الشيخ أحمد الترمانيني - الشيخ المربي
الشيخ العالم المربي أحمد الترمانيني
1208 ـ 1293هـ
1793 ـ 1876م

 

رجل من حلب:

نحن الآن مع رجل من أعلام حضارتنا الإسلامية، كان في الآخرين حياة ومولداً، ولكنه من الأولين مسلكاً ومورداً، رجل لم تر حلب الشهباء مثله في زمنه علماً وعملاً، وصلاحاً وفضلاً.

إنه العالم الكبير الشيخ أحمد بن الشيخ عبدالكريم بن عيسى الترمانيني.

ولد في ترمانين من قرى حلب عام 1208 للهجرة وشرع منذ نعومة أظفاره في حفظ القرآن الكريم، وطلب العلم في محيط علماء حلب، حتى إذا اكمل له العمر اثنان وعشرون عاماً رحل مع أخيه محمد إلى القاهرة، حيث لزم الجامع الأزهر وعلماءه الكبار، أمثال الشيخ حسن القويسني شيخ الأزهر، والشيخ أحمد الدمهوجي الشافعي، والشيخ أحمد الصاوي المالكي، والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ حسن العطار والشيخ البيجوري...وكان هؤلاء أعلم أهل زمانه، كل في فنه وبابه.

من غرائب الدراسة:

وأثناء طلبه للعلم في الأزهر ذكرت له حادثتان تدلان عى مدى شغفه بالعلم وانشغاله به عن غيره.

وأولى تلك الحادثتين: أنه كان يأخذ الرسائل التي ترد إليه من أهله من حلب، فيضعها على الرف دون أن يفتحها ليقرأها حتى إذا انتهى من طلب العلم، وعزم على العودة إلى بلده، وذلك بعد ثلاث عشرة سنة، أخذ كل تلك الرسائل ففتحها جملة واحدة، فوجد أن فلاناً من أقاربه تزوج، وفلاناً مات، وفلاناً فعل كذا وكذا، فأحاط بأخبار أهله جملة واحدة دون أن يترك تلك الأخبار تعكر عليه همته وطلبه للعلم.

وثانيتهما: أن زملاءه في الدراسة عابوا عليه عدم اختلاطه بهم وانزواءه عنهم وما زالوا به حتى أخرجوه إلى فسحة معهم، فخرج ومعه كتابه إلى بعض رياض مصر، ثم غافل رفقاءه وهم ساهون لاهون، فانفرد عنهم وقرأ وطالع، وحمد الله الذي أشغلهم عنه، حتى إذا كان اليوم التالي تبين للأستاذ تقصيرهم، وظهر للشيخ فضل الترمانيني، فأثنى عليه أستاذه كثيراً.

المدرس المربي:

عاد الشيخ أحمد الترمانيني إلى حلب، واشتغل بالتدريس في فنون شتى وعلومٍ متنوعة وفي عام 1250هـ توفي أخوه الشيخ محمد، فتولى عوضاً عنه منصب إفتاء الشافعية ووظائفه الأخرى، مثل الدرس في الجامع الكبير، والتدريس في المدرسة العثمانية والقرناصية.

وكان حين توليه تلك الوظائف في قمة شبابه وأوج عطائه، فلم يلبث زمناً يسيراً حتى تخرج به رجال عديدون من أهل العلم والفضل، أمثال الشيخ الكبير محمد الزرقاء، والشيخ مصطفى الريحاوي، والشيخ عبدالقادر سلطان، والشيخ علي القلعجي، والشيخ عقيل الزويتني.

وقد ذاعت بعد ذلك شهرته في البلاد وطبقت الآفاق.

وكانت له طريقة في التدريس لا يحيد عنها ولا يميل، فمن الصباح إلى قبيل الظهر يقرأ الدروس الخاصة في علوم شتى، ومن الظهر إلى العصر في كل فصول السنة ـ وحتى رمضان ـ كان يقرأ درساً عاماً في الجامع الكبير وجامع بني أمية في حلب، يبقى في الدرس مقدار ما بين الظهر والعصر، ـ وذلك أحياناً قرابة أربع ساعات ـ قاعداً على ركبتيه لا يغير قعدته، ويتكلم في درسه بالكلام الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويشد المستمعين إليه شداً عجيباً، بحيث لا ينصرف أحد منهم حتى انتهاء الدرس، وكان الحضور كثيراً لا يقلون عن ألف رجل، وهو أثناء الدرس يذكر أحوال الحكام ومظالمهم، وتقصير العلماء، وأحوال التجار وغشهم، وكسل الفقراء، وربما صرح بأسماء بعض الأشخاص من المجاهرين بالمعاصي، غير هياب ولا وجل، مع صوت جهوري ولسان فصيح وتقرير حسن، فإذا أذن العصر صلاة ثم ذهب إلى بيته فلا يخرج إلى الصباح.

هكذا كانت حياته على وتيرة واحدة ونسق معين.

وكان الشيخ أحمد الترمانيني رحمه الله لا يزور أحداً من الأمراء أو رجال الدولة، بل كانوا يقصدونه للتبرك بزيارته، ويقعدون في دروسه كآحاد الناس، وقل أن يقبل هو زيارتهم، ولما اجتمع به الصدر الأعظم رشيد باشا الشرواني تحدث عن جلالة الشيخ ومهابته فقال:

ـ لقد حضرت مجالس الملوك كثيراً، فلم أر في جميعها ما رأيته في مجلس الشيخ من الخوف والمهابة والجلالة.

وحضر درسه ذات مرة شاه العجم، ثم طلب مقابلته فوافق بعد جهد، فقال الشيخ للشاه ـ وكان وكان الشاه واقفاً بين يديه بكل احترام:

ـ أسمع أن العجم قوم شيعة مع أن عندهم علماء، فهل تشيعهم مجرد تعصب، أو هو مبني على دليل، فكيف اعتقادكم؟ فرد الشاة بقوله:

ـ نحن يا سيدي عائلة الملك من أهل السنة والجماعة، وأنكر تشيعه بتاتاً.

أخلاق عالية:

وكان الترمانيني رحمه الله يكره كل ما يدخل على نفسه الغرور، فلا يمكن أحداً يمشي خلفه، ولا يعطي يده ليقبلها أحد، ولو أصرت عليه محبوه.

وذات مرة أراد أحد الولاة أن يقبل يده بالقوة، فما أعطاه الشيخ إياها، بل سحبها منه وهو متعلق بها حتى وقع طربوش الوالي من فوق رأسه!.. وذلك في جامع الرضائية بمحضر من العلماء والناس والطلبة.

ومن ورعه رحمه الله لم يكن الشيخ أحمد الترمانيني يتناول طعامه من رواتب التدريس، بل يفرقها كلها ويأكل من ربح التجارة وعمله فيها.

ومن تواضعه كان يخدم نفسه بنفسه، فكان يخبز خبزه بيده، ويحمله على كتفه حتى وهو في سن الثمانين، ويأتي بجميع لوازمه البيتية يحملها بنفسه، فإذا حاول أحد من خاصة أهل بلدته وعامتهم أن يساعده في حمل شيء منها أبى وامتنع، بل كان من تواضعه أنه ما رؤي راكباً فرساً أو حماراً أو بغلاً داخل البلد أبداً.

ومن ورعه وزهده لم يقبل ما قدم إليه كثير من الوزراء ورؤساء الحكومات من الهدايا العظيمة التي تبلغ مئات من الدنانير، وكان يردها، ويعتذر بأن لديه من المال ما يكفيه فلا حاجة له بها.

وحدث ذات مرة... وهو يقبض أجرة بعض العقارات لبناته مما اشترينه بمال ورثنه عن أمهن وكان من شأنه وضع مال كل واحدة منهن على حدة، فاختلط المال الذي لهن بماله في تلك الحادثة، فجمع بناته وطلب منهن المسامحة، وأخبرهن أن ذلك الاختلاط بماله لم يكن إلا سهواً دون قصد، وأعطى كل واحدة مثل ما يحق لها بعد ذلك.

صفات العابد الزاهد:

أما ملبسه وهيئته فكانت في منتهى التواضع، كان ربع القامة أبيض اللون أسود العينين خفيف اللحية، يلبس فروة من جلود الغنم.

وفي العبادة والتبتل إلى الله والخشوع بين يديه كان للشيخ أحمد الترمانيني القدم الراسخ والباع الطويل... فهو ينام نصف الليل أو ثلثيه بدون اضطجاع ولا فراش، بل نومه على جلد محتبياً، ثم يقوم إلى الصلاة وقراءة الأوراد والأذكار بصوت متوسط، بحيث يؤنس المستيقظ ولا يوقظ النائم.

ولم يكن يكثر من الطعام، بل يتناول ما يقيم صلبه ولا يملأ معدته.

دعاه والي حلب جودت باشا ـ الذي أخذ عنه الحديث، وكان أحد تلاميذه ـ إلى وليمة في رمضان فأجاب بعد امتناع شديد، ولما حضر وضعت الشوربا، فتناول منها لقيمات بعد الأذان، ثم قام إلى الصلاة، فلما فرغ منها دعاه الوالي إلى المائدة لتناول العشاء الدسم فقال: أما تعشينا!.. فأخبر أن ذلك مقدمة، وأن هذا هو الطعام الأصلي، فقال: لا، قد اكتفينا، وأبى أن يزيد على طعامه ذلك شيئاً.

كرامات الصالحين:

وقد تواتر نقل الكرامات عنه مما يكرمه الله به، يقول تلميذه الشيخ حمادة البيانوني:

عولت على أن أتزوج، ولكني ترددت هل أتزوج حلبية أم قروية؟ 

فذهبت أثنا ذلك إلى درس الشيخ فسمعته يقول:

إن بعضاً من الناس يريد أن يتزوج، ويتردد في أي المرأتين أحسن، الحلبية أو القروية؟! فأقول: إن القروية له أحسن، لأنها تكون أقنع باليسير.

وجاءه أحد تلاميذه وقد اغتمَّ لأن امرأته ولدت له مولوداً أسمر اللون، مخالفاً للون أبيه وأمه، فاشتبه الرجل في زوجته وأساء بها الظن، فلما حضر الدرس سمع الشيخ يقول: 

إنَّ الله قد حرم الجماع في الحيض لحكمة، فمن فعل ذلك وأتاه ولد أسمر مخالف للون أبيه وأمه فلا يلومن إلا نفسه، فلربما تغيَّر اللون بسبب ذلك، فعرف الرجل ذلك من نفسه وزال غمه وعاد إلى زوجته تائباً.

آثاره العلمية:

على أنَّ هذا الذي مرَّ كله من سيرة علم حلب الفذ في القرن الثالث عشر الهجري، لا يعفينا من ذكر بعض تآليف الشيخ أحمد الترمانيني الكثيرة، والتي بلغت اكثر من عشرين مؤلفاً في التفسير والفقه والنحو والتصوف.

فمن مؤلفاته تفسير القرآن العظيم، وشرح على قطر الندى في النحو، وتعليقات على البخاري الشريف، ورسالة في أحكام الإمام والمقتدي، وشرح على حكم الشيخ رسلان، وغير ذلك مما هو من الكتب الكبيرة أو الرسائل الصغيرة.

واشتهر الشيخ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يغلظ القول ـ على الرغم من طبعه اللين وسمته الهادئة ـ لكل مرتكب معصية أو قائم بجور أو داع إلى فساد، لا تأخذه في الله لومة لائم.

وكان ديدنه التأليف بين الناس وجمع القلوب إلى بعضها البعض، حتى اجتمعت قلوب الخلق من حوله على محبته.

ولم يكن يضيع وقته في غير ما فائدة، فإذا أطال أحد الجلوس عنده قال له ـ ولو كان من أعز أصدقائه ـ:

ـ قم مع السلامة ..!!

وقد اختاره الله إلى جواره في عام 1293 للهجرة يوم الأحد في الثالث عشر من ربيع الثاني، بعد عمر حافل بالخير والنفع، ودفن في مقبرة الجبيلة.

رحم الله الشيخ أحمد الترمانيني بقية السلف الصالح وقدوة الرجال النافعين.

تم نشر هذه الترجمة في عام 2009 وقد أعيد تنسيقها ونشرها اليوم 12/11/2018