الشيخ الصالح حامد عسكر الصالح باقلام محبيه وعارفيه (1)

بلغني اليوم نبا وفاة الأخ العالم الصالح الشيح حامد عسكر الصالح، وكنت سمعت بعض أخباره، ولم أسعد بلقائه، وعلمت من محبيه أنه من خواص تلاميذ علامة حمص الشيخ محمود جنيد، وأنه كان مقربا من مشايخ حمص الكبار، ووقفت على مجموعة من الكلمات في رثائه ، واستحسنت نشرها في موقعنا .

الشيخ الصالح : حامد الصالح (أبو محمود)

مبشر جنيد

انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ الزاهد ، العابد ، المجاهد ، المهاجر ، الصابر .

الشيخ حامد الصالح صاحب الابتسامة اللطيفة ، والعمامة اللطيفة ، واللباس الذي ليس فيه شيء من الدنيا ، وأهم من هذا كله : أنه صاحب القلب السليم ، فلا يحمل في قلبه أدنى شيئ على أحد ، ولا يذكر أحدا بسوء مهما كانت الموقف معه ، بل كان حسن الظن بالمسلمين أجمعين .

هو الشيخ : حامد بن عسكر الصالح العفنان تلميذ الشيخ محمود جنيد الأشهر .

كان رحمه الله يحب العلم تعلما وتعليما، ولا يشغله عن العلم شيء، فكان يترك ويعتذر عن حضور الحفلات والسهرات من أجل الدروس .

لا يحب السهر إلا من أجل الدرس ، فإن لم يكن عنده درس فالنوم مبكرا عادته . 

تصدَّر للفتوى بعد وفاة أكابر علماء حمص ، فكان مرجعًا للحمصيين في كل ما يعرِض لهم من أمور دينهم ، وخصوصا مسائل الطلاق .

اختاره علماء حمص للجلوس في غرفة الشيخ طاهر في الجامع الكبير للفتوى ، فاستجاب لرغبتهم ، فكان خير وريث لمن جلس في هذه الغرفة .

ثم بعد أن أغلقت الغرفة - حسدا وظلما -استأجر مكتبا بالقرب من الجامع الكبير فكان دارَ فتوى ، وكان لا يخلو من سائل ومستفتٍ وطالب حاجة .

عرفته رحمه الله في أول حجة له، وإلى أن انقطع عن المملكة بسبب الثورة .

فعرفت فيه : شدة الصلة لإخوانه ، بالزيارة ، والمراسلة ، والهدية ، وأقلّ شيء السؤال عنهم .

وعرفت فيه العبادة الشاقة : فكان يأخذ نفسه بالعزائم ، ويحث من حوله على الأخذ بالعزائم ، ويرغبهم بالعزيمة ، ويبعدهم عن الرخص . فإذا أخذ أحد ممن معه بالرخص داعبه مداعبة معاتب .

كان رحمه الله مواظبا على صلاة الجماعة ، فلا يتركها مهما كانت الظروف، 

وكان شديد المحافظة على صلاة التهجد ، لا يتركها إلا لظرف قاس ، بل كان لا يتركها حضرا ولا سفرا .

وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، فإذا قدم إلى المدينة ومكة لعمرة أو لحج فالصوم الدائم عادته .

وكان في المدينة ومكة لا يغادر الحرمين إلا لزيارة عالم ، أو أخ ، أو أمر ضروري .

يغتنم وجود بعض إخوانه معه في الحج والعمرة فيعقد حلقة في الحرمين لتعليمهم قراءة القرآن والأحكام الضرورية في صلاتهم وحياتهم .

ومما اشتهر به رحمه الله : الذهاب لمسجد قباء يوم السبت ماشيا والعودة ماشيا .

وكذلك الحال في مكة : فالذهاب لعرفات ماشيا والعودة إلى الحرم ماشيا ، دون أن يجبر أحدا ممن معه .

وأذكر أنه في إحدى الحجات كان معه رجال مسنُّون ورغبوا أن يمشوا مع الشيخ فخاف عليهم، فترك المشي وركب معهم جبرا لخاطرهم .

وأما عمرة الجِعرانة (العمرة الكبرى) : فهي تكان أن تكون فرضا في حق من يحج أو يعتمر مع الشيخ .

لما قدم إلى المملكة لأمر عام وسافرت معه ، رأيت منه بعض المواقف ، ومنها :

أنه كان يتحدث مع أحد التجار عن فقراء حمص ، فأخرج هذا التاجر مبلغا ، وقال للشيخ : هذا لك ولأهل بيتك ، فقال الشيخ : أنا أتحدث عن فقراء حمص كلهم ، أما أنا وأهل بيتي فيكفينا الله. ولم يستلم المبلغ إلا بعد أن قال له التاجر : هذا لفقراء حمص .

وفي هذا السفرة : زرتُ معه الشيخ عبد النافع الرفاعي ، فتحدث الشيخ عن فقراء حمص ، فقال له الشيخ عبد النافع : يا شيخ حامد ، أنا لا أعرفك ، لكني سمعت الشيخ وصفي المسدي يمدحك ويثق بك ، فأنا أعطيك للفقراء على تزكية الشيخ وصفي لك .

وفي هذه السفرة : وبعد أداء العمرة والسفر الى جدة مع الحر الشديد والصيام ، قال الشيخ: أين نصلي التراويح ، فقلت للشيخ: نحن متعبون ، فقال : لازم نصلي التراويح . فصلينا في مسجد ثمان ركعات ، فلما عدنا إلى البيت : وكان التعب قد أخذ منا مأخذه ، إذا بالشيخ يتوضأ ويكمل التراويح عشرين ركعة .

وفي هذه السفرة : عرض عليه أحد أحبابه أن يشتري له إقامة، خوفا على الشيخ ، فقال الشيخ : لمن نترك البلد والناس .

وفي هذه الأثناء : اتصل عليه أحد أحبابه محذرا له من العودة لحمص ، وأن أحد الفروع الأمنية يسأل عن الشيخ ، فأصرَّ رحمه الله على العودة . وكان لطف الله وحفظه حافا به .

ومن المواقف التي تعلمتها منه : أنه طلبني مرة لأرافقه في زيارة حاج حمصي مريض ، فقلت للشيخ : الأفضل أن لا نزوره ، هذا منهجه غير منهجنا ، فقال الشيخ رحمه الله : هذا في حيه يقال له: شيخ ، وله أحباب ، وزيارتنا له تفتح لنا قبله وقلب احبابه .

هاجر رحمه الله من حيِّه ومنزله إلى الوعر ، ثم إلى ريف حمص الشمالي ، ثم إلى شمال سوريا ، وكأنه يعطي درسا لمن حوله أن لا يبتعدوا عن حمص إلا لضرورة ، وكأنه يعتذر إلى ربه أنه لا يفر من الزحف إلا بمقدار الحاجة .

فقد رحمه الله في هذه الثورة : ولد له ، واثنين من إخوانه ، واثنين من أبناء إخوانه .

رحم الله الشيخ حامد وأسكنه فسيح جناته،وعوَّض المسلمين خيرا

***

الشيخ حامد عسكر الصالح رحمه الله في سطور

محب الشيخ وتلميذه محمد مدور

عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا))؛ متفق عليه.

ولد الشيخ رحمه الله في مدينة حمص في ستينيات القرن الماضي من أسرة من قبيلة الفواعرة.

في بداية شبابه كان شابا عاديا،ثم التزم في دروس الشيخ العلامة محمود جنيد رحمه الله

وأصبح من تلامذة الشيخ المميزين بالاتقان والعلم الشرعي، ومن الشيخ محمود نهل علمه وفقهه فكان خير خلف لخير سلف

فكان الشيخ حامد من ثمار العلامة الشيخ محمود جنيد،حتى إنه سمى ابنه الكبير على اسم الشيخ،وابنته الكبرى على اسم زوجة الشيخ لشدة حبه وتعلقه به

حياته العلمية والفقهية:

كانت له دروس فقهية في جامع التقوى بحي الخالدية، ويجلس في غرفة الإفتاء في الجامع النوري الكبير.

حاولت أجهزة الأمن في ذلك الوقت منعه من الجلوس بغرفة الإفتاء بحجة أنه لا يملك شهادة أكاديمية، ففتح الشيخ بجانب المسجد مكتبة سماها الأنصار يجلس فيها ويفتي للناس

وكان يعتبر مرجعية لكل طلاب العلم في حمص.

عبادته وتواضعه:

كتب محبه وتلميذه ياسر أبو ضياء:

عليه سمت أهل العلم، وهيبة الدين، ولا يخرج عن عرف أهل العلم، وتظهر السنة في قوله وفعله ولبسه وجميع حاله، ويحرص على دعوة الناس وهدايتهم إلى ربهم، فهذا هدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، ومن ثم يصبر على أذى الخلق، ولا يثنيه ما يجد من أذية عن تبليغ شرع الله، ويصبر الناس، ويفتح لهم باب الفأل ولا يقنطهم،

رحمك الله تعالى فضيلة الشيخ حامد الصالح.انتهى كلامه.

كان الشيخ يصوم يوما ويفطر يوما وهو على ذلك الأمر من بداية شبابة اي من حوالي ثلاثين سنة،ويحج كل عام، ويعتمر مرتين واحدة منها في العشر الأواخر من رمضان

وكان يعتكف بالمسجد الحرام كل عام

ولا يتقاضى أية أجر مادي من الحج والعمرة

دائم الذكر ، وقليل الكلام، صاحب همَّة عالية وقوية، يكره التصوير والتصدر بالمجالس

ولباسه متواضع جدا.

في آخر عُمرة للشيخ كنت معه في مكة، وكان رمضان، ودخلنا مكة في الظهيرة، كنا أربعة وقد أنهكنا التعب صيام وعمرة ظهرا وقادمين من سفر.

والله إن الشيخ كان أكبرنا سنا(وقدرا ) لكنه كان بكامل نشاطه بيننا نحن الشباب

حتى إن أحد الإخوة أفطر من شدة التعب والحر.

كان الشيخ مواظبا على صلاة الجماعة ولا يحب السهر.

حياته الاجتماعية:

كان الشيخ رحمه الله محبوبا من كل الناس على مختلف توجهاتهم والكل يأتي إليه ويسأله

من طلاب علم وتجار،وكان الشيخ وصفي المسدي بالتحديد يحب الشيخ حبا كثيرا، ويعتبر من المقربين له بحمص.

وكان الشيخ أشد الناس بعدا عن حب الظهور والتصوير والاجتماعات العامة ولا يملك أي حساب على مواقع التواصل الاجتماعي.

صلة الشيخ حامد بالثورة:

في أول الثورة أتى الشيخ للعمرة، وكان باستطاعته البقاء، وعرض عليه ذلك، ورفض

رجع إلى حمص، وبقي فيها وكان يعتبر مرجعية لكل الفصائل والهيئات.

كان أخوه أبو علي عسكر رحمه الله من أشجع وأقوى قادات حمص والكل يشهد بذلك.

حوصرت حمص وانتقل إلى الوعر وتعرض لأكثر من عملية اغتيال والحمد لله أن الله نجاه منها، وكان رئيس الهيئة الشرعية بحمص،واستشهد ولده يحيى على خط الجبهة بالوعر، ثم بعد أن هجِّر الناس للشمال السوري هاجر معهم، ورفض الخروج من سوريا، وكان ذلك ميسر له،وكان يعرض عليه ذلك كثيرا ولكنه يرفض.

من المواقف التي أذكرها للشيخ وهي كثيرة:

منها أنه كان قبل الثورة لا يحب الدخول للجامع(المسمَّى زورا وبهتانا جامع الرئيس حافظ الأسد ) بحي الوعربسبب اسمه،فكان الشيخ لا يحب ولا يداهن هذا النظام المجرم من قبل الثورة.

في عام ٢٠٠٧ تقريبا زار وفد كوري نصراني مدينة حمص وزار الكنائس فيها ووزع المناشير وأقام الحفلات وجمع الشباب بحجة ذلك، أذكر وقتها أن الشيخ انزعج وتأثر كثيرا من أعمالهم،وكان لا يغضب الا لله، ولا يغضب لنفسه.وهناك مواقف كثيرة لايسعني ذكرها.

تعرض للتخوين من ناس كنا نحسبهم من الصالحين،لكنه كان يقول: غدا نلقاهم عند أعدل الحاكمين.

ومع هذا الكلام الذي ذكرته لا نقول: إن الشيخ لا يخطئ، فكلنا نخطئ ونصيب.

آخر حياته:

قدم الشيخ السنة الماضية لحج ١٤٤٠ بعد انقطاع دام عشر سنوات بسبب الثورة

وكأنها حجة الوداع للشيخ فقد كان متعلقا بمكة والمدينة،وبعدها بفترة كانت تأتيه حالات رجفان وتعب شديد، كانت آخرها منذ أسبوع بغيبوبة توفي بسببها.

وكان رحمه الله لا يشكو من أية أمراض

اللهم اجعل علمه وجهاده وهجرته في سبيلك.

اللهم اجرنا بمصيبتنا واخلفنا خيرا منها ولا حول ولا قوة الا بالله.

هذا ما ذكرته عن شيخنا بعد انقطاع عنه لأكثر من عشر سنوات.

إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي الله ورسوله.

اكتب هذه الكلمات من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم

محب الشيخ وتلميذه محمد مدور

***

بقية السلف العالم العابد الزاهد الشيخ حامد عسكر الصالح الفاعوري أبو محمود في ذمة الله. 

أسامة جورية 

ولد الشيخ حامد الصالح في مدينة حمص حي الخالدية عام 1968.

درس حتى المرحلة الثانوية في مدينة حمص، ولم يكمل دراسته الجامعية.

تتلمذ على يد الشيخ محمود جنيد كعكة، والشيخ محمد علي طه الدرة، والشيخ أبو السعود والشيخ إسماعيل المجذوب، والشيخ الغجري شيخ قراء حمص، وعدد من المشايخ والعلماء.

فقيه شافعي حنفي، تميز بتحقيق المسائل، وكان له جهد مميز في تحقيق وإصدار الكتب العلمية الشرعية.

عرف عن الشيخ علمه زهده وتواضعه وأدرك ذلك كل من جالسه أو عاشره. 

وقف حياته للعلم والتدريس والعبادة وخدمة الناس، وكانت مكتبته في حي الخالدية موئل طلاب العلم من جميع مناطق حمص فكانت عامرة بالدروس من بعد صلاة الفجر إلى الضحى ثم ينتقل إلى غرفة الإفتاء من بعد صلاة الظهر إلى العصر

حيث رشحه مشايخ حمص عالما ومفتياً في غرفة الإفتاء (غرفة الشيخ طاهر الرئيس) في المسجد الكبير في حمص عام 2004 فكان مرجع الإفتاء وإصلاح ذات البين فيها.

تتلمذ على يده عدد كبير من شباب حمص، وكان له عدد من الدروس العامة في مساجد حمص بالإضافة للدروس الخاصة بعد أن مُنع من التدريس والخطابة. 

كان من أوائل الذين خرجوا في الثورة في حمص مع رفيق دربه الشيخ صفوان مشارقة الذي استشهد على منبر مسجد العمري في الوعر وهو يخطب الجمعة عام 2013.

استشهد عدد كبير من أقربائه، والذين كانوا حوله منهم أخوه وولده، وعدد من أبناء عمومته وطلابه.

كان الشيخ حامد أبرز مرجعية شرعية أيام الحصار في حمص حتى خرج مع المهجرين الى ريف حلب الشمالي واستقر في الباب.

رفض الشيخ الخروج من سوريا رفضا قاطعا بعد رحلة التهجير رغم التسهيلات التي قدمت له وآثر أن يبقى مع أحبته وإخوانه وطلابه في الأراضي المحررة، واستقر في مدينة الباب، وكان له عدد من الدروس في مسجد فاطمة.

توفي الشيخ اليوم 6/صفر/1441هجري الموافق 9/10/2019 بعد صراع مع مرض الكلى.

فقضى رحمه الله تعالى مهاجراً مبطوناً نحسبه من الشهداء ولا نزكي على الله أحدا ونسأل الله أن يتقبله ويتولاه ويجزيه بما قدم عن الأمة خيرآ ويجعل الفردوس مأواه صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.