجلس في جامع الظبيان ثم جامع الشماسي في المهاجرين وكذلك كان له مجلس في حلب حتى لا يخلو سفره من مجلس حديث وعلم.

ولكن لا أدل على شدة التزامه ومحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من التزامه بسنته واتباعه ومن ذلك حرصه على السنن الرواتب فقد كنت أرمقه عندما كنا نصلي معه الفرائض فكان لا يترك سنة راتبة مؤكدة ومستحبة تفوته، ومن ذلك أنه كان يصلي بعد سنة المغرب أربع ركعات، كما أنه إذا فاتته سنة راتبة يقضيها ولا يتركها، وأذكر مرة وبعد جلسة مراجعة لرسالة الدكتوراه انتهينا عند أذان الظهر، فذهبنا للمسجد فأدركنا الإمام وقد دخل بالصلاة، فلم نصل السنة القبلية، فبعد انتهاء الفريضة جماعة مع الإمام، صلينا السنة، وجلست أرقبه، فوجدته رفع الله مقامه صلى أربعا ثم صلى أربعا، فعلمت أنه صلى سنة الظهر البعدية، ثم قضى سنة الظهر القبلية أربع ركعات، وكان مما يقوله لنا (لا ينبغي لعاقل أن يترك سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يعيب على بعض طلاب العلم ممن يتهاون بالسنن الرواتب، ويقول (هل سقطت السنن عنكم).

بركة ملازمته وصحبته:

أما بركة صحبته فهذه من أعظم الفوائد، فهو رضي الله عنه حريص على تعريف طلابه بعلماء زمانهم والاستفادة منهم، فكان يزور أهل العلم والفضل من أقرانه ويأخذ معه بعض طلابه ممن يرتضيهم، فمن هذه البركات التي حفتني: زيارة الإمام المحدث المفسر الفقيه الرباني الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله في بيته، وذلك قبل وفاته رضي الله عنه بقليل، كانت بصحبة محدث دار الحديث الهندية الشيخ سلمان الندوي حفظه الله، الذي قدم إلى بلاد الشام لأجل ذلك، وأكرمني الله تعالى بأن استضفته في بيتي في حماة بوصية من شيخنا الدكتور جزاه الله عنا خير الجزاء ثم انطلقت معه إلى حلب، ولم تكن الزيارة مؤكدة بعد بل لم تتأكد الزيارة إلا عند أذان المغرب بسبب حالة الشيخ عبد الله سراج الدين الصحية، وأعتقد أن هذه الزيارة كانت منحة ربانية لأن الشيخ رحمه الله لم يستقبل أحداً من زمن بعيد مع كثرة الوفود إليه من أقطار العالم، لقد رأيت في هذه الزيارة من شيخنا الدكتور نور الدين رضي الله عنه من الأدب مع الشيخ الحافظ المفسر عبد الله سراج الدين ما لم أره في أحد في مثل مكانته، لقد كانت زيارة فريدة مملوءة بالفوائد العلمية والأحوال الإيمانية لم يتوقف الشيخ الإمام فيها عن الحديث العلمي الذي يتخلله الصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا أخفي أني شعرت ونحن في حضرة الشيخ عبد الله سراج الدين وكأني في روضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كل شيء من حولك في الغرفة يذكرك بالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن فوائد صحبة شيخنا حفظه الله أنه وعدني مرة بزيارة إلى بيتي في حماة، وفي يوم الموعد اتصل بي ليخبرني بأن عالماً من علماء الهند سيأتي حماة، وأنه اتفق معه على اللقاء في بيتي، فأخبرت أهم إخواني من طلاب العلم للحضور في الموعد، وكان من بين الحاضرين الشيخ محمود شيخ صبح أيضاً، فوصل شيخنا النور رضي الله عنه وكان برفقته أخونا الشيخ الدكتور محمود المصري العالم الجهبذ، وكان كثيرا ما أراه يرافق شيخنا في أسفاره الخاصة، وعند قدوم العالم الهندي الفاضل وإذ به المحقق العلامة الفقيه الحنفي والقاضي محمد تقي العثماني حفظ الله، ومعه عائلته، لقد كانت مفاجأة عظيمة أكرمنا الله بها ببركة شيخنا رضي الله عنه، بل إن من بركة هذه الجلسة أن طلب الشيخ محمود شيخ صبح من الشيخ محمد تقي الإجازة لجميع الحاضرين بمروياته وكتبه، فطلب الشيخ العثماني أن يبدأ أولاً شيخنا الدكتور نور الدين بذلك، فبدأ الدكتور بإجازتنا بمروياته وكتبه ثم الشيخ محمد تقي العثماني سلمه الله، ثم الشيخ محمود شيخ صبح، ورأيت بشاشة وفرحا كبيرا على وجوه الجميع وخاصة أخواننا الذين قدموا من حلب مع شيخنا الدكتور نور الدين، ثم أخذني الفاضل الدكتور محمود المصري وانفرد بي قائلاً: إن من إكرام الله لك ومن بركة القدوم إلى هنا هذه الإجازة، فالدكتور نور الدين من المتشددين في الإجازة ولا يجيز أحدا هكذا إجازة؛ فلولا أن الله يحبك لما حصلت). فحمدت الله كثيرا على ما أنعم وفضّل. 

ومن بركة صحبته أيضاً أني أخذت منه موعدا لأعرض عليه مستجدات رسالتي الدكتوراه حول ضوابط الإعجاز العلمي في القرآن وتطبيقاته في سورة النحل، وكان ذلك بداية عملي بالرسالة، ولما وصلت إليه بالموعد المحدد وانتهيت من مقابلته وقارب الظهر على الأذان، أمرني بمرافقته، ونزلت معه أصلي الظهر في المسجد القريب لبيته في حي الإذاعة بحلب العامرة، وبعد صلاة الظهر كانت سيارة تنتظرنا قريب بيته، فلما ركبتها إذ فيها العلامة الفقيه الأصولي مفتي حلب الشهيد الرقيق إبراهيم سلقيني رحمه الله، وكان شيخنا على موعد مسبق معه، وكان هذا أول لقاء لي بالدكتور إبراهيم رحمه الله، وجرت بنا السيارة إلى هدفها وأسمع وأرى من الشيخين من الأدب والتواضع والعلم والاهتمام بحالة الأمة الأمر العجيب رحمهما الله، حتى استقر بنا المقام إلى مزرعة جميلة فيها يتداخل جمال البناء مع جمال الطبيعة، ودخلنا نسلم على الحضور ومن بينهم رجل كبير في السن جليل الهيبة هادئ المنطق وعميق النظرة، كان شيخنا الدكتور نور الدين يقدره ويحترمه أيما احترام، ويدعو له كثيرا وهو يسلم عليه، ويصفه بأستاذنا، وإذ به الأصولي المدقق والفقيه البارع العلامة محمد فوزي فيض الله رحمه الله، ثم دخل المجلس شيخي وأستاذي الدكتور بديع اللحام والدكتور يصحبه الدكتور عماد الدين رشيد قادمين من دمشق، ثم طلب مني شيخنا الدكتور نور الدين رضي الله عنه في أثناء الجلسة أن أعرض على العلامة الدكتور فوزي رحمه الله أهم ما توصلت إليه في البحث الأولي، ودار نقاش حول سير اتجاه الإعجاز العلمي وكنت أسجل الملاحظات.

نعم، من رافق الكبار تعرف على الأكابر، ومن رافق السعداء يسعد في الدنيا والآخرة.

إن ما قام به شيخنا الدكتور نور الدين رضي الله عنه ونفع المسلمين بعلومه من تعريف طلابه على الأركان الراسخة من أهل العلم والفضل لهو ديدن المربين الكمل حتى يرفعوا من همم طلابهم ويتعرفوا على أهل عصرهم وزمانهم ويشهدوا فضلهم ...

حرصه على النهضة العلمية والحضارية والإصلاح الاجتماعي:

لو أردت اختصار الحديث في هذا الجانب فأقول: إن شيخنا العلامة الدكتور نور الدين عتر كان يسعى إلى نهضة علمية تأصيلية، وأعماله وجهوده في تنشيط الدروس العلمية ومجالس الحديث والتفسير في دمشق وحلب، وسعيه في افتتاح كلية الشريعة في حلب، وعنايته بالمناهج العلمية، ودور الحديث..الخ ورعايته لطلاب العلم ونوعية مؤلفاته وعدم فتوره في ذلك؛ كل ذلك يشهد لما قلته.

كما أنه كان لشيخنا رضي الله عنه في بيته معهدا علميا خاصا لمجموعة من أفاضل أهل حلب ومعظمهم من أكاديمي جامعة حلب وأطباء وعلماء يتدرج بهم في منهج علمي أكاديمي في علم الحديث وعلوم القرآن والأصول، وما أن ينتهي من دفعة حتى ينشئ غيرها، ومع ذلك كان يشجع طلاب العلم بأن يتفرغ بعضهم في المساجد للتعليم واستماع مشاكل الشباب خاصة واحتوائهم، لأن الفتن كثيرة ولا يمكن مجابهتها إلا بالإخلاص والعلم. 

وكان يحزن كثيرا عندما يجد أحد طلابه المجتهدين جرفتهم الدعوة إلى الله فالتفت من التحصيل العلمي وانشغل بقضايا العامة من أعراس وحفلات ومآدب؛ يدعى إليها فيلبيها فتضيع أوقاته، فكان ينصحه ولو بطريقة غير مباشرة للعودة إلى التخصص العلمي وأن يترك هذه الأمور لغيره ممن تفرغوا للدعوة.

ولذلك كان يذكرنا جزاه الله عنا خير الجزاء كثيرا في المجالس العلمية بأهمية التفرغ والتخصص العلمي ليتمكن طالب العلم من علم بعينه ويبرع فيه، فيسد ثغرة من الثغور.

كما كان يشجع على التخصص المذهبي، ومن ذلك أنه كان حريصا على إعادة إحياء المذهب الحنبلي في سوريا، ويشجع عليه وما تشجيعه لطلابه في الدراسات العليا في مرحلة الماجستير في التفسير لتحقيق تفسير ابن عادل الحنبلي إلا لإحياء هذا التراث، أملا أن يجد فيه طريقة الحنابلة في استنباط الأحكام من القرآن.

وكان شيخنا يعتبر أسلوب العلماء المتعارف عليه في توجيه الطلاب للتخصص بمذهب معين؛ أفضل في حفظ العلوم وحفظ المذهب، حتى يكون في كل مذهب مرجع يتحاكم إليه فيه ويحقيق مسائله ويحفظ مصطلحاته وقواعده .

كما أن له منهجاً تميز به جزاه الله عنا خير الجزاء في تحقيق الأقوال والمسائل التي فيها نزاع وهو ترك هذه الأقوال والتحاكم إلى الناحية العملية، كمنهجه في تحقيق القول في قول الترمذي حسن صحيح ؛ إذ رجح فيها القول بالدراسة العملية ولم يكتف بإيراد الأقوال، وكان يقول لنا دائما عندما درسنا كتابه منهج النقد: "اتركوا التداول النظري للمسألة ولننظر فيها عمليا فالميدان العلمي هو الفصل في المسائل الخلافية، وبذلك نتعرف منهج الأئمة ونحقق القول".

فشيخنا الدكتور نور الدين مدرسة علمية في التحقيق والتدقيق، فهو امتداد لمدرسة الشيخ أحمد شاكر وعبد السلام هارون، مع ما تميز به شيخنا من الدقة والضبط، فكتبه المحققة لا يقاربها كتاب في قوة التحقيق، وحرصه على النسخ الخطية المتميزة والعالية وأسلوبه في تحقيقها في غاية العناية مع تنوع الأساليب والمصطلحات، كما أنه صاحب فكرة خاصة في النهضة العلمية والحضارية، وكان توجهه فيها نحو تأليف الكتب التي تؤسس وتنشر الوعي، ونحو تأسيس العلماء الذين يحملون هذا الهم والعناية بهم ومتابعتهم .

ولذلك مع عنايته بطلابه في تأصيلهم علمياً كان يشجعهم على متابعة الشبهات والرد عليها ويدربهم عليها، فأذكر مرة أعطاني بحثا وطلب مني أن أدرسه وأسجل له رأيي فيه، وكان هذا البحث حول بناء الأهرامات والاستدلال من القرآن حول طريقة بنائه، فأخبرته بعدما انتهيت من قراءته والتحقق منه أخبرته بأن البحث أقرب للخرافة من الحقيقة العلمية، ويريد أن يؤسس لخرافته من خلال الاستدلال بالقرآن، فسر لذلك وتبسم وهو يهز رأسه، ثم علمت أن مؤلفه ممن ينشط بنشرهذه الأفكار في حلب. 

أسلوبه مع مخالفيه في العلم:

إن منهج شيخنا في النقاش والتأليف والرد منهجا علمياً، وأسلوبه مع المخالف لا يتعدى النقاش العلمي الهادف والجاد في الوصول إلى الصواب، فلم يكن شيخنا يخرج عن حدود أدب الاختلاف في نقاشه مع مخالفيه، وكتبه شاهدة له بذلك، فلا تجد فيها ما يسيء للمخالف كالتهمة بالجهالة والضلالة أو التحقير مع أن بعض مخالفيه من معاصريه كانوا يستخدمون هذا الأسلوب ويحاولون استفزازه في ذلك بل منهم لا يرعوي عن تأليف القصص كذبا وزوراً حوله، بله وصل ببعضهم التحذير من قراءة كتبه وأن فيها ضلالات ومخالفات، وأن الشيخ عقيدته فاسدة....الخ مستدلا على ذلك بنصوص يقتطعها ويوجهها نحو ما يريد.

لقد كان هادئا محافظا على توازنه العلمي رصينا في أجوبته حاضر الحجة، منهجه في الرد هو التحليل العلمي وعرض القضايا على مشرحة البحث العلمي وقواعد أهل العلم، ولقد شهدته في إحدى المحاضرات وقد وقف بعض الشباب المغاربة يلوح بأصبعه ويرفع صوته ويسرد بعض الأقوال ليستدل بها على تخطئة العلماء انتهاء بشيخنا، وكنت أرمق شيخنا فرأيته هادئاً ينتظر هذا الشاب المتحمس حتى ينتهي، فلما انتهى قال له شيخنا: دعك من هذا التلويح وهذا الأسلوب غير اللائق والصراخ وأخبرني عن موقع كلامك في كلام علماء الحديث ...ثم استرسل شيخنا يعلم ذلك الشاب قواعد أهل العلم في القضية المبحوثة بكل هدوء... ليبين له أن العلم ليس بحفظ الأقوال وترهيب المخالف لإسكاته وإنما بحسن فهمها وإنزالها موقعها.

كان شيخنا يدرك خطورة الانجراف وراء الدعوات المجهولة المشوشة مرة باسم السلفية ومرة باسم اللامذهبية ومرة باسم الصوفية، وكان لا يخاف من إظهار الحق الذي يعتقده ويراه ما دام له فيه برهان من الشريعة، كما أنه ثابت فيه ومتوازن في حكمه حفظه الله ويرى المخرج من تداخل الدعوات والدخن الذي غيم على عقول طلبة العلم المبدتئين هو في العلم وتجلية القواعد العلمية، فكان في كل فينة وفينة يستغل مناسبة ما لينكر المنكر في تصرفات بعض مدعي العلم والمشيخة سواء باسم الصوفية أو باسم السلفية، وكم سمعناه ينكر على جهلة المتصوفة وغلاتهم الذين يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون وينكر عليهم مخالفتهم للسنة والشريعة، كما كان أيضا ينكر على غلاة مدعي السلفية خروجهم على جمهور العلماء وترهيب طلاب العلم عند مخالفتهم وحصر العلم في فلان أو علان، كما ينكر على بعض العلماء تسرعهم في الأحكام دون تمحيص كإنكاره على بعض معاصريه طعنه في مسند الإمام أحمد بن حنبل وإنكاره على من يجعل الحديث الضعيف والموضوع في سلة واحدة، وإنكاره على من يطعن في أحاديث سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وله تحقيق بديع في ذلك، وغير ذلك أما طريقة إنكاره فهي إيراد الشبهة والقضية وإيراد حجتهم ثم تحليلها بذكر الأسس التي قامت عليها الدعوى والتحاكم إلى البحث العملي ثم إيراد الأدلة على البطلان ثم تجلية القول الصحيح فيها.

فهذه لمحة عاجلة تضمنت عناوين تسلط الضوء على جوانب مختلفة في شيخنا رضي الله عنه، ولا أدعي فيها الإحاطة ولكن عسى أن أكون قد وفيت بواجبه عليَّ وأسديت شيئا من المعروف والحمد لله رب العالمين.

خاتمة:

ما كتبته سابقاً كان قبل حوالي ثلاث سنوات من كتابة هذه الأسطر القاسية على قلبي وأنا أكتبها، فقد فجع العالم الإسلامي بوفاة شيخنا العلامة شمس المحدثين وإمام المفسرين، وأحد الأعلام المحققين، وقدوة العلماء العاملين، بقية السلف الصالح إمامنا وشيخنا الأستاذ الدكتور نور الدين عتر وذلك صباح الأربعاء 6 صفر 1442هـ، الموافق لـ 26 / 9/ 2020م، عن عمر يناهز الثلاث وثمانين، وكان قد ولد شيخنا رحمه الله عام 1937م، في صفر عام 1357هـ، وقبر في مقبرة الدحداح بدمشق الشام، وقد نعته المجامع والهيئات الرسمية والعلمائية في العالم الإسلامي شرقه وغربي، بل في أوربا وأمريكا وروسيا والهند، وحصل له من التأبين والنعي من أهل العلم والفضل حتى من مخالفيه ما لم يسبق لعالم قبله، وتسابق الشعراء في نعيه وكتابة القصائد فيه، ورؤي في رؤى صالحة بعد ذلك مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ الحديث عليه، وما من تيار إلا وذكره بالفضل والعلم والصلاح والخير، وكأن الله قال لجبريل: يا جبريل إني أحب نور الدين فأحبه، فنادى جبريل في أهل الأرض أن الله يحب نور الدين فأحبه، فكتب الله له القبول في الأرض، وإن دل ذلك فإنه يدل على إخلاصه، وأن منهجه كان منهجاً وسطيا علمياً لا يبتغي به إلا وجه الله، وودليل أيضاً على اتزانه العلمي في التعامل مع جميع التيارات العلمية، وظهر له من الفضل رحمه الله والمناقب بعد وفاته مالم نعلمه الكثير مما كان يخفيه رحمه الله حرصا على الإخلاص، فقد جمع الله لشيخنا من الأوصاف والفضائل ما اجتمع في أئمة التابعين، ومن ذلك ما ذكره الإمام محمد بن سعد في الطبقات في ترجمه الحسن البصري قال محمد بن سعد في الطبقات: كان الحسن رحمه الله جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، ثقة، حجة، مأمونا، عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما.

أقول: وكذلك كان شيخنا في كل وصف مما وصف في الحسن البصري، بل ويستحضرني وأنا أكتب هذه الخاتمة ما ذكره أبو نعيم وفي الحلية قال: حدثنا خالد بن صفوان، قال: لقيت مسلمة بن عبدالملك فقال: يا خالد، أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبهه قولا بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم.

ما سبق في وصف الحسن البصري هو عين صفات شيخنا النور رحمه الله وأعلى مقامه، فلذلك أقول: من خصائص شيخنا النور أن الله جمع له من الصفات ما اجتمع في أئمة التابعين مما لم يجتمع لأحد من أقرانه في عصرنا الحالي.

بل أزيد في القول: إن دمشق خصوصاً، وسوريا عموما لم تشهد عالماً بعد الشيخ الإمام محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني جمع الله فيه من هذه الصفات العلم والحديث والتفسير والعمل والصدق والإخلاص والمحبة والانصراف إلى نهضة الأمة) مثل ما اجتمع في محدث الديار الشامية شيخنا الدكتور نور الدين عتر رحمه الله، فكان حقاً خليفة له، وكأن الله قدر للشام بدرا ونوراً.

فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت شيخا عن طلابه، وارفع مقامه واحشرنا معه تحت لواء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبدل هذه الأمة خلفا له وارثاً صادقا مخلصاً يسد الثغر وينهض بالأمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1). أخرجه عَبْد بن حُمَيْد والبخاري في الأدب المفرد، وأخرجه أبو داود في سننه والترمذي في جامعه بنحوه بلفظ (مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ ، فَلْيَجْزِ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ... الحديث) وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب.

(2) . أخرجه الإمام أ