الأستاذ الدكتور نور الدين عتر العلامة، المحدث، الفقيه، المجّدد كما عرفته

الحمد لله رب العالمين ، العالم العليم ، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين ، ومعلم الناس الخير ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد : 

فإن الإسلام دعا إلى العلم بأوسع أبوابه ، وإن الله تعالى فضّل العلماء على غيرهم ، فقال تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " المجادلة / 11 ، وجاءت أحاديث كثيرة في الدعوة إلى العلم ، وبيان درجة طالب العلم ، وفضل العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وأنهم يحملون رسالة الإسلام ، ويبلغون الدعوة ، ويعلمون الناس الأحكام ، ويرشدونهم إلى الحق والصواب ، وإذا كان الحكام رؤساء على الناس ، فإن العلماء سادة على الحكام والناس ، وتتفوق مكانتهم على جميع الأمة ، ولهم المنزلة الرفيعة في نفوس الأمة جميعاً ، فهم كالنجوم على الأرض .

وإن الله تعالى اختار لنا الإسلام ، وأتمّ لنا الدين ، وتكفل بحفظه إلى قيام الساعة عن طريق العلماء ، ولا يزال هذا الدين غضّاً طريّاً ، وسليماً وصحيحاً ما دام العلماء قائمين عليه ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون " رواه البخاري رقم 6881 ، وقال في حديث آخر : " ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة ، أو حتى يأتي أمر الله " رواه البخاري رقم 6882 ، وذلك عن طريق العلماء ومن يسير في ركبهم .

وهذا ما تأكد طوال أربعة عشر قرناً من التاريخ الإسلامي ، ولا يزال العلماء اليوم ، وحتى تقوم الساعة ، يحملون مشعل النور والخير ، ويحافظون على الدّين والشرع ، ويعلمون الناس الأحكام ، ويدرّسون ، ويكتبون ، ويؤلفون ، وينتجون ، ويجاهدون ، ويثبتون على الصراط المستقيم .

ونحسب من هؤلاء الأخ الفاضل ، والزميل الأثير ، العلامة ، المحدّث ، المجدّد ، المربي ، المدّرس ، الداعية ، الأستاذ الدكتور الشيخ نور الدين عتر متّع الله بعمره وصحته ، وهو ما نريد كتابة هذه الأسطرعنه ،كما عرفته في كلية الشريعة بجامعة دمشق طوال ربع قرن ونيف .

معرفتي به : 

كنت قبل عام سبعين وتسعمائة وألف ميلادية من القرن العشرين بسنة أو سنتين أسير أمام جامعة دمشق ، فوقع نظري على رجل بزي العلماء بالعمة والجبة ، مع حيوية الشباب ، والطلعة البهية ، ويسير بخطا متزنة ، ونظرات ثاقبة ، حتى التقينا في كلية الشريعة ، وعرفت أنه الدكتور نور الدين عتر ، وأنه حصل على الدكتوراه في الحديث الشريف من جامعة الأزهر ، ويرغب بالتدريس في كلية الشريعة ، وأنه تقدّم بطلب للالتحاق بالجامعة ، وعرفت أنه الشقيق الأكبر للزميل الأخ الدكتور حسن عتر الذي عشنا معه أربع سنوات في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، ثم التحق بالأزهر ، وحصل على شهادة الدكتوراه في التفسير ، وصار أستاذاً بمكة المكرمة ، ثم بالمدينة المنورة ، بينما عُيّن الدكتور نور الدين في جامعة دمشق ، ولا يزال يحافظ على زيه في كل مكان ، وفي الحلّ والترحال .

الزمالة في كلية الشريعة : 

انقطعت الصلة مع الدكتور نور الدين بسبب سفري إلى مصر لتحضير الدكتوراه ، حتى عدت عام 1971 م ، وعُيّنت مدرساً في كلية الشريعة بجامعة دمشق لتتم الزمالة مع الدكتور نور الدين في العمل والتدريس حوالي ربع قرن .

وعرفت الدكتور نور الدين مدرساً ناجحاً ، ويُحسن العلاقة مع الزملاء وإدارة الكلية ، وكان محبوباً من طلابه الذين كانوا يحرصون على حضور محاضراته للاستفادة منه ، ولم يرد من أحدهم مراجعة أو شكوى على الدكتور نور الدين في تدريسه ، ومعاملاته ، وفي امتحاناته وتصحيحه ، فكان مدرساً متفوقاً ، ومتميزاً ، وجاداً ، وحريصاً على رفع المستوى العلمي للطلبة والكلية ، مع المحافظة على دقة مواعيد وقت المحاضرات ، وأدائها ، وكثيراً ما يتجمع الطلبة حوله بعد المحاضرة في القاعة ، وردهات الكلية ، وفي مكتبه ، وفي المسجد ، وحتى في الطريق العام .

وترقى الدكتور نور الدين إلى درجة أستاذ مساعد ثم إلى رتبة أستاذ بجدّه ونشاطه ، وبحوثه ، وكتبه ، ومؤلفاته ، وبقي في الكلية حتى الآن بما ينوف عن خمسة وأربعين عاماً في التدريس مع العطاء والإفادة .

وامتاز الدكتور العتر بدماثة الأخلاق ، وطيب المعشر ، وهدوء الطبع ، والتواضع ، فلم أسمعه رفع صوته في محادثة ، أو محاورة ، أو مناقشة ، أو لقاء ، أو اجتماع عادي أو رسمي ، وقلما ينفعل في كلامه ، وأحاديثه ، وهو عفّ اللسان ، فلم نسمع منه كلمة نابية ، ولا نطق بغيبة أو نميمة ، مع حرصه على حرمات الله تعالى ، والغضب إذا علم بمنكر أو مخالفة للدين .

ولم يقتصر الدكتور نور الدين على التدريس في كلية الشريعة ، بل كان عالي الهمة والنشاط فكان يدرس لسنوات طويلة في كلية الآداب بجامعة دمشق في مادة الدراسات الإسلامية ، وكان محورها عن القرآن الكريم والسنّة النبوية ، فكان سفير كلية الشريعة إلى كلية الآداب ، وكان ممثل علماء الشرع والدّين عند إدارتها وأساتذتها وطلابها وموظفيها ، وكان يتنقل بين الكليتين للتدريس والإرشاد والتوجيه ، كما عمل أستاذاً زائراً في بعض الكليات والجامعات العربية والإسلامية .

وكانت همّة الدكتور نور الدين أعلى من ذلك بكثير ، فكان يذهب أسبوعياً للتدريس في جامعة حلب في كلية الآداب ، وقبل إنشاء كلية الشريعة فيها ، فكان يدرس الدراسات الإسلامية ، ويستغل ذلك لزيارة بيته في حلب ، وصلة أرحامه ، وأهله ، وأقاربه ، وأصدقائه ، فلم تنقطع صلته بمدينته الأصلية حلب ، ولا بأحبابه ومعارفه ، ليضيف إليهم الكثير الكثير .

ويُضاف إلى ذلك مساهمته الكبيرة بالإشراف على طلبة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه ، ومشاركته المهمة في مناقشة الرسائل والأطاريح ، وتقويم الإنتاج العلمي للمدرسين والأساتذة المساعدين في الجامعات السورية ، وجامعات البلاد العربية والإسلامية .

الابتلاء والصبر : 

تزوج الدكتور نور الدين بنت خاله علامة حلب والمربي والداعية ، فأنجب عدة أولاد ، ورباهم التربية الإسلامية النموذجية على الدّين والأخلاق ، والأدب الجمّ ، وكانوا يأتون معه – أحياناً – إلى كلية الشريعة ، وكأنهم طيور الجنة ، وسمى ابنه الأكبر مجاهد تيمنّاً باسم أستاذه الأثير الجليل علامة مصر والقاهرة والأزهر الأستاذ الدكتور الشيخ مجاهد ، العالم العامل المخلص الثابت على الحق ، دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، ولا تهديد سلطة ، وقصد الدكتور نور الدين الوفاء لشيخه ، والاعتراف بفضله ، والمحبة والتقدير لعلمه ، والتفاؤل باسمه ، وكان الابن مجاهد شاباً يتسم بالحياء والدّين والمودّة واللطف ، والجدّ والاجتهاد حتى تخرج من جامعة دمشق ، والتحق بخدمة العلم ، وكان في إجازة معتادة ، ومسافراً في الباص الذي أصابه حادث مؤلم ، وأصيب الشاب ، ومات فوراً ، فكانت مصيبته كبيرة ، وفقده جللاً ، وابتُلي الوالد والأهل والوطن بفقده ، وذهبنا مع أساتذة كلية الشريعة إلى حلب لتقديم واجب العزاء للأخ الدكتور نور الدين ، فكان صابراً محتسباً ، كما تقتضيه الأحكام الشرعية ، والآداب الدينية ، والوصايا الحكيمة ، وكان ثابت القلب ، ناصع العقل ، هادىء الأعصاب ، يتلقى التعازي بنفس رضية بقضاء الله وقدره ، ويحتسب ابنه البكر عند الله تعالى ، وأنه قدمه في سبيل الله والوطن .

الإنتاج العلمي للدكتور نور الدين : 

إن الأستاذ الدكتور العلامة نور الدين عتر كثير الإنتاج ، وقلمه سيال ، وفكره ناضج وناصع ، ويعيش الواقع والأحداث ، وكان أسلوبه سهلاً ، واضحاً ، نيّراً ، ملتزماً .

وكتب مقالات كثيرة ، وصنّف كتباً عديدة ، وكنت أتمنى أن أكون في الوقت الحاضر بمكتبتي بدمشق لأحصي أهم كتبه ، وأكتب عنها ، وأحلل ما جاء في بعضها .

وألّف الدكتور نور الدين عدة كتباً دراسية وجامعية للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، وغطّى تقريباً جميع المواد الدراسية في الحديث والتفسير للسنوات الأربع .

وساهم الدكتور نور الدين في الدعوة والثقافة العامة ، فكتب عن المرأة المسلمة ، وكتب عن الاقتصاد الإسلامي وغيره من الأحكام الشرعية في الفقه ، وعندما قرأت أول كتاب له في ذلك أصابني الاستغراب والدّهشة ، وأن عالماً مختصاً في الحديث والرجال والسنّة يكتب في الفقه ، وسألت عن السرّ في ذلك ، فعلمت أن الدكتور نور الدين درس في الأزهر بكلية الشريعة أولاً ، ودرس الفقه وأصول الفقه ، قبل أن ينتقل إلى كلية أصول الدّين ويختص في الدراسات العليا بالسنة والحديث ، فكانت ثقافته واسعة ، وشاملة للاختصاصات الشرعية ، فأبدع وأجاد وأفاد ، وهذا ما يؤكده الأديب الشاعر أبو الحسن النيخكردي : " ومن طلب الفقه ثم الحديث ، فإن له همة عالية " .

وساهم الأستاذ الدكتور نور الدين بالتحقيق العلمي ، مباشرة ، وإرشاداً ، وإشرافاً ، وخدم التراث الإسلامي الزاخر ، وأعاد بعض المخطوطات للحياة والنور والنفع العام .

وإن كتب الأستاذ الدكتور نور الدين تدّرس في عدة كليات ، وعدة جامعات ، سواء في المرحلة الجامعية ، أو في الدراسات العليا ، وخاصة كتابه " منهج النقد " المقرر للتدريس في جامعة الشارقة ، فهو أستاذ للأجيال المتعاقبة في سورية ، وبقية أنحاء العالم ، وخاصة في علوم الحديث الشريف والسنّة النبوية .

نور الدين عتر الإداري : 

لم يقتصر نشاط الأستاذ الدكتور نور الدين على التدريس والتأليف ، بل كان إدارياً ناجحاً ، ومتفوقاً ، فتولى رئاسة قسم علوم القرآن والسنّة بكلية الشريعة بجامعة دمشق لسنوات عديدة ، بل كان أحياناً متفرداً في القسم ، ومعه المدرسون المتعاونون ، ثم انضم إلى القسم عدد من طلابنا النجباء الذين يرأسهم الأستاذ الدكتور نور الدين .

وقد عُينتُ وكيلاً لكلية الشريعة للشؤون العلمية لمدة خمسة عشر عاماً ( 1982 – 1997 م ) وكنا نجتمع في مجلس الكلية أسبوعياً وشهرياً مع الأخ العزيز ، والزميل الفاضل ، وكان يمثل قسم علوم القرآن والسنّة خير تمثيل من الناحية الإدارية ، ومن الناحية العلمية والموضوعية ، وكان يسيّر أمور القسم بحكمة وروية ، ويطوّر الدراسة فيه ، وكان له الفضل الأول في إعداد برامج الماجستير والدكتوراه في القسم ، فأقام بنيانه ، وسوّى أركانه ، وأحاطه بالرعاية ، وجعله مثلاً وقدوة وأسوة لأمثاله في الجامعات الأخرى التي اقتبسته وسارت على منواله .

نور الدين المجدّد : 

امتازت العلوم الإسلامية بعلم مصطلح الحديث ، ورواية الأحاديث بالسند المتصل من الراوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تمّ تدوين السنّة في الصحاح والسنّن والمسانيد وغيرها ، وبقي علماء الحديث يحفظون الأحاديث الشريفة بأسانيدها كاملة ، وكان آخرهم بدمشق العلامة المحدّث بدر الدّين الحسني رحمه الله تعالى الذي تُوفي في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي ، فكان محدّث الشام برواية الأحاديث بالسند ، نظراً لأهمية الإسناد ، فإنه من الدّين ، مع الاحترام والتقدير للرواة ، ثم انقرضت هذه السنّة الحميدة ، فجاء الأستاذ الدكتور نور الدين لإحيائها وتجديد العمل بها ، وعمل دورات لفتيات دمشق الطاهرات ، المخلصات ، القانتات ، الخاشعات ، المؤمنات، الصادقات ، لقراءة كتب السنّة ، والابتداء بأهم كتاب وأصحه بعد القرآن الكريم ، وهو صحيح البخاري لحفظه بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان الشيخ الأستاذ الدكتور نور الدين مجدّداً لهذا العلم المبارك ، والعمل العظيم ، وقد تخرجت عدة دورات ممن يحفظن صحيح البخاري بالسند المتصل بإشراف وإرشاد ورعاية وعناية الدكتور نور الدين الذي صار علماً بارزاً في دمشق وحلب ، وانتشر ذكره وذاع صيته في البلاد العربية والإسلامية .

جزى الله الأستاذ الدكتور الشيخ نور الدين عتر خير الجزاء ومتّع الله المسلمين بعمره ، وأمدّ في حياته ، وبارك له في علمه وأولاده ، ونفع به الأمة وطلاب العلم ، وأكثر من أمثاله ، والحمد لله رب العالمين .