الشيخ أحمد الحارون (1315 – 1382هـ)

 (1315 – 1382هـ)(1).

الإسلام نظام و خلق ، و يوم كان المسلمون الأوَّلون يحرصون على تنفيذ نظام الشريعة و التخلق بآدابها كانوا من أرقى المجتمعات نظامًا، و أكمل الناس أخلاقًا ، ومن أهم أخلاق الإسلام : المحبة ، و التسامح ، و المراقبة لله ، ومحاسبة النفس ، و الزهد في الدنيا مع العمل لها و التمتع بطيباتها.

و لم يكن السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم و تابعيه، يفرقون بين شطري الإسلام ، بل كانوا يحرصون على العلم و العمل ، و إقامة نظام الإسلام ، والتخلق بآدابه، ولم يكن للقسم الأخلاقي و التهذيبي فيه اسم خاص عندهم ، و لا أناس متخصصون فيه ، لا يدلون إلى العلم بسبب ، ولا يقيمون وزنًا لشرائع الإسلام و أحكامه.

و لما اتسعت الحضارة الإسلامية ، وآتت ثمارها ، أوشكت القلوب أن تشغلها الحضارة و علومها عن أخلاق الإسلام ، فتصدى نفر من أجلَّة علمائه يومئذ كالحسن البصري رحمه الله للوعظ و التذكير بالله و مراقبته و الترغيب في جنته و الترهيب من ناره.

ثم أطلق بعد ذلك على هذا النوع من التذكير و الموعظة اسم التصوف ، و لم يكن في إطلاقه على الدعوة إلى الأخلاق الإسلامية و آدابها ضرر ما ، و نشأ في المسلمين أجلَّة عظماء يجمعون بين العلم و بين الزهد و التصوف ، كالجنيد رحمه الله ، فلم يكونوا في زهدهم و تصوفهم خارجين عن حدود الشريعة و لا تجاوزين لأحكامها ، و لم يكن التصوف يومئذ يعدو أن يكون تهذيبًا للنفس ، و تنشيطًا للروح ، و الدعوة إلى مراقبة الله و حسن المعاملة بين الناس ، و كان في هذه الحدود و بهذا المعنى أداة صالحة لتخفيف انغماس الناس في طلب الدنيا و إقبالهم على طيباتها و زينتها ، و لتهذيب الأخلاق بما يتفق مع شرائع الإسلام و آدابه.

آفات ثلاث أفسدت صفاء التصوف:

ثم عرض للتصوف آفات ثلاث أفسدت صفاءه، و جعلته أداة من أدوات الهدم للمجتمع الإسلامي و للحضارة الإسلامية:

• أولها: الأخذ بمفاهيم أعجمية للأخلاق الإسلامية لم يكن يدعون إليها الرسول صلوات الله و سلامه عليه ، و لا كان يعرفها صحابته و التابعون ، فانقلب الزهد إلى ترك الدنيا في الظاهر و تعلق بها في الباطن، بعد أن كان صدوفًا عن تعلق القلب بمفاتن الدنيا مع الأخذ منها بنصيب وافر ، وانقلب التوكل من سعي في الحياة مع الاعتماد في نتيجة هذا السعي على اله جل جلاله إلى أن أصبح كسلًا و تواكلًا و فرارًا من العمل و العلم إلى حياة التسول و "الشحاذة" ، و هكذا فسدت المفاهيم الإسلامية بدخول المفاهيم الأعجمية و اعتماد الصوفية عليها.

• ثانيًها : اعتماد الصوفية على القسم الأخلاقي في الإسلام و إعراضهم عن القسم التشريعي ، فغدوا بذلك من أجهل الناس بأحكام الإسلام و كان كثير منهم يرى أن العناية بهذه الأحكام ـ و قد سموها علم الظاهر ـ يصدهم عن علم "الباطن" ، فاستُغلَّ هذا أسوأ استغلال من قبل الزنادقة و الشعوبيين إلى حد الكفر ، كالقول بوحدة الوجود ، و إسقاط التكاليف الشرعية عمن بلغ درجة معينة عندهم .

و نشأ عن ذلك أن جعلوا للتصوف حدودًا و رسومًا و تنظيمات أشبه ما تكون بالتنظيمات الكنسية، و جعلوا الشيخ بمثابة النبيّ ، و أحيانًا الإله بالنسبة إلى المريد (التلميذ) ، حيث حرَّموا عليه أن يشك في كل تصرف للشيخ ، و لو كان مخالفًا للشريعة ، و أصبح من قواعد عندهم : إذا رأيت الشيخ متلبسًا بالمعصية فكذب نظرك و نزه شيخك عن أي خاطر من خواطر السوء نحوه.

و هذه كهنوتية لا يعرفها الإسلام ، و لا يعرفها الصحابة بالنسبة للرسول المعصوم ، فقد كانوا يسألونه و يناقشونه ، و كان الصحابة ينكر بعضهم على بعض ، و يرد بعضهم على بعض.

• ثالثها: استغلال التصوف للدنيا ، و استغلال بعض المشايخ المتصدين للوعظ و الإرشاد باسم التصوف ، لجهل مريديهم أو ثقتهم بهم ، فأكلوا أموالهم ، و أكلوا من أموال الناس و الخلفاء و السلاطين ، و هم يتظاهرون بالروع و يدعون إلى الزهد ، و يتعلل مشايخهم لذلك ، بأنَّ ما يأخذونه من الناس أقل مما يعطونه لهم ، فهم يعطونهم هدايةً و إرشادًا يوصلون بهما إلى الجنة فيما يأخذون منهم ملا يغني، وعرضًا يزول ، و قد انطلت هذه الحيلة على كثير من السذج و البسطاء و الجاهلين بأحكام الدين.

هذه الآفات الثلاث كانت و حدها كافية لتضل الناس عن دين الله كما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ، و لتعطيل ملكات الفهم و النقد بينهم ، حتى أصبح من السهل على مريدي أولئك المشايخ المستغلين اتهام أي مريد ذكي يتساءل عن أفعال الشيخ ، بالكفر و المروق و الزندقة ، و أقل ما كانوا يقولون عنه : إنه محجوب عن أنوار الحق ، غير جدير بالدخول معهم في حظيرة الأنس التي يوصلهم إليها الشيخ بروحانيته و بركاته.

تخلف المجتمع الإسلامي عن ركب الحضارة:

و تبعًا لذلك ، و لانتشار التصوف بآفاته الثلاثة في العصور المتأخرة ، انهار المجتمع الإسلامي، و تخلف عن مسايرة ركب الحضارة، فوقع في أنياب المستعمرين الذين كثيرًا ما استغلوا أولئك المشايخ الدجالين لتخدير الجماهير و إقناعهم بالرضوخ للاستعمار ، كما يعلم ذلك من تاريخ البلاد الإسلامية في القرنين الأخيرين.

المرشدون الهداة:

و لكن رحمة الله بعبادة تأبى أن ينتشر الضلال و التدجيل باسمه و باسم دينه ، فكان في كل عصر يصنع على عينه رجالًا

عظماء يرجعون بالناس إلى شريعة الله ، و يعملون على تهذيب النفوس مخلصين لوجه الله لا يريدون جزاءً و لا شكورًا و بذلك أصبحوا في مجتمعهم جنة وارفة الظلال في صحراء مجدبة مهلكة ، و أعادوا الناس إلى حظيرة الحق و الخير بعد أن كادوا ييأسون من وجود من يرشدهم إليها.

و لقد أدركنا في صغرنا بعضًا من هؤلاء الهداة المرشدين ، و لكن الله توفاهم إلى رحمته قبل أن نستفيد من إرشادهم و روحانيتهم المخلصة النقية.

العارف بالله فقيد الإسلام أحمد الحارون:

و ممن أدركناهم و استفدنا منهم فائدة نشهد بها أمام الله هو : العارف بالله فقيد الإسلام أحمد الحارون الحجار الذي اختاره الله لجواره في هذا الشهر(2) ، فكانت الفاجعة به أليمة ، و الخسارة فادحة لندرة مثل هذا الطراز من الرجال الذين يحيون القلوب، و ينعشون الأرواح و يلتزمون حدود الشريعة ، و يبتعدون عن استغلال التصوف لجمع المال و الشهرة.

نشأته الأمية و عمله بقطع الحجارة:

كان شيخنا الحارون رضوان الله عليه في أول أمره أميًا يشتغل بقطع الأحجار من الجبال و نحتها لتكون صالحة لبناء الدور ، و كان أحيانًا يعمل من هذه الأحجار أحواضًا للماء توضع في الحمامات في البيوت ، و كان من طموح الهمة و ذكاء البصيرة أن تعلم ـ و هو كبير السن ـ مبادئ القراءة و الكتابة.

منار المهتدين:

و كان من قوة الروح بحيث أصبح منارًا للمهتدين ، و مرشدًا للضالين ، و قد أنقذ بهدايته و روحانيته عددًا من أبناء البيوت المعروفة في دمشق ممن كانوا ينغمسون في الترف و اللهو ، فأصبحوا بعد ذلك من كرام الناس دينًا و أخلاقًا و استقامة، و بذلك أحبوه الحب الخالص لله، فلزموا مجالسه ، و استفادوا من أخلاقه و مواعظه ، و اعتبروه الأب الروحي لهم حتى اختاره الله لجواره.

و قد كنت أتردد عليه قبل مرضي و بعده، و بدأت أمري معه مختبرًا و مراقبًا، و انتهت إلى أن أصبحت محبًا و معجبًا و مريدًا.

تواضعه و زهده و سخاؤه:

كان من أهم ما حببه إلي تواضعه ، و حسن خلقه ، و تهربه من الشهرة ، و زهده في الدنيا مع إقبالها عليه، و سخاؤه الذي لا أعتقد أن له فيه مثيلًا أو قريبًا منه ، و فهمه للإسلام فهمًا صحيحًا صافيًا ، و إدراكه لمشكلات الحياة التي يحياها المسلمون اليوم.

فهمه الصحيح للإسلام:

قلت له ذات مرة و أنا غارق في القضايا العامة من سياسية و دينية : إنني متألم لحرماني من ساعات ففراغ أتهجد فيها ، أو أخلو فيها إلى نفسي ، أو أقرأ القرآن قراءة تدبر و تفهم ، فكيف السبيل إلى الجمع بين التعبد و بين العمل السياسي و الإصلاحي؟

فأجابني على الفور: و هل يقل أجر العمل الذي تقوم به عن أجر العبادة و التهجد و الخلوة؟ إنَّ ما أنت فيه عبادة من أكثر العبادات ثوابًا، فلا تندم على ما أنت عليه.

لم أكن أنتظر من شيخ متصوف مبتعد عن الدنيا و عن الجاه و الشهرة ، أن يقول لي مثل هذا الجواب ، فلما سمعته منه ازددت يقينًا بأنني إزاء رجل من الهداة الذين يفهمون الدين حق الفهم ، و يفهمون خطورة العمل الذي نؤدية حق الفهم ، فازددت به إعجابًا ، و ازددت له حبًا و تقديرًا.

عطاؤه الروحي و العلمي:

و كنت كلما شعرت بظمأ روحي إلى كلام الربانيين و هداتهم أذهب إليه ، فأملأ روحي من هدي كلامه ، و أملأ عقلي مما أفاض الله عليه في آخر عمره من فهم لمختلف العلوم ، بحيث استطاع أن يصنف فيها عشرات المجلدات التي ستظل أبدًا و دائمًا ناطقة بعظمة هذا الرجل و ربانيته و استعداده الروحي و العقلي ، حتى كان كبار العلماء يعترفون له بذلك ، و أذكر منهم على سبيل المثال : المصلح الإسلامي الكبير السيد أبا الحسن الحسني الندوي ، فقد اجتمع به أكثر من مرة حين كان يزور دمشق ، و اطلع على بعض مؤلفاته، و نقل منها أشياء ، حتى إذا عاد إلى الهند نشر عنه ثلاث مقالات في مجلة "البعث الإسلامي" التي تصدرها ندوة العلماء في لكهنو باللغة العربية.

و لما مرض شيخنا الحارون مرضه الذي أصبت بمثله قبله ، كنت أتردد عليه برغم المشقة التي تنالني من ذلك ، وكنت أراه طريح الفراش يعاني مثل فروعه فكان ـ و هو طريح الفراش ـ يناقش و يتكلم و يحضر بعض كتبه لنرى رأينا فيها ، مع استمراره على عادته في البشاشة و الدعابة التي عرف بها.

و انقطعت عنه في الفترة الأخيرة لشدة المرض عليَّ ، و كنت أشعر بأن ابتعادي عنه يحرمني كثيرًا من الخير ، و كثيرًا من العزاء ، حتى فوجئت بنعيه إثر مرض جديد أنشب أظفاره فيه رحمه الله.

إنني لأكتب هذه الكلمة و قد كتبت قبلها كلمتين عنه في الصحف اليومية ، و أشعر أنني في كل ما كتبت لم أوفه حقه، و لم أعبر عما في نفسي من لوعة لفقده، بعد أن كانت تمتلئ حبًا له و إعجابًا و إكبارًا.

المثل الصادق لروح الإسلام:

يا شيخ الصالحين الصادقين، و يا مرشد النفوس و الأرواح ، و يا من كان في حياته مثلًا صادقًا لروح الإسلام ، و استمرارًا مؤثرًا مثمرًا لأخلاق الرسول عليه الصلاة و السلام، يا من فقدته دمشق و بلاد الشام في وقت هي أشد ما تكون حاجة إليه و إلى هديه و إرشاده.

أيها المربي الحكيم ، و العالم النفسي الروحاني الكبير ، لقد أصبحت ـ إن شاء الله ـ في جنة الخلد ترتع فيها مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، هنيئًا لك بما تركت وراءك من خير ، و بما لقيت أمامك من ثواب ، و عزاءً لنا بما فقدنا فيك من أثر مبارك من آثار النبوة الذي كان يبث الهدى و الخير و النور فيما حوله ومن حوله . 

يرحمك الله و يسبغ عليك رضوانه ، و يجزيك عمَّا تركت في نفوس من عرفك من طمأنينة تملأ النفوس ، ومن هداية تدل على الطريق، و من موعظة تستولي على العقول، فكنت بسيرتك و حياتك مثلًا صادقًا للهداة و المرشدين الذين عزَّ وجودهم مع تطلع الناس إليهم.

يا بركة الشام، وروحها الصافية، و نورها المشرق، و مرشدها الصادق الصالح.. رضي الله عنك، لقد أتعبت من وراءك ممن يحاولون أن يسلكوا طريق الهداة و المرشدين.

هيهات ! هيهات! إلا أن يكونوا مثلك زهدًا و ورعًا و عزوفًا عن الدنيا، ورغبة فيما عند اله..وإنا لله و إنا إليه راجعون.

_______________

(1) مجلة حضارة الإسلام، العدد الخامس، السنة الثالثة: (1382هـ ـ 1963م).

(2) توفي الشيخ الحارون ليلة الجمعة 19 جمادي الأولى سنة 1382هـ.