عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بكتب التربية

رسالة المسترشدين نموذجاً الجزء الأول

مقدمة:

يذكر اسم فضيلة العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله ـ فيتبادر إلى ذهن القارئ ذلك الطود الراسخ الأشم في العلم والعمل والدعوة إلى الله، إلى شيخ من كبار شيوخ الحديث الشريف في هذا العصر، إلى فقيه متبحر في الفقه فروعه وأصوله، إلى لغوي بارع، ونحوي حجة عزّ نظيره، وقل ما شئت من الفنون والعلوم، لتجده فارسها وابن بجدتها.

وقلما تجد من يذكره مربياً ومرشداً، لأن معظم الناس ارتسمت في أذهانهم صورة نمطية عن الشيخ الصوفي المربي، ذلك الشيخ الذي يجمع حوله مجموعة من التلاميذ (المريدين)، يتفانون في خدمته، ويقبلون يده، ويرونه وسيلتهم إلى الله، ومفتاحهم لدخول الجنة. 

فهل كان شيخنا الشيخ عبد الفتاح ـ رحمه الله ـ من هذا النمط من الشيوخ المربين؟ 

وأين هو من التربية والإرشاد والسلوك؟ 

ومن أين استقى علومه في التربية؟

وبمن تأثر؟ 

وكيف تبوأ هذه المكانة الرفيعة في التربية والسلوك؟ 

وكيف تجلت التربية في حياته وسلوكه وعلمه وتعليمه ومؤلفاته؟ 

وللإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ لنا من الوقوف على شيء من حياة الشيخ وتكوينه العلمي والتربوي.

الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

لا أريد هنا أن أقدم ترجمة كاملة وافية لحياة شيخنا، لأنني سأجد نفسي مقصراً قليل البضاعة مهما حاولت تجويد ما أكتب وتحسينه في حق الشيخ، ولأن هذه الناحية قد أشبعت بحثاً ودراسة، وألف فيها عن شيخنا الكثير، كما أنني ترجمت له ترجمة وافية في كتابي (علماء من حلب في القرن الرابع عشر ) ولعل كتاب الدكتور محمد على الهاشمي (الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كما عرفته) من أجمع ما كتب عن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ كما ترجم له كثير من العلماء الأفاضل، وأخص بالذكر الترجمات التي قدمها نجل الشيخ: الأستاذ سلمان أبو غدة ـ حفظه الله تعالى ـ في مقدمات كثير من كتبه (1)، وهو ما يهمنا في هذا البحث، ولكنني سأكتفي في هذه العجالة بنقل بعض ما قاله السادة العلماء أصحاب الفضل في شيخنا والفضل لا يعرفه إلا ذوه، واقتصر على نقل رأي أحد أساتذته ، وهو الشيخ مصطفى الزرقا، وأحد أقرانه العلماء وهو الدكتور محمد علي الهاشمي، وأحد تلاميذه وهو الشيخ محمد عوامة، مكتفيا بما تفضلوا به في الجانب العلمي والتربوي عند شيخنا، لعلنا نقف على فكرة أرجو أن تكون واضحة لشيخنا في العلم والعمل والأدب والأخلاق والسلوك.

فهذا أستاذه العلامة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ يقول في تقريظه لكتاب (إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح)(2): (... فقد كان أخونا الذي فقدناه كنزاً إسلامياَ كبيراً من العلم والفضل، المحقق المحدث الفقيه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، علماً شامخاً راسخاً في علمه وفضله وبصيرته، وقدوة صالحة في سلوكه وسيرته العلمية، وأخلاقه الإسلامية، قلما يجود الزمان بمثله في هذا العصر الذي انفك فيه العلم عن التقوى .... ،إلى أن يقول: فقد كان أخونا ـ رحمه الله ـ فقيد الإسلام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من هذه القلة التي حملت الأمانة فأدتها كاملة غير منقوصة ، فقد كان في علمه وسلوكه وخلقه قطعة من بقايا السلف الصالح، تمثله خير تمثيل)(3).

وكتب الشيخ مصطفى الزرقا كلمة إلى احتفالية الاثنينة(4) التي خصصت للاحتفال بالشيخ عبد الفتاح أبو غدة وتكريمه كلمة جليلة، ذكر فيها مسيرة الشيخ العلمية، ومما جاء فيها: ( وأشهد أني ـ طوال هذا العهد المديد الذي عرفته فيه ـ لم أجد عليه ما يؤخذ في تقواه وورعه وسلوكه وأدبه العلمي، ووفائه للصداقة والفضل وصدقه وأمانته .... بل عرفت منه ـ في كلّ ذلك ـ أخلاق العلماء المخلصين المتواضعين الذين يؤثرون رضا الله تعالى على كل المغريات ويحاسبون أنفسهم، هذا إلى فكر علمي منفتح على زمانه ومقتضياته، دون تعصب أو غرور، مما جعله ـ بحق ـ من قادة الفكر الإسلامي في هذا العصر إلى جانب اختصاصه العلمي، وقد عرف لدى عارفيه بحرية فكره واعتداله، وتعقله، وحسن تفهمه وتقديره للظروف الزمانية والمكانية، مما جعله في واجهة رجال الدعوة الإسلامية)(5)

ويقول تلميذه النجيب العلامة الباحث المحقق الشيخ محمد بن محمد عوامة في تقريظه لكتاب إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح: 

وبعد.

(فإنّ سماحة شيخنا وعمدتنا العلامة الرحلة أبا المواهب مربي الأجيال، أستاذ الأساتذة، فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ حفظه الله تعالى وأمتع به ـ هو أحد دعائم العلم في عصرنا، وممن يرحل إلى لقائه والمثول بين يديه والاستفادة من أدبه وهديه وسمته ودله، وهو أحد الحلقات الكبرى في ربط الأحفاد بالأجداد الأماجد، لما وفقه الله اليه من الرحلات العلمية الكثيرة، التي لقي فيها الأكابر من بقايا السلف الصالح في علمهم وعملهم)(6). 

ويقول: (... وعلى هذا فإني أقول قول من يعتقد أنّ الله سيحاسبه على كلامه ، أقول: إنّ الله يعلم أني لم أسمع من سيدي الشيخ كلمة في هذه السنين الطويلة، ولم أر منه موقفاً أقول فيه: ليته لم يقل كذا، أولم يفعل كذا ، ومعاذ الله أن أدعي له العصمة، إنما هو توفيق الله له في القول والعمل)(7).

وجاء في كلمة الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي (8) في احتفالية الاثنينية ذاتها: 

(فضيلة المحتفى به: عالم أحب العلم وأحبه العلم، انقطع له وتفرغ من أجله، وصبر على متاعبه ولأوائه وشدته، ولاقى كثيراً من العنت وصبر، وكان كتابه: (صفحات من صبر العلماء) تعبيراً ووصفاً حياً لصبر العلماء من السلف على شدائد العلم، وهو تعبير - في الوقت ذاته - عن حب الشيخ للعلم، وحثه للشباب الناهض ليصبر على لأواء العلم وعلى شدته..، لا تراه - إذا دخلت عليه بيته - إلاَّ قارئاً أو كاتباً، أو منصرفاً إلى تحقيق مسألة من مسائل العلم..، عرف قيمة الوقت.. فهو لا يضيع دقيقة من الوقت في لهو أو في عمل غير ذي فائدة، ومن هنا جاء كتابه: (قيمة الوقت عند العلماء) - أيضاً - تقريراً لحقيقة قيمة الوقت عند السلف، وتأكيداً منه على حبه لاغتنام الوقت، وحضاً للشباب على أن يغتنموا من وقتهم، وأن يستفيدوا منه.

والجانب الثاني من جوانب شخصيته، أنه مربٍ من كبار المربين، لم يصرفه العلم على حبه له وشغفه به.. لم يصرفه عن التربية، لأنه كان يعلم أن العلم وحده لا يكفي، وأن شخصية الإنسان المسلم لا بد أن تتدرب على الخلق الحميد، الَّذي يترجم العلم إلى سلوك، وواقع طيب طاهر، ينبغي أن تترجم أحكام الشريعة وأخلاق الشريعة إلى سلوك وواقع الحياة، لا أن تكون كلاماً في بطون الأسفار، وكلاماً يباع للناس، أو أن تكون محاضرات تلقى في المناسبات..، وإنما ينبغي أن تكون أخلاقاً وسلوكاً وعملاً، وتعاملاً مع الناس، ومن هنا وجدناه يقرن العلم دوماً مع التربية، ويحض على التربية، قد يكون الإنسان وعاءً للعلم، ولكنه متخلف في سلوكه مع الناس، وفي تعامله مع الآخرين. ، وكان الشيخ يدعو - دائماً - طلابه للتمسك بأخلاق الإِسلام في سلوكهم وفي واقعهم العملي الَّذي يعيشونه، كان يصب عنايته بالتربية في محاضراته وفي دروسه وفي ندواته، وفي كتابه - مثلاً -: (من أخلاق المسلم) في محاضراته - الخاصة والعامة - كان يدعو - دائماً - لهذا السلوك وهذه التربية، وهمه كان تقويم شخصية المسلم على أساس راسخ من هدي الإِسلام ومن كتاب الله وسنَّة رسوله، وقد تربّى على يده جيل ضخم من شباب الشام ومن هذا البلد الأمين، وكلهم يقدرون فضله، ويعترفون بما أسدى إليهم من توجيهات، ومن دروس، ومن ملاحظات، ومن دعوة إلى الخير..

والَّذي أعانه على أن يسكب أفكاره التربوية في نفوس الشباب، وأن تثمر هذه الأفكار جيلاً تربى على هذه الأخلاق..، وقوفه على أرض صلبة من الأخلاق الحميدة، لأنه كان لا يأخذ إلاَّ بالعزيمة ولا يتتبع الرخص، وأنه كان - دائماً - وقافاً عند حدود الله، يقف دوماً عند قال الله، وقال الرسول، ومن هنا رأى فيه طلابه ومحبوه العلم التقي النقي، الجريء النزيه، الحر الَّذي لا يقول إلاَّ ما يفعل، وقبل أن يأمر الطلاب بخلق يطبقه على نفسه وعلى من يعول..

إنه المربي القدوة، الَّذي صاغ عقول مئات من الشباب في بلاد الشام، وفي غيرها، إنه الداعية المجاهد، الَّذي لم يتوان عن الصدع بكلمة الحق، والدعوة لكل ما فيه قوة المسلمين وعزتهم ووحدتهم وسيادتهم)(9). 

ولن أزيد على ما جاء في كلمات هؤلاء الشيوخ العدول لأنهم سدوا علي كل منافذ القول في هذا الجانب من حياة شيخنا رحمه الله تعالى.

يتبع

======

1 وممن ترجم له تلميذه الشيخ محمد عوامة والشيخ مجد مكي والشيخ حسن قاطرجي والأستاذ محمد عادل فارس و كاتب السطور وغيرهم

2 الكتاب لأحد تلاميذ الشيخ الفضلاء الأستاذ الشيخ محمد عبد الله آل الرشيد ـ حفظه الله ـ 

3 إمداد الفتاح ص. 14 

4 منتدى أدبي يقيمه الأستاذ الفاضل عبد المقصود خوجة في داره في جدة كل يوم اثنين يحتفل فيها بالعلماء المتميزين ويكرمهم

5 امداد الفتاح ص. 20 .

6 المصدر السابق ص. 115.

7 المصدر السابق ص. 118.

8 الدكتور محمد علي الهاشمي

9 من الكلمة التي القاها الدكتور محمد علي الهاشمي في حفل الاثنينة الذي أقيم للشيخ عبد الفتاح أبو غدة مساء يوم الاثنين في 15/11/1414هـ الموافق لـ 25/4/1994م