بين يدي شيخي محمد سعيد الطنطاوي رحمه الله

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي= فجودا فقد أودى نظيركــــــما عندي

"سعــيد" الذي أهدته كفاي للثرى= فيا فرحة المهدى ويا حسرة المهدي

في ظهيرة يوم 25/01/1441 هـ دخلت على الشيخ سعيد الطنطاوي وسلمت عليه ، فكانت المرة الأولى التي لم يرد فيها السلام علي ولم يقل كما عودني إذا علم أني أنس : أهلاً أهلاً أهلاً أهلاً .. ثم يسألني بعدها : كم هدول؟! .. في هذه اللحظات شعرت بمعنى الفقد فبوفاته فقدت أنسي ، فقدت شيخي الذي لازمته وخدمته وكنت أعود إليه في كل صغيرة وكبيرة فيهتم لأمري ويحمل عني حزني ويفرح لفرحي ، إذا أخطأت صوبني وأرشدني ولم يلمني وإذا أصبت زاد من همتي ، كنت حِبّه وأصغر مريديه ، ولم أكن أحسب أني سوف أرثيه ، وكيف أرثي سيدي وحبيبي .. 

كأن عيني لذكراه إذا خطرت= فيض يسيل على الخدين مدرار

قال لي قبل وفاته بأيام : سامحني ما وفيتك حقك .. – وأنا أشهد الله أنه صاحب فضل عليّ بعد الله – لم أعلم وقتها أن هذه الكلمات هي بداية الوداع بيننا.

استغفر الله ثوب الصبر منخرق= عني بفرقته لكــــــــــــن أرقعه

لقد وعيت على الدنيا ووالدي يصطحبنا لزيارة الشيخ -رحمه الله- ويداوم على ذلك ، فكنا نسّر بمجلسه الغني بالمعارف. يحكي والدي أنه التقى بالشيخ لأول مرة في صلاة الفجر في مكة وأمره الشيخ يومها أن يقيم الصلاة ، وبعد انقضائها سلم على والدي -وكان مرتديا الثوب المغربي أو ثوب النوم- فنصحه الشيخ بوجوب أخذ الزينة للمسجد. وبعد زواج والدي علم الشيخ أن في منزله تلفازاً فاقترح عليه أن يقوم بإخراجه بعد سؤال والدتي إن كانت لا تمانع، وفعلاً أخرجوا التلفاز، فقدّم الشيخ -رحمه الله- ظرفين من المال لوالديّ ليشتروا به مكتبة للمنزل ورشّح لهم بعض الكتب كالبداية والنهاية وإحياء علوم الدين وحياة الصحابة. لقد كان له أثراً واضحاً في منزلنا كما أن أثره واضحاً على كثيرٍ ممن لازموه.

إن بداية تعلقي بالشيخ-رحمه الله- كانت في إحدى الزيارات وأنا في الصف الخامس .. البداية التي علقتني بشيخي أيما تعلق. كنت مع والدي في هذه الزيارة وقال للشيخ حينها : إن أنس قد حفظ أبياتاً من الشعر وقد أتى ليسمعك إياها ، فأدخلنا شيخي إلى المجلس وأوقفني بصدره وقلت تلك الأبيات:

إذا جاريت في خلق دنيئا= فأنت ومن تجاريه سواءُ

ومــــا من شدة إلا سيأتي= لها من بعد شدتها رخاء

لقد جربت هذا الدهر حتى= أفادتني التجارب والعناء

يعيش المـــرء ما استحيَى= ويبقى العود مابقي اللحاءُ

فلا والله مافي العيش خيرٌ= ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

إذا لم تخش عاقبة الليــالي= ولم تستح فافعل ما تشاءُ

وقد سُر مني جداً وأثنى عليّ وأما أنا فقد فرحت بذلك وصدى هذه الذكرى يتردد في ذهني. أيضاً عندما علمني تحويل المسائل الرياضية إلى معادلات وكنا عند باب المنزل ولا أنسى كيف كان يمسك بالدفتر والقلم .. لا تمضي الدقيقة مع شيخي إلا وفائدة تلو الأخرى ، حديثه كله علم وبركة ونور.

في المرحلة الثانوية ، كان له الفضل بعد الله في تفوقي بالمواد العلمية ، أتيته مرة بعد صلاة العشاء ومعي كتاب الكيمياء وأوراق المادة ودفاترها والجدول الدوري ؛ لأسأله عما أشكل علي ، وكان لي أسئلة محددة وبدأت بأول سؤال ، وبدأ – رحمه الله – الجواب من بداية علم الكيمياء حتى وصل إلى النقطة التي أردتها وزاد على ذلك ، وكل هذا من ذاكرته ولم يطلع على ما معي من كتب ودفاتر حتى الجدول الدوري يحفظه برموزه وعناصره وأوزانه الذرية .. واسترسل في الشرح حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، ولم أكمل بقية أسئلتي لكني وجدت جوابها من استفاضته. وكان إذا وجد إقبالاً من الشخص ولهفة للفائدة ، فاض بحر علمه.

وشيخي هو من علمني بحور الشعر وحببه إلى قلبي وصقل ذائقتي ، وهذا فقط في طريق عودتنا من المسجد .. لقد كنت يا سيدي إذا كسرت بيتاً من الشعر صحت بي " كسرتتتتته" وإذا تداركت نفسي تنفرج أساريرك وتضرب على ظهري وتقول: لله أبوك. 

وعندما درست في حلب ، كنت أنتظر الإجازة تلو الإجازة للقاء شيخي و كان أول من أزوره وأسلم عليه بعد عودتي من السفر كما عودنا والدي ، وكان يسر بذلك. وأثناء سفري كنت أرسل السلام إليه عن طريق والدي .. والشيخ يردد:

أرى العراق طويل الليل مذ رحلوا= فكيف حال فتى الفتيان في حلب

لن أطيل الكتابة ، فأخبار شيخي لا تجمعها الكتب فهوأعجوبة زمانه لا تفي الكلمات والأحرف حقه. بعد وفاته –رحمه الله – نُشِرت ترجمات علمية عنه وكيف أنه جمع علوماً كثيرة ، ورأيت أن أكتب بعض أحواله التي عشتها معه ، غير ما تفضل به محبوه.

لم أر أحداً مثل شيخي في تعظيمه لله وتوقيره لكتاب الله وأدبه واقتدائه بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتمسكه بالسنة. هذه هي القدوة التي نحتاجها في هذه الأيام , وبإذن الله فإن بركة ما زرعه في صدور أحبابه ستؤتي ثمارها. وأول هذه الأحوال هو حاله مع الصلاة وكيف كانت حياته وسروره فيها .. عُلّق قلبه بالمسجد .. ما إن يسمع صوت المؤذن إلا وقام مسرعاً وكأنه لا يعرف أحداً وإن كان في منزله زوارٌ صرفهم واستعد ، يأخذ زينته للمسجد ويمشي بسكينة ولا يحدث أحداً.. حتى إذا أتم الفرض والسنة والأذكار.. عدنا لسماع والفوائد والنوادر. وكان محافظاً على الجماعة في صحته ومرضه حتى منعه كبر سنه من حضور الجماعات في آخر عمره وبقي محافظاً على حضور الجمعة ، وكان رحمه الله يأخذ زينته للصلاة في المنزل كما كان يأخذها للمسجد. أذكر يوم عرس أخي أدهم أني تقدمت لأصلي بالشيخ صلاة العشاء وكنت أرتدي "البدلة" فأمرني أن أرتدي ثوباً ، وكان ثوبي متسخاً فأعطاني ثوباً من ثيابه وطاقية ، فصليت وانصرفت. 

كان محافظاً على السنن ، والدعاء ، والزكاة ، والصدقة .. على الصيام ولا سيما الإثنين والخميس حتى آخر عمره، وأيضاً على الأضحية ، وقيام الليل والوتر وقراءة القرآن حتى أيامه الأخيرة. ولما كان في مكة كنت أراجع له حفظه وكان له مجلس يوم الخميس بعد الفجر مع الأستاذ يوسف صديق ليراجعوا جزءا من القرآن. 

ومن صور تعظيمه لله وكلامه أنه إذا كنا في حديث وذكر أحد الحاضرين آية ، نهانا عن ذلك بقوله: لكل مقام مقال. ومن ذلك أيضاً أدبه مع لغة القرآن وكيف كان يرفع الأوراق والقصاصات التي كتب عليها بالعربية وألقيت في الطريق حتى جمع منها الكثير ، وقد حدثنا ببعض ما وجد من هذا الأخبار. وإذا أحضرنا له أكياساً كتب عليها ، سهر الليل كله وهو يمحو هذه الكلمات -بالكاز- لاسيما إن كانت الكلمات المكتوبة على الكيس مذكورة في القرآن.

أما بكاؤه عند ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فقد بكى وأبكاني عندما راجعنا كتاب "تهذيب سيرة ابن هشام" ، كنت اقرأ وهو يسمع .. حتى إذا اشتد الحال به سابقني بما اقرأ وسبقني غيباً وكأنه يقرأ من الكتاب وهو يقاوم البكاء.

لقد كان رقيق القلب محباً للصالحين وسيرهم ، متأثراً بأخبارهم .. يقف عندها وينقلها لنا ، فإذا قص عليك شيئاً شعرت وكأنك في الحدث نفسه.. من حسن وبلاغة حديثه. 

واعجبوا أن شيخي كما اعتنى بروحه اعتنى بجسده وذلك في محافظته على الرياضة حتى وهو في التسعين ، يمشي في البيت ذهاباً وإياباّ يقوم بعدها بتمارين سويدية كتحريك اليدين والرجلين. ومن ذلك أيضاً اهتمامه بنظامه الغذائي وترتيب وجباته وتحديد أوقاتها وأوقات الشرب. نظم حياته وعود نفسه على ذلك وكان ينصحنا بالتنظيم وأذكر أني عندما دخلت إلى بقية منزله – كان لا يأذن لأحد أن يدخل إلى غير المجلس – وجدت أنه وضع دفتراً لكل خزانة يذكر فيه ما هو موجود فيه بالتفصيل. 

لقد كان لشيخي بركات لمستها على نفسي ولمسها أهلي -بفضل الله- ومنها إكمال دراستي الجامعية في جامعة أم القرى.. فقد عدت من حلب عام 1433 هـ ولم أستطع أن أعود إليها لأكمل دراستي -فرج الله الكربة عن بلاد الشام- ولازمت شيخي وقتها ملازمة شديدة وكان قد أشار علي أن أسجل في جامعة أم القرى وحاولت كثيراً ولم أستطع، في هذه الفترة تراجعت حالته الصحية فحثني والدي ووالدتي حفظهم الله أن ألازم الشيخ وأن لا أفكر في الدراسة في جامعة خارج مكة ، وكان شيخي يقول لي :

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته= ومدمن الطرق للأبواب أن يلجا

فأشارعلي بأن أراجع الجامعة بين الحين والآخر وأن أشتري بعض كتب الهندسة الكهربائية لكي لا أنقطع عن العلم ، ولكني لم أقم بشراء الكتب لأن الأمل لم يكن قوياً. في أحد الأيام وبعد انقطاع سنة وثمانية أشهر عن الدراسة ، بحت لشيخي بما في صدري وكيف أن الأبواب أغلقت ، فقال لي حديث أصحاب الصخرة الثلاثة التي سَدَّت عليهم الصخرة الغار وكيف أن الله نجاهم بعدما دعوه بخالص أعمالهم.. بعد هذا بساعات قليلة.. اتصل أحدهم ليبشرني بقبولي في جامعة أم القرى بمكة لإكمال دراستي للهندسة الكهربائية وقتها وددت لو أني أخذت بنصيحة الشيخ بأن اشتري بعض كتب الهندسة الكهربائية .

ولشيخي يدٌ في زواجي من سنا بنت العم بدر الدين غزال وهي من أقاربه ، وكيف كان سروره بهذا الزواج فكان يقول: صرت قريبنا ، وقد قال بيتاً من شعره وهو: 

إن سنا أنشودة وأنس غنى بها

فإنها بقلبه وهو كذا بقلبــــــها

ما ذكرته هي وقفات يسيرة مع شيخي وحبيبي لا أنساها ولن أنسى هذه العلاقة المتينة بيني وبينه فلقد كان من أحسن خلق الله خلقاً ، كان يذكرني دائما بالحديث الشريف "... وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" ويوصيني بذلك ، وأقول كما قال أنس بن مالك بعدما خدم النبي صلى الله عليه وسلم .. خدمت شيخي فما قال لي أف قط. وقبل وفاته رحمه الله نادى علي باسمي، فقلت: خويدمك أنس ، فقال: اللهم أطل عمره وبارك له في رزقه وولده. 

هذه النعمة "خدمة شيخي" منّ الله بها علي وأكرمني بها وسبقها نعمة الوالدين فقد ساندوني على خدمة الشيخ رحمه الله آثروا ذلك على نفسيهما .. رب اغفر لي ولوالدي رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.. اللهم اجمعنا بالشيخ سعيد في الفردوس الأعلى بصحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.