تاج العلماء ورئيس المحدثين أستاذ الشام الشيخ محمد بدر الدين الحسني رحمه الله

 

خطاب تأبين ألقاه في احتفال أقيم في مدينة الكسوة بعد سبعة أيام من وفاته:

تمهيد للشيخ محمد أبو الهدىٰ اليعقوبي :

 

هذه درة من الدرر النفيسة ، وجوهرة من الجواهر البديعة ، في ترجمة المحدث الأكير شيخ الشيوخ الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله . نمق سطورها علامة فقيه أديب خطيب لا زال ذكره حيا بين أهل دمشق هو الشيخ عبد الرزاق نجم الدين الحمصي الجوانية الذي تسلم منصب الفتوىٰ بالوكالة من شهر نيسان سنة ١٩٦٣ إلىٰ شهر تشرين الثاني سنة ١٩٦٤ . 

وهو في هذه الكلمة يصف المحدث الأكير وصف من يعرفه ويعرف قدره ، يصف سعة علمه ودقة ورعه ومبلغ تأثيره في الناس ، ويروي في خلال ذلك بعض القصص والأخبار مما لم يعرف من قبل ، وحق له ذلك فقد تتلمذ علىٰ الشيخ وقرأ عليه ونهل من معين علمه .

 

وقد كنت أود نشر هذه الكلمة منذ وقعت في يدي قبل بضع سنين ولم أجد لذلك الوقت ، ثم انقطعت عن جميع ما لي من الكتب والأوراق بما حل في الشام من البلاء ، وقد يسر الله تعالىٰ لي الآن فقرب لي ما بعد ، وجمعني بما نأىٰ ، فله سبحانه علىٰ ذلك أقصى ما يبلغ الحمد والشكر والثناء .

ونحن نخرج هذه الكلمة اليوم بمناسبة وفاة ابنه عميد الخطباء وأديب العلماء في دمشق الأستاذ هشام الحمصي رحمه الله ، ليتعرف الناس أصل هذه الشجرة ، ومنبت هذه الفصاحة ، وغراس هذا البيان .

وهذه الكلمة مما ينبغي أن يُزاد في الكلمات التي قيلت في المحدث الأكبر رحمه الله ، وهي مما يُستدرك علىٰ ما جمعه صديقنا العلامة المحقق المسند الشيخ محمد بن عبد الله الرشيد من الكلمات التي قيلت في الشيخ رحمه الله ، وقد أحسن هو فيما صنع ، ونعم ما جمع ، وما لا يُدرَك كله لا يتركُ جله ، والعلم بين أهله رحم موصولة .

وكان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله قد نشر هذه الكلمة في آخر الجزء الأول من كتابه المنبر السيار الذي طبع في مطبعة الترقي بدمشق سنة ١٣٥٤ / ١٩٣٥ علىٰ نفقه االسيد إسماعيل الصباغ صاحب مكتبة إحياء العلوم العربية. وهو كتاب ينفع المتدربين علىٰ الخطابة ، سرد فيه بعض خطبه ، وقدم له بمقدمة مختصرة في أصل المنبر وأصول الخطابة وفن الإلقاء ، مما يعرفك بأن الشيخ هشام فيما طبع عليه من البلاغة في الإنشاء ، وحسن السبك ، وسلاسة الإلقاء ٫ما كان ثمرة أبيه رحمهما الله تعالىٰ رحمة واسعة .

وقد ذكر الشيخ عبد الرزاق في ظهر الغلاف الأخير للكتاب : "انتهىٰ الجزء الأول من المنبر السيار ، ويليه الجزء الثاني مصدرًا برسم فضيلة شيخنا المرحوم الأستاذ الكبير ، والمحدث الشهير الشيخ محمد بدر الدين الحسني مع قصيدة عصماء لفضيلة الأستاذ الشيخ طاهر أفندي الأتاسي مفتي حمص يمدح فيها شيخنا المرحوم ويبين فيها ما له من المزايا الحميدة والسجايا الكريمة ، وما له من التآليف المفيدة" . ولا أدري إن كان هذا الجزء الثاني قد طبع إذ لم أطلع على خبر عنه ، بل إن الجزء الأول يعد من المفقودات لم يطلع عليه من ترجم للشيخ رحمه الله تعالىٰ كالدكتور مطيع الحافظ والدكتور نزار أباظة في تاريخ علماء دمشق ، ومؤلفات العالم أهم مرجع لمن يريد أن يترجم له .

وكان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله قد نشر الكلمة بعنوان (خطاب) ، ولكني اخترت لها من كلام الشيخ في مقدمة خطابه هذا العنوان الذي تراه (تاج العلماء ورئيس المحدثين أستاذ الشام الشيخ محمد بدر الدين الحسني رحمه الله) لما فيه من الدلالة على الموضوع والإشارة إلى الشيخ رحمه الله بما يليق به من الألقاب .

مقدمة الخطاب

خطاب ألقيته في حفلة تأبين لفقيد العلم والعلماء ، الشيخ الجليل ، والعالم النبيل ، الأستاذ الشيخ محمد بدر الدين الحسني ، أقيمت خصيصًا في الكسوة ، حضرها جمع غفير ، وعدد وفير ، وكلهم بين آسف وشاكي ، وحزين وباكي ، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة ، وبعد مضي أسبوع من وفاته ، فأثبتها هنا قيامًا ببعض ما للشيخ علينا من حقوق وزيادي ، واعترافًا لما له من المزايا في نشر شريعة الهادي .

وإني قد سلكت في خطابي هذا طريق الاختصار ، تاركا لزمرة كبار العلماء في دمشق هذا الميدان ، ليجلوا فيه جولة الخير ، ويُخرجوا للناس زبدة ما يعلمون من حياة ذلك البدر المنير . وقد عول رأيهم علىٰ أن يُفرغوا جهدهم في تأليف كتاب يجمعون فيه ما يتمكنون به من تعريف الناس مقام شيخهم ، وإن كانت شهرته تغني عن وصفه . ولعمري فإن هذا عمل عظيم ، لا يُعذرون بالتقصير فيه . وها نحن منتظرون ، والله ولي التوفيق .

 

نص الخطاب

 

أيها الشعب السوري الكريم

ويا أيتها الأمة الإسلامية

نبأٌ عظيم ، وخطبٌ جسيم ، وداهية كبيرة ، كل ذلك حلَّ بنا ، ونزل علينا ، ففطَر قلوبنا ، وصدَع رؤوسنا ، وضعضع أحوالنا ، إذ نُعِيَ إلينا رجلُ الفضل والفضيلة ، تاج العلماء ، ورئيس المحدثين ، وبقية السلف الصالحين ، العلامة الكبير ، شيخنا وأستاذنا : الشيخ محمد بدر الدين الحسني ، أستاذ الشام ، والمعروف فضله لدى الخاص والعام .

خَسفَ ذلك القمر الساطع المشع على العالم الإسلامي بأضوائه اللامعة ... انطفأ ذلك الضوء صباح يوم الجمعة في ٢٧ ربيع الأول سنة ١٣٥٤ هجرية بعد ٨٧ سنة كان فيها نوره ساطعا لم يضعُف فيها شعاعه ، إذ كان تولده سنة ١٢٦٧ هجرية .

وبخسوفه يسنا من ظهوره كرة أخرىٰ بين أظهرنا ، وعلمنا أنه خسوفٌ يطول انقشاعه - والموعد بيننا وبينه الآخرة - فزهقت لذلك أرواحنا ، وذفت عيوننا ، وبكته بكاء سخينا ، وأنَّتْ عليه جوارحنا أنينا محزنا .

وبتغيبه طوىٰ الدهرُ صحيفة رجل فذٍّ طالما جاهد في الله حق جهاده ، وأخْفَتَ صوتًا طالما كانت له نبرةٌ رنَّانةٌ تتجاوب أصداؤها في جدران جامع بني أمية بالنصائح الدينية ، والمبادئ المحمدية ، وستَرَ شخصية نابغةً لقد ضنَّ الزمن بأن يُظهر للناس مثلها ناصحة مرشدة .

فكم نشر بين الأمة تعاليم ربه ، وكم بث فيهم هدْيَ الرسول ، وكم أجهد نفسه في تعليم قومه وأمته ، فأسهر ليلَه وأتعبَ نهارَه ، وهو علىٰ ذلك دائبٌ علىٰ العلم مطالعةً وتعليمًا ، تحقيقًا وتدقيقا .

ولقد يشهد له التاريخ ، ويسجل له بين صفحاته الخالدة ، جهود ثمانين سنة ، كل أيامها باهرة ، وكل أوقاتها زاهرة .

إذ بدأ حياته العلمية وهو ابن سبع سنين ، فمن نشأته ولِعَ في العلم ولوعًا لا يُعادَل ، وأخذ يدرس بشغف وثبات على أعلام زمانه ، وأقطاب وقته . وساعدته العناية الإلهية ، حتىٰ تخرّج في سائر العلوم والمعارف ، وأجازه الشيوخ ، وظهر بمظهر علمي لم يظهر به أحد قبله .

وقد أتاح له الحظ الاجتماع بالعالم الكبير الشيخ إبراهيم السقّا معاصر الشيخ الباجوري عند زيارته لدمشق ، فأجازه أيضًا بالمعقول والمنقول ، بما أجازه به شيوخه . وينتهي سند إجازاته بالإمام مسلم . ومعلوم أن الإمام مسلما يتصل سنده بالنبي صلىٰ الله عليه وسلم . ولقد أجزت بها منه رحمه الله ، وتاريخ إجازتي سنة ١٣٤٦ هجرية ، وذلك في دار الحديث في دمشق .

ولئن قارنتَه رحمه الله بأحد الفضلاء المتقدمين عليه في الزمن فلا يسعك إلا أن تفسح له مجلسا رحبًا ، وتختار له مركزا ساميا بين الإمامين الكبيرين الفخر الرازي والشيخ الغزالي رحمهما الله . لأنك لو أتيته من قِبَل التفسير لقلت إنه سيد المفسرين ، ولو نظرته أو سمعته يحدث لقلت بلا شك رئيس المحدثين ، ولو أتيته من ناحية العلوم العربية والناحية الفلسفية في مختلف العلوم لحكمت بأنه أستاذها ، وإليه تنتهي رئاستها .

يقرر في درسه الذي يفتتحه بحديث من صحيح البخاري بسنده - وذلك الصحيح من جملة محفوظاته عن ظهر قلب - يقرر فيه سائر العلوم ، ويطبِّق في بحثه الطبّ والهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية ، ويأتي علىٰ فن الكيمياء وعلم النبات والحيوان والمعدن . وله تحقيقات في التصوف وسنن الله الكونية فاق فيها من تقدمه ، ولم يتبعه فيها من يأتي بعده .

يأتي بالشواهد لبحثه من مختلف الكتب في مختلف العلوم ، دون تكلف أو توقف ، بل فورًا وبداهة حتى أنك لتبقىٰ باهتًا من ذلك تردد علىٰ لسانك قول الله تعالىٰ : {يُوتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} محتارًا بم تلقبه ، وبم تصفه ... أسيد المفسرين ؟ ... أرئيس المحدثين ؟ .... أشيخ الأطباء؟ ... أ .... أ... أ...؟

وقد ذكر لي بعض علماء دمشق الفاضلين قصة يمدح فيها الشيخ رحمه الله لمناسبة قد اقتضت ذلك ، وذلك في حياة الشيخ وقبل وفاته بما يقرب من سبع سنين ، أحب أن أذكرها لما فيها من التنويه بشأنه .

قال لي : لما ظهر أمر الشيخ في دمشق ، وبدأ بإلقاء درس الحديث في جامع بني أمية حسده بعض علماء عصره ، وأخذتهم الدهشة منه ، كيف يذكر في درسه بلهجة سيالة عددا كثيرا من الأحاديث من مختلف الكتب استشهادا وتأييدا لما هو بصدده بالأسانيد والمسلسلات . وربما يوجد حديث مسلسل أو تحويل في إسناد من عدة طرق فيه عدد كبير من رجال السند يعسُر ضبطهم ، فضلا عن حفظهم ، ويبقىٰ من بعد صلاة الجمعة إلىٰ صلاة العصر علىٰ هذه الوتيرة . فلما ازداد تعجبهم أرسل بعضهم جملة من تلاميذه يجلسون في درسه ويكتبون جميع الأحاديث التي يرويها بأسانيدها وبغير زسانيدها ليراجعها وينظر صحة هذه الأسانيد وينظر صحة ألفاظ الحديث . فذهب التلامذة يوم الجمعة إلىٰ تنفيذ رغبة شيخهم وجلسوا في الدرس ، وكل منهم قد استحضر عدة أقلام حتىٰ إذا كسر أحدها يأخذ الآخر دون تأخير ، لما يعلمون من سرعة الشيخ . وكان من عادته رحمه الله أنه رذا أراد ذكر حديث من أي كتاب فلا بد أن يعزوَه إلىٰ مؤلفه ، ويذكر راويَه أيضًا ، فيقول مثلاً : أخرج الترمذي في جامعه قال حدثنا فلان قال أخبرنا فلان عن فلان عن فلان ، وهكذا إلىٰ آخر السند ، حتىٰ يتصل بالرسول الكريم . وكان يقول في البعض : أخرج الطبراني في جامعه [الصواب في معجمه] من حديث أبي هريرة مثلا قال قال رسول الله إلخ : فكتب التلامذة جميع الأحاديث التي ذكرها الشيخ في درسه وذهبوا إلىٰ شيخهم فجعلوا يقلبون الكتب ويضبطون الأسانيد فيجدون ذلك صحيحًا ، وربما استغرف عملهم هذا عن درس واحد أسبوعا كاملا وقد تكرر ذلك منهم ، حتىٰ اعترف له ذلك الشيخ بقوة الاطلاع والحفظ .

أقول : وهكذا أذعنت له سائر علماء عصره ، وقد انتهت إليه الرئاسة العلمية ، وأصبح هو المرجع في كل أمر . كما أنه أصبح موضع احترام جميع الأمة ، إذ شاع صيته في سائر الأقطار ، وقصدته الزوار من جميع الممالك والأمصار ، حتى من البلاد الأوروبية .

وكثيرا ما كان يحضر بعض علماء مصر البارزين إلىٰ دمشق بقصد الزيارة ، فيحضرون درسه ، فيخرجون وقد أكبروه إكبارا عظيما ، وصرحوا بانفراده بمزايا لم تكن عند غيره . منهم الأستاذ الكبير الفاضل الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقا أطال الله بقاءه ... ومنهم الشيخ رضوان العدل وقد أقام مدة طويلة في دمشق ، وكذا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمهما الله تعالىٰ رحمة واسعة .

والذي أحب أن أصرح به دون مبالغة أو مغالاة أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بحق لنفسه أو لغيره أنه يسد هذه الثغرة التي ثلمت بوفاته ، ويشغلَ هذا الفراغ الذي بقي شاغرًا إلىٰ يوم يبعثون . ولنا من الله ثقة أن يهيء لها أحد أحفاده المحترمين .

وقد زاره كثير من رجالات الحكومات الأجنبية في دار الحديث ، وقد شاهدت بعيني كثيرا منهم . ولا يأتي إلىٰ سورية مندوب سامي إلا ويتشرف بمقابلة الشيخ وزيارته في دار الحديث ، إذ أعدت غرفة خصوصية لاستقبال الوافدين ، فلا يخرجون من حضرته إلا وقد امتلأت نفوسهم إعجابا بهذا النادرة ، وإعظاما لشأنه ومكانته في نفوس المسلمين قاطبة .

وكانت حكومة الأتراك تعظم مكانه ، وتحترمه كرئيس ديني كبير لعموم الأمة الإسلامية . هذا جمال باشا التركي القائد الكبير ، مع ما له من العظمة إذ ذاك ، كان إذا دخل علىٰ الشيخ يزوره يبقىٰ منتصبًا أمامه واضعًا إحدىٰ يديه علىٰ الأخرىٰ كطرقًا رأسه في الأرض حتىٰ يلزمه الشيخ بالجلوس . وإذا خرج من حضرته يمشي القَهْقَرَىٰ أي إلىٰ الوراء ووجهه نحو الشيخ حتىٰ يغيبَ عن ناظره هيبة له واحتراما .

والحقَّ أقول : إنك لو أقبلت عليه لتشعر بالهيبة والإجلال ، مع أنه في التواضع لا يدانيه أحد ، ولا عجب في ذلك ، إذ إنه وارث لمقام النبوة ، إذ "العلماء ورثة الأنبياء" ، والعالم في قومه كالنبي في أمته . أليس وقد ورد أن أعرابيًا دخل علىٰ علىٰ الرسول صلىٰ الله عليه وسلم فلما رآه ونظر إليه برك بالأرض من الهيبة التي لحقته مع أنه صلىٰ الله عليه وسلم سيد المتواضعين ، فخاطبه بقوله : "هون عليك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في مكة" ، أي لست ملكًا جبارًا ذا حجاب ونواب وخدم وحشم وأبّهة وغير ذلك مما للملوك حتىٰ تكون منك تلك الفعلة ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد .

هذا ما عدا قسمًا كبيرًا من حياته كان فيه مثال الرجل الصالح التقي النقي الورعِ الزاهد الصائم القائم ، جميعُ مجالسه محفوظة من اللغو واللغط ، أبغض شيء إليه تنقيص أحد ، والتعريض بذم أحد . وهذه مزية يعرفها منه كل من جالسه لا يفتر لسانه عن الذكر والتسبيح ، وكان يكثر الصلاة علىٰ النبي صلىٰ الله عليه وسلم .

وها أنا ذاكرٌ لكَ قضية وقعت معي في مجلسه لتقف منها علىٰ مقدار تمسكه بالآداب ، وتعلمَ أن مقامه لا يطمع فيه أحد : كنت مرةً أقرأ أمامه في دار الحديث عبارة كتاب في المنطق أو البيان ، غاب ذلك عن ذاكرتي ، وذلك قبل الظهر من كل يوم ، وكان من عادته أن يسألنا عن الساعة وكم بلغت ليتهيأ للصلاة قبل حضور وقتها ، فصدف أن سألَنا وبجانبي زميل لي يقرأ معي ، فأخبره كلٌّ منا بغير ما أخبره به الآخر ، والفرق بين ما أخبرته به وأخبره به زميلي خمس دقيقات . فقلت : سيدي ! إن زميلي ساعته مقصرة عن ساعتي خمس دقائق . فقال لي في الحال : "الله يصلحك ، لا تقل هكذا" . يشير إلي أنه لا يجوز لك أن تذكر مثل ذلك ، لما فيه من الإشعار بتنقيص صاحب الساعة ، وأن ذلك إيذاء له . فنبهني إلىٰ أن ذلك علىٰ حد قولهم فلان دابته جموحٌ أو داره ضيقة ، فاستغرفت ربي . ولغيري عدة حوادثَ كهذه أو أخفىٰ منها وأدق ، في كلها ينكر الإنكار التام .

وكنت إذا أتيت علىٰ عبارة في الكتاب يقول فيها المؤلف مثلاً : "خلافا لفلان" أو "ردا على فلان" ، كان يظهر في وجهه الكراهية لذلك ، وإذا اقتضىٰ الأمرُ وقرأ هو عبارة كتاب ومر مثل هذه الجملة ونحن نضبط في كتبنا ، فما نراه إلا تعداها لغيرها ولم يذكرها . وأقول : فإن مثل هذه الدقائق قل من ينجو منها ، فنسأل الله التوفيق .

ولشدة محافظته علىٰ هذه الآداب ووقوفه مع الكتاب حفظ الله له إدراكه ووعيه إلىٰ أن لفظ النفس الأخير من حياته الزاهرة .

وقد اشترك في تشييع جثمانه إلىٰ مقره الأخير الجماهير العظيمة من أهالي دمشق ومختلف البلاد ، وكبارُ رجال الحكومة السورية ، فغصت الشوارع والأسواق بالناس ، وصُلي عليه في جامع بني أمية . وقد استغرق موكب الجنازة أربع ساعات ونصف من البيت إلىٰ المدفن من كثرة الازدحام ، والذين يسيرون بالموكب لا يسيرون إلا بأقدام متباطئة جدا لكثرة الازدحام ، فأول الموكب عند القبر في باب الصغير ، والجنازة بعدُ في شارع البزورية خارجة من الجامع الأموي ، وهي مسافة طويلة . والناس يبكون بكل ما فيهم من قوة ، وأصواتهم بالتهليل تعج عجيجا ، وهم يبتهلون إليٰ الله تعالىٰ أن يرحم شيخهم ويفسح له في الجنة مكانا رحيبا .

وكنت من جملة المشيعين أنتقل بخطوات متقاربة جدا يرافقني زمرة من طلاب العلم وغيرهم ، فقلت لهم أثناء سيرنا : هؤلاء الناس هم كأطفال تركهم أبوهم ولبىٰ دعوة ربه فعظُم عليهم فراقُه ، وباجتماعهم وتجمهرهم هذا يخف عنهم بعض ما يجدونه من مرارة الفراق ، ولكنهم إذا تفرقوا بعد أن يصير الشيخ رهين التراب ، وقد غُيبَ جسمُه تحت الأرض ، وخلا كل إنسان بنفسه أو مع أخصائه وذهبت تلك الجموع المحتشدة فلا بد أن يجد كل منهم ذلك المصاب صعبا ، ويذوق مرارةً يغَص بها ، وينشف منها ريقه بفمه ، ويزسف شدة الأسف إن كان فرّط في اجتماعه علىٰ هذا الشيخ العديم النظير . فصادق لي من كان معي علىٰ هذه النظرية .

وفعلاً رأيت ذلك بنفسي وأني كلما تذكرت ذلك ليلاً أو نهارًا قمت فزعًا مرعوبًا ، وصوت الشيخ يرن في أذني ، وشخصه يتمثل أمام ناظري ، ويخيل إليّ أنني جالسٌ بين حلقات الأمة المزدحمة في درسه تحت قبة النسر ، نلتقط منه الفوائد ، فإذا بي وأنا وحيد لست بين جموع ولا ازدحام ، وإنما هي خيالات وأوهام ، فيزداد ألمي ، وأقول : اللهم اجرنا علىٰ مصيبتنا ، وارزقنا الصبرَ علىٰ مصيبتنا .

وقلت أيضا لزملائي الذين رافقوني في ذاك الموكب الذي لم يحدث لأحد مهما بلغت رتبته رفعة وعلوا - هكذا علىٰ ما أرىٰ : لقد تحتم علينا أن نعذر أصحاب الرسول الأعظم صلىٰ الله عليه وسلم علىٰ ما أصابهم عند فقده ويوم وفاته ، إذ منهم من أُقعد ، ومنهم من أخرس ، ومنهم من هام علىٰ وجهه . وإن وفاة أستاذنا لقد ذكرتنا وفاة النبي الكريم فتجدد بنا المصاب ، وتضاعف علينا أمره ، وإن قلوبنا لتضعف عن حمل مصابَين عظيمين في آن واحد ، فصادقوا لي أيضًا علىا هذا .

وذكرت لهم رؤيا منامية رأيتها قبل وفاته بأربعة أشهر : وجدت أني جالس بين يديه رحمه الله في دار الحديث وجها لوجه ليس ثمة أحد غيرنا ، فرفع من أمامه ثلاثة أقلام وضم إليها رابعًا ، ومدها بيده نحوي حتىٰ قبصتها بيدي ، وقال لي : بقي أربعة . فمنعني الخجل والحياء عن الاستفسار منه ، وأخذت أفكاري تجول في تلك الجملة ، وقمت من النوم ، وأنا ألهج بها ، وكل يوم أرددها علىٰ خاطري ، حتىٰ عند انتهاء الأربعة أشهر نُعي إلينا وفُجعنا به ، فكان ذلك كالتنبيه علىا قرب رحيله إلىٰ جوار ربه .

وقد حصل عند دفنه هياج شديد من الناس ، وعلا الصياح والبكاء ، كما وقع مثل ذلك عند وصوله إلىٰ الجامع الأموي للصلاة عليه ، وإن جثمانه بقي خمس عشرة دقيقة وهو في مركز واحد قرب القبر بمسافة لا تزيد عن أربعة أمتار ، ولم يمكنه الناس من الوصول إلىٰ القبر . فكأنهم بهذا التأخير يتودعون من شيخهم ، ويملؤون أنظارهم من التطلع إلىٰ عمامته التي تلوح فوق النعش ، وقد علموا أنها نظرة أخيرة ، ووداع أخير . والعذر لهم .

وفي أثناء نزوله لحدَه ارتقىٰ جملة من الخطباء مكانًا عاليًا ، وألقوا خطابات وقصائدَ كلها تعدادٌ لمآثره ، ووصفٌ لأحواله . وهناك تنبه الناس أنهم فقدوا جوهرة ثمينة ، ودرة يتيمة ... تنبهوا إلىا أنهم فقدوا نادرة العصر ، وشيخ الوقت ... تنبهوا إلىا أنهم فقدوا أباهم الروحي ، فأمسوا كأيتام يرقُّ لبؤسهم كل ذي قلب رحيم ، فعادوا مطرقي الرؤوس ، مجروحي العواطف ، مكلومي الفؤاد ، رافعي أكفِّ الضراعة إلىٰ الله أن يحشرهم مع شيخهم تحت لواء السيد الأعظم صلىٰ الله عليه وسلم .

كلمتي الأخيرة أيها السادة هي أن أقول : إن كان أستاذنا قد غُيبَ في التراب ، وغاب جسمه عنا ، فنجمه لا يزال ساطعا ، ونبراسه لا يزال لامعا ، وذلك بما أبقىٰ في نفوسنا من الآثار الحسنة التي تلجئنا لأن نذكره دائما ولا ننساه ولا ننسىٰ جهوده التي بذلها في بثه قواعد الشريعة ، وتضحياته براحته وهناءته في المطالعة والانكباب علىٰ العلم ، ليرفع لأمته المجد ، وليبني لها صرح العز بين الأمم .

وإن روحه الزكية الطاهرة لترفرف علينا وتطل من مقامها الرفيع تنادينا للاتحاد ونبذ الشقاق ، وأن نكون صفًا واحدًا ندعو للوئام والوفاق .

 

ففي ذمة الله ... 

وإلىٰ رحمة الله ... 

أيها الراحل الكريم ... 

ويا أيها الشيخ الجليل ... 

سقىٰ الله قبرك غيثًا هاطلاً من رحمته ورضوان ..

وجعل مثواك أعلىٰ فراديس الجنان .

الأستاذ الشيخ عبد الرزاق نجم الدين الحمصي الجوانية