عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بكتب التربية رسالة المسترشدين نموذجاً (3)

تحدثت في الحلقة السابقة عن تجليات التربية والسلوك عند شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ولاحظنا ان مواطن التربية والسلوك تجلت في:

أولاً: أدبه مع الله ورسوله وأصحابه الكرام ثم مع السلف الصالح من العلماء ثم أدبه مع أساتذته وشيوخة وطلابه وتلامذته وأصدقائه ومستفتيه والناس عامة 

ونتناول اليوم بقية التجليات التربوية والسلوكية عند الشيخ المربي مفردين عنايته بالكتاب واهتمامه به تربوياً وسلوكياً

ثانياً: في ذوقه الرفيع، وحسه المرهف الرفيق ويتجلى ذلك في حديثه وسمته ولباسه ومظهره وطريقة استقباله لضيوفه، واختياره للأمور التي يقتنيها، وألوانها ودقة ترتيبها في أماكنها في بيته، وفي عنايته الفائقة بكتبه ومكتبته وطريقة تعامله مع الكتاب.

ثالثاً: في دروسه ومجالسه العلمية، التي لم تخل من التعليم والتربية والتهذيب، فقد كانت له في حلب دروس متعددة في جوامع حلب، أفرد منها درساً خاصاً في جامع سيف الدولة كل يوم خميس للتربية والسلوك والأخلاق، بالإضافة إلى دروسه ومجالسه الخاصة مع طلاب العلم الشرعي في حلب، وفي الرياض من المملكة العربية السعودية، وفي كل مكان حلّ به

رابعاً: في حبه للعلماء والصالحين وكثرة مجالستهم أحياءً، وتتبع آثارهم وذكر قصصهم ومواقفهم التربوية الربانية أمواتاً.

خامساً: في عنايته بالكتاب اقتناء وحفظا وتألفاً وتحقيقاً، ولم يكن الكتاب عند شيخنا أمراً من نافلة الحياة، بل كان من أهم ما يستحوذ على عقله ووجدانه، فهو جليسه وأنيسه، وسميره ونجيه، وحبيبه وصاحبه في حله وترحاله، يسهر الليالي في مطالعته، ومناجاة مؤلفيه، ويقطع نهاره في محاورتهم ومناقشة آرائهم ومذاهبهم، وتحقيق ما كتبوه، أو الرد عليهم بما عرف عنه من ذوق وأدب.

والكتاب عنده بمنزلة الروح من الجسد، والعافية من البدن، فهو يقول: (الكتب من العالم تحل محل الروح من الجسد والعافية من البدن)(1) ، ويتمثل قول شيخ العربية الإمام محمود الزمخشري في كتابه نوابغ الكلم (مجد التاجر في كيسه، ومجد العالم في كراريسه)(2)

يسافر في طلبه إلى أبعد البلاد(3)، ويبذل في سبيل الحصول عليه الغالي والنفيس، ولعل قصته في بيع شالته التي ورثها عن والده ليحصل بثمنها على الكتاب، ويفرح باقتنائه فرح الغريق أنقذ من الغرق(4). 

وينذر أن يصلي لله كذا وكذا ركعة، إن هو حصل على الكتاب الذي يريد(5)، ويمنع نفسه من بعض الأطعمة ليشتري بثمنها كتباً عوضاً عنها. 

يفيق من غيبوبته في مرضه، فيكون أول ما ينطق به السؤال عن كتابه :(لسان الميزان)، ماذا حصل به؟ وأين وصلوا في طباعته وإخراجه؟ (6)

ويلوب لوب الحيران خلال سنوات عديدة، ليحصل عليه، وما قصته في الحصول على كتاب: (فتح باب العناية بشرح كتاب النقايه) الذي أوصاه باقتنائه شيخه الشيخ محمد زاهد الكوثري، هي القصة الوحيدة في حرصه على الكتاب واقتنائه(7).

فإن حصل عليه عامله معاملة الكنز الثمين، وقع عليه، وتناوله بكل لطف ، ليقرأه قراءة المحقق العاشق، ويسجل في حواشيه تعليقاته النادرة وملاحظاته القيمة، ثم يعيده إلى مكانه الذي عرفه الشيخ بدقة من مكتبته الضخمة التي تضم عشرات الآلاف من الكتب في مختلف العلوم والفنون. 

ومكتبة الشيخ ليست قطعة من الأثاث المنزلي، الذي يتزين ويتفاخر بها كثير من مدعي العلم، بل هي شغله الشاغل، مطالعةً وبحثاً وتنقيباً ومراجعةً وتحقيقاً وتعليقاً، وهذا شيخه الشيخ محمد السلقيني يحدث جلاسه فيقول: (أدخلوا مكتبة الشيخ عبد الفتاح، وتناولوا منها أيّ كتاب شئتم، فإنكم لا بدّ واجدين فيه تصحيحاً أو تعليقاً أو استدراكاً وفائدة )(8).

هذا الاهتمام الفريد بالكتاب والحرص عليه، تأليفاً، وتحقيقاً، وعنايةً وخدمةً واقتناءً، وحفظاً، ومطالعةً، وتعليقاً وتحشيةً، جعل شيخنا من القلة النادرة، التي تملك هذه المعرفة الواسعة في عالم الكتب، أنواعها وموضوعاتها ومؤلفيها وشرّاحها ومحققيها، وطبوعها ومخطوطها، ومتوفرها ونادرها، ومزايا كل كتاب وعدد طبعاته، وأماكن هذه الطبعات، وتاريخ صدور كل طبعة، وحتى عدد صفحات الكتاب، ومن أين يمكن الحصول عليه، ولا عجب في ذلك، فهو تلميذ الكوثري والطباخ ،وهو الرحالة الملحاح في طلب الكتاب، وحيثما حط رحاله في أي مدينة أو بلدة كانت المكتبات مبتغاه وراحته، يفتش عن مخطوطاتها ويطالعها أو يصورها في المكتبات الوقفية القديمة، ويقتني ما يبتغيه من المكتبات التجارية الحديثة.

وقد تناول الشيخ في كتبه مختلف العلوم، وإن كان اهتمامه بالحديث الشريف وعلومه والفقه وأصوله قد احتل الجانب الأكبر في مؤلفاته وتصانيفه، ولكن هذا لا يعني اغفال الشيخ لباقي العلوم، وعلوم التربية والسلوك خاصة، لأن الشيخ العالم العلامة كان مربياً فاضلاً قبل أن يكون عالماً متخصصا، وقد رأينا المكانة التربوية التي كان عليها متأثراً بما تلقاه من شيوخه الربانيين المربين، وتخصصه في علوم التربية التي تلقاها بالأزهر الشريف، لذلك فهو يتحدث عن تربية النشء المسلم حديث العالم العارف الناهل من تراث الشيوخ الكبار، لا حديث من قرأ بعض النظريات التربوية، وأخذ علومه مما ترجم من كتب الغربيين.

رفد الشيخ المكتبة الإسلامية بأعمال جليلة، ومؤلفات قيمة في موضوعات لم يسبق إليها، تمثل مدرسة فكرية مميزة في موضوعاتها ومضامينها وأسلوبها تخاطب العقل بأسلوب علمي رفيع، بعيد عن التكبر والإعجاب بالنفس، مزينة بالإخلاص والتواضع، وتعكس شخصيته وفكره وشفافية روحه. 

ومؤلفات الشيخ ليست تجميع معلومات كيفما اتفق، ولكنها كتب مدروسة بعناية فائقة، تقدم المعلومة الصحيحة، والفائدة الضرورية، بهدف توضيح ما غمض من الموضوع، الذي يعالجه الشيخ في الكتاب، أو بيان ما هو أصح وأقرب للحقيقة، أو إضافة معلومات جديدة، تفيد القار ئ والباحث، وكل كتاب ألفه الشيخ أو حققه أو اعتنى به له مكانته اللازمة في العلم، ويسد ثغرة بيّنة في موضوعه.

أما مقدماته للكتب التي حققها واعتنى بها، فهي دراسة علمية جادة مهمة في موضوع الكتاب، وفي علم المخطوطات، وفي دراسة المؤلفات الأخرى التي ألفت في الموضوع من قبل.

وكل ما كتب الشيخ يصطبغ بهذه الصبغة العلمية التربوية التعليمية الأخلاقية، وإن كانت هذه الصبغة أشد وضوحاً وأقرب تناولاً فيما اخترته من مؤلفات الشيخ في مجال التربية والسلوك. 

وإذا كان السلوك والتعامل، ينبي عن شخصية العالم حياً، فإنّ مؤلفاته تنبئ عنه غائبا ومتوفى، وسنرى فيما نقدم من كتبه، صورة جلية لأخلاق الشيخ الرفيعة، وسلوكه التربوي مع قرائه وتلامذته.

كثرت عناية الشيخ بكتب الأخلاق والتربية، فألف فيها بعض الرسائل، واعتنى بتحقيق وإخراج بعض كتبها النفيسة، وزينها بتحقيقاته وإفاداته النادرة، والضبط العجيب لمشكل ألفاظها، وتفسير دقيق معانيها، كل ذلك مع أدب رفيع وتواضع جم، يلاحظه القارئ في كل ما كتب الشيخ أو حقق.

وإذا كان شيخنا قد اتجه إلى التحقيق أكثر من التأليف، فذلك لتواضعه، وأدبه مع السلف الصالح، ولأنه يرى أنّ (إتمام بناء الآباء خير مئة مرة من إنشاء البناء من الأبناء، فضلا عن أنّه جزء من الحق الذي لهم علينا، والوفاء، فهم الأصل والنور الدليل، والفهم المستقيم، والعلم القويم، وما تركوا في آثارهم من بقايا فجوات طفيفة، لا يقتضي منا تخطيهم والاعراض عن آثارهم النفيسة(9)

يتبع

1 صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل ص.256.

2 من كلمة الشيخ في حفل الاثنينة الذي أقيم احتفالاً به.

3 انظر قصة حصوله على كتاب (التجريد الصريح فيما تواتر في نزول المسيح)

نظر قصته في بيع شالته التي ورثها عن والده لشراء بعض الكتب النادرة التي تهمه في كتاب (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) ص. 278.

4 نظر قصته في بيع شالته التي ورثها عن والده لشراء بعض الكتب النادرة التي تهمه في كتاب (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) ص. 278.

5 المصدر السابق ص. 279.

6 امداد الفتاح .ص 67.

7 المصدر السلبق.279.

8 من كلمة الشيخ محمد عوامة (لمحات من الجوانب العلمية في حياة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ) في مقدمة كتاب (إمداد الفتاح بأسانيد الشيخ عبد الفتاح).ص .134 .

9 من مقدمتة كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام اللكنوي.