الدكتور محمد هيثم الخياط والزمن الجميل

كلمة وفاء للزمن الجميل

(مهداة إلى روح أستاذي الدكتور محمد هيثم الخياط وزمنه الجميل)

من فضل الله تعالى علينا – نحن الأطباء السوريين الذين درسنا الطب في جامعة دمشق في النصف الثاني من القرن الماضي – أقول من فضل الله علينا أنا تلقينا الطب في رحاب الرعيل الأول من أساتذة كلية الطب، وعلى رأسهم أستاذي الكبير محمد هيثم الخياط الذي رحل عن دنيانا قبل أيام رحمه الله تعالى ..

وبهذه المناسبة أجد من واجبي تسجيل شهادة للتاريخ حول ذلك الزمن الجميل وتلك الكوكبة الفريدة من علماء الشام الذين اعتادت الشام أن تنجبهم بين حين وآخر ليكونوا شامة على خد الزمن .

وإذ أعود اليوم إلى ذلك الزمن الجميل، فإنني أعود إليه ليس فقط وفاء لهذا الأستاذ المربي العظيم، بل كذلك لأكشف للذين يشككون اليوم بثورة شعبنا السوري أن هذه الثورة كانت مشروعة ومبررة، بل ضرورية من أجل استعادة ذلك الزمن الفريد الذي قضت عليه محسوبيات "البعث"وعقليته العفنة !

وأعود إلى صور من ذلك الزمن فأتوقف طويلاً عند احترام الوقت من قبل أساتذة ذلك الزمن، فقد كان أولئك الكبار يسبقوننا إلى قاعة الدرس احتراماً منهم لوقتنا وتربية لنا بهذه الخصلة التي ما زالت تلازمنا حتى اليوم، وتحمينا من العبث بأعمارنا !

وأتوقف من تلك الصور العظيمة كذلك عند صورة أستاذنا "أبو الخير الخطيب" مدرس التشريح الذي كانت حصته في الصباح الباكر، فكنا نحضر إلى قاعة الدرس فنجده قد رسم كل الرسوم المتعلقة بدرس اليوم، وجلس يقرأ القرآن بانتظار بداية الحصة في الوقت المحدد، وآه لو تعلمون كم كان يعني رسم صور التشريح المعقدة، في ذلك الزمن حيث لم يكن الكومبيوتر قد ظهر، فكان على الأستاذ رسم الصور المطلوبة بالطباشير الملونة، ومع أن السبورة كانت تمتد عدة أمتار، فقد كانت رسومه رحمه الله تعالى تملأ السبورة طولاً وعرضاً، وهو عمل يستغرق منه ساعتين أو تزيد، وهو عمل ظل يداوم عليه في كل حصة، مما يعني أنه رحمه الله تعالى كان يحضر إلى القاعة قبل الدرس بساعتين على الأقل لكي يجهز الرسوم، ثم يجلس بانتظارنا يقرأ القرآن الكريم .. فتأمل !

ودارت الأيام فبدأ الطلاب البعثيون الذين أرسلوا للتخصص في البلدان الاشتراكية يعودون ويتولون تدريسنا فانقلبت دروسنا فوضى ما بعدها فوضى، فقد صار (الأستاذ؟!) يحضر إلى الدرس متأخراً دقائق وأحيانا ساعة فيطلب من بعض الطلاب أن يخرجوا إلى السبورة لكي يرسموا الصور اللازمة لدرس اليوم، وهكذا يتحول درس الطب إلى درس في الرسم، وما بين رسم وأخطاء وتصحيح وتعليقات يضيع وقت الدرس .. فتأمل !!

ومن الصور الوضيئة في ذلك الزمن كذلك أن الله تعالى تفضل علينا بأستاذ التشريح الدكتور "محمد كامل شاشيط" الذي تولى الإشراف على تدريبنا التشريح العملي، وكانت القاعة قبل قدومه ساحة للعبث بالجثث وتبادل النكات، والتقاط صور فاضحة للجثث .. كل ذلك بحجة تخفيف مشاعر الرعب من الموت الملقى على الطاولات حولنا، فلما جاء الشيخ شاشيط أعطانا الدرس الأول في احترام الموت فذكرنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (كسر عظم الميت ككسره حياً) فتوقف العبث وعادت للموت حرمته في نفوسنا، وكان الشيخ إلى جانب علمه الشرعي هذا كان رحمه الله تعالى بحراً في علوم العربية، فكان يخاطبنا بالعربية الفصحى، حتى إذا سمع لحناً في اللغة استوقف القائل وطلب منه إعراب ما قال لكي يصحح له الخطأ !

وفي الحقيقة لم يكن الحرص على اللغة العربية – لغة القرآن الكريم - هو ديدن هذا الأستاذ العظيم وحده، وإنما كان الحرص على العربية هو ديدن جيل أساتذة ذلك الزمن الجميل كافة، فكم تحول درس علم الجنين إلى درس في الشعر والأدب، وكم تحول درس الكيمياء إلى درس في كيمياء الأخلاق ! 

وكان من ذلك الجيل الفريد أستاذي الدكتور محمد هيثم الخياط (1936 – 2020) الذي رحل عنا قبل أيام عن عمر يناهز 83 عاماً قضاها في البحث والتعليم ونشر العلم، وقد تقلد رحمه الله في حياته أكبر المناصب العلمية والأكاديمية في العالم، منها منصب المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، ثم كبير مستشاري المدير الإقليمي للمنظمة، وكان عضواً في مجلس أمناء المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ومقرراً في مشروع المعجم الطبي الموحد، وكان عضواً في مجامع اللغة العربية في دمشق، وبغداد، وعمان، والقاهرة، وكان عضواً قيادياً في منظمات وجامعات عالمية أخرى عديدة، ومما يذكر أن والده الدكتور أحمد حمدي الخياط كان علماً كبيراً من أعلام الطب واللغة العربية، وكان واحداً من مؤسسي كلية الطب في جامعة دمشق .

ولد أستاذي الدكتور محمد هيثم الخياط في دمشق، وتلقى تعليمه الأول فيها، فنهل من العلوم الشرعية، وتبحر في اللغة العربية، ثم درس الطب في جامعة دمشق، وحصل منها على درجة الدكتوراه، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة بروكسل، وقد ألف الفقيد عشرات الكتب في الطب وغيره من حقول المعرفة باللغات العربية، والفرنسية، والإنجليزية، ومن أبرز هذه الكتب بالعربية (المعدة بيت الداء والحمية هي الدواء) و(المرأة المسلمة وقضايا العصر) و( في سبيل العربية (

بدأت صداقتي مع الدكتور هيثم منذ العام 1967 عندما كنت طالباً في السنة الأولى من كلية الطب، فقد لمس رحمه الله حبي للعلم والأدب فكان يؤثرني ببعض الجلسات الخاصة في مكتبه عندما يكون في ضيافته نخبة من أهل العلم والأدب، فقد كان رحمه الله من محبي الأدب والشعر، وكان علامة موسوعياً يتحدث في كل علم حديث الخبير الواثق بعلمه، مما جعل عدواه هذه تنتقل إلي، ومازلت أدعو الله ألا أشفى منها ..

وإن أنسى فلا أنسى فترة إشراف هذا الأستاذ المربي على رسالة تخرجي من كلية الطب، فقد كنت ألتقي به بشكل يومي تقريباً، فنتواعد على اللقاء في بعض حدائق دمشق الهادئة، وكان رحمه الله غالباً ما يسبقني إلى الموعد، حتى إذا استقر بنا المجلس أخرج أوراقي التي راجعها ووضع عليها ملاحظاته، فيقدمها لي وهو يعتذر في أدب جم على ما فيها من خطوط حمراء كثيرة، فأشكره وأرى اعتذاره فيكبر في نفسي، فقد كان في كل خط من خطوطه الحمراء درساً لي، حتى كأن رسالتي التي لم تتجاوز مائة صفحة تحولت ببركات أستاذي إلى شهادة أخرى سعدت بها أكثر من سعادتي بشهادة الطب، فقد تعلمت من ملازمة هذا العلم الكبير ما لم أتعلمه من أي معلم آخر !

وإذا كان أبي رحمه الله تعالى قد أورثني عشق القرآن الكريم، فإن أستاذي علمني في هذه التجربة أصول فهم القرآن الكريم؛ ومن ذلك مثلاً أنه كان يوصيني أن أفهم الآية من خلال سياقها لأن قطع الآية عن سياقها قد يخرجها عن معناها، وفي هذا إساءة لكتاب الله الكريم، وعلمني أستاذي كذلك ألا أكتفي بالآية الواحدة، بل أجمع معها بقية الآيات المتعلقة بموضوع البحث لكي أدرك مقاصد التنزيل الحكيم إدراكاً صحيحاً .. ونحو هذا من الملاحظات القيمة التي ازددت بها عشقاً للقرآن وفهماً له في آن معاً .. فجزاه الله عني كل خير ..

وتشاء الأقدار أن أفترق عن أستاذذي فترة طويلة بعد تخرجي من الكلية في عام 1973 فقد اضطررنا كلانا للاغتراب عن حبيبة القلب .. الشام، ولم نلتق إلا في عام 2006 في مؤتمر علمي بباريس، وفاجأني أستاذي بتقديم محاضرتي على محاضرته، وتفضل بتقديمي للحضور تقديماً أعاد إلى ذاكرتي أيام الشام، وهاجت بنا الذكرى فانطلقنا معاً نبكي فردوسنا الشامي المفقود، وانطلق بعض الحضور يبكون فردوسهم المفقود !

وبعد باريس افترقنا من جديد حتى جمعتنا الحبيبة مصر التي حققت ربيعها العربي في ثورة يناير 2011، وفي هذه المرة، لم نبك فردوسنا المفقود، بل غمرتنا السعادة ونحن نرى مصر تستعيد فردوسها !

وكان رحمه الله قد تقبل مشكوراً كتابة تقديم علمي لكتابي (الموسوعة الطبية الفقهية) فقضينا يومين على ضفاف النيل نناقش بعض القضايا العلمية التي حفلت بها الموسوعة، وفيما نحن نتأمل مياه "النهر الخالد" عادت بنا الذاكرة إلى أيام النزهات التي كانت تجمعنا على ضفاف بردى، وإذا بالدموع تنهمر من مدامعنا قائلة إن البكاء صار قدراً مقدوراً علينا نحن عشاق الشام الذين سرق "البعث" زمننا الجميل !

رحمك الله يا آخر المعلمين المحترمين