من أعلام الأزهر: فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة

 

مازلتُ أذكر ما دار في ندوة لواء الإسلام المنعقدة لتأبين الإمام الأكبر محمد الخضر حسين، حيث قال أحد المتحدثين إن الخضر بقية السلف الصالح، فاعترض الأستاذ محمد أبو زهرة قائلاً: إن معني ذلك أن السلف الصالح قد انتهي بموت الأستاذ الخضر، ومازال في المسلمين مَن يسير على منواله، فالأولى أن نقول: إنه من بقايا السلف الصالح، وهذا حقٌ فبقايا السلف الصالح لا يزالون يُرسلون الضوء الثاقب في ظلام الحياة، ومِن هؤلاء الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، وهناك وجهً للشبه بينه وبين الإمام الخضر حسين، هو التمكّن مِن علوم اللسان والشريعةِ معاً على نحو متساوٍ.

أول ما سمعتُ عن الأستاذ أبي غدة في مُفتتح الأربعينيات حيثُ كان طالباً بكلية الشريعة، وله بزملائِهِ ودٌّ علميُّ يجعلهم يتحدثون عنه مكبرين، إذ كانَ ذا صلةٍ طيبة بأساتذته.

-لم يغادر أحداً من ذوي المثَالية فيهم، على اختلاف منازعهم العلمية، من مُجددٍ متوثب، إلى محافظٍ متشدّد، وتلكَ هي ميزةُ الطالب الطُّلعَة الذي يرد الأندية والمحافل ليأخذ من كل متحدث ما يروقه دون أن يتعصب لأحد منهم، فمن أساتذته الأعلام الفضلاء، مصطفي صبري، ومحمود شلتوت، والكوثري، ومحمد المدني، والخضر حسين، وأحمد شاكر، وبين هؤلاء من الاختلاف الفقهي ما قد يضطر الناشئ المتسرّع إلى الانحياز إلى فريق دون فريق ؛ بل إلى التعصب الحاد على فريق يُخالف مشربَ أستاذٍ أشير له فيكون حرباً على المخالف، ولكن الأستاذ /عبد الفتاح رُزِقَ انفساحاً في النظر، واتساعاً في الأفق لم يجدّ معهما داعياً إلى التعصب لأستاذٍ دون أستاذ، وقد أصابَ، لأنَّ الأيام أثبتَتْ أن لكل إمام وجهة صائبةً.

بزغ نجمُ أبي غدة في الأوساط الأزهرية، ثم انتقل إلى الأوساطِ الأدبيّة، حين بدأ يرسل نقداتٍ علمية موجزةً على صفحات مجَلاَّتِ الأدب، تَدُلُّ على بَصَر و سداده.

لقد كان الأستاذ الكبير محمد كرد علي وثيق الصلة بالعلامة أحمد تيمور حيث كان يؤم منزله.. الليالي.. ذوات العدد، قارئاً في مكتبته الحافلة، ولكنه كالأستاذ أحمد أمين وقَعَ في خطأٍ جوهريّ يتعلق بسيرة أحمد تيمور فيما كَتَباه عنه، ولم يلتفتُ إلى تصحيحه غير الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، إذ كتب في مجلة الرسالة (1) تعليقاً مُوجزاً يضع الحق في نصابه، وكان فيما قاله الباحث الشاب الواعد ما يلي: (يذكر الأستاذان أحمد أمين بك ومحمد كرد علي بك في كتاب ذكرى أحمد تيمور الذي ظهر حديثاً في ص 30، وص 77 أن العلامة أحمد تيمور باشا كان في جُملة أساتذته الشيخ نصر الهوريني وأنا أعلم أن وفاة الشيخ نصر الهوريني كانت سنة 1291هـ. كما ذكره العلامة تيمور في كتابه ( تصحيح القاموس ) ص 42، والأستاذ الزركلي في الأعلام، والعلامة تيمور وُلِد سنه 1288هـ فتكونُ سنه ثلاث سنوات عند وفاة الشيخ الهوريني، ومُمْتَنع أن يكون الباشا تيمور في هذا السن صديقاً للهوريني أو تلميذاً له، فَذِكْرُهُ في معارف أحمد تيمور خطأٌ وَجَلَّ من لا يُخطئ).

نقلتُ هذا التعليق الموجز بنصه، ليدلّ على منحى الأستاذ العلمي منذ حَمل أمانة القلم في عهده الباكر، فهو أولاً يميل إلى الأدب النفسي في تخطئة ذوي الرأي، فيلتقى بإيضاح الخطأ دُون تزيُّد أو تهجم، وهو ثانياً، يذكر رأيه مؤيّداً بالمصدر التاريخي الذي لا يقبل الدفع، وهو ثالثاً يلتزم بالإيجاز الدقيق في تصحيح الأخطاء، وهذه السِّمات الثلاث قد ظلَّت ديدنه في كل ما أثر عنه من تصويب ونقاش، على أن أقوى مصدر عرفني بالأستاذ بعد أن رأيته في مشاهدَ كثيرةٍ مع الأستاذ الكوثري، هو السيد زكي مجاهد صاحب المكتبة العلمية بالصنادقية، وخان جعفر ؛ إذ أتيح لي أن أعرف ما بينهما من الود، ولم يَحرمني من الاطلاع على ترجمةٍ موجزة كتبها الأستاذ زكي محمد مجاهد، في كتابه ( الأخبار التاريخية في السيرة الزكية ) عن الشيخ أبي غدة قال فيها(2):

- الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحلبي الحنفي المذهب، وُلد في مدينة حلب بسوريا، ونشأ بها، وتربى وتلقى العلوم الشرعية والأدبية على كبار علماء حلب، ودمشق، ثم سافر إلى القاهرة، والتحق بالجامعة الأزهرية ونال شهادة القسم العالي، وفي أيام إقامته بمصر تعرف على كثير من علماء العصر، وأخذ عنهم العلوم الشرعية ومنهم شيخنا المرحوم: محمد زاهد الكوثري، إذ حضر كثيراً من دروسه، ومجالسه، وصار من كبار تلاميذه، ولما عاد إلى وطنه اشتغل بالعلم والتدريس في المدارس ثم في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وسافر إلى المملكة العربية السعودية، وعين أستاذاً في كلية الشريعة بجامعة الرياض ( كذا ) وقت تعرفت به أثناء طلبه للعلم بالأزهر وبيننا مودة وصداقة علمية وأدبية وهو دائم الزيارة لنا في مكتبتي بخان جعفر، كلّما زار القاهرة، ومن المساعدين في نشر كتابي (الأعلام الشرقية)، ومن مصادره التاريخية، وهو من العلماء المشتغلين بالعلم ونشره، والتأليف فيه، وتحقيق الكُتب العلمية والدينية، وجمع الكتب في جميع العلوم.

هذه الترجمة الموجزة التي كتبها الوراق الطلعة الأستاذ زكي مجاهد، تقدم خلاصة لأرشيف حكومي يوضع في سجل الشيخ، وقد فات صاحبها أن يتحدث عن جهاد الداعية في وطنه، حين كان بطلاً من أبطال حرية الرأي في دمشق وحلب، وحين جلجل صوته في المجلس النيابي داعية إلى تطبيق شريعة الإسلام، وهي صحائف خالدة طاهرة، لم تدون للآن على وجهها الصحيح، ولكن ذوي الإنصاف يعرفونها حق المعرفة، ويذكرون صاحبها ذكراً مضمخاً بالعبير، وقد أتيح لي أن أسعد بلقاء الأستاذ في فترات قصيرة حين كنت مبعوثاً للأزهر في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد سعود، وكانت تلاصق كلية الشريعة التي يعمل بها الأستاذ، فكنا نتلاقى تلاقياً عابراً في ساحة الجامعة، وفي مكتبتها، وقد لمست من فضله وعلمه ما بهرني حقاً، وإذا كانت كتبه الشهيرة تنطق بعلمه، فإن سلوكه العلمي واتجاهه الخُلقي في حاجة إلى تسجيل، حيث استطاع الرجل العلامة أن يكون واسطة عقد لكوكبة من أولي الفضل أساتذة وطلاباً، يردون مكتبته، ويسمعون توجيهاته، وينتسبون إليه في مجال البحث والتنقيب، وهي مسئولية كبرى تلقى على عاتقه خارج الميدان الجامعي، إذ لا ينتسب إليه في هذا المجال إلا الباحث الحقيقي لا الطالب الرسمي، ومع هذه الحفاوة البالغة بعلم الأستاذ وفضله، فأنا أعلم أنه لاق صعوبات جمة من نفر لا يروقهم أن يتحدث تلميذ عن أستاذه، وإذن فحديث أبي غدة عن الكوثري وسعيه في نشر مؤلفاته جريمة يجب أن تكون موضع الملامة لدى هؤلاء، وكنت قد عارضت بعض آراء شيخنا الكوثري في مقال لي، فجاءني مَن يمدح المقال ويقول: إنه صدمة للشيخ أبي غدة، فصرخت في وجهه، وقلت يا أستاذ: أنت لا تعرف الإمام الكوثري ولا الأستاذ عبد الفتاح، فهما في مستوى لا أرقى إليه. ولا أحسبك تدركه! قال: ولم خالفت الكوثري قلت: مخالفة التلميذ لأستاذه في مجلس الدرس، وهو يعرف أنه ينهل من حياضه، ويقتبس من نوره، فخرج الناقد المعجل غاضباً، وهنا أدركت أن الشيخ أبا غدة يلاقي بلاء أي بلاء من أدعياء المعرفة، فحرصت على أن أشيد به في كل مجلس، وهو لا يعلم هذا، لأني أنشد الحق دون اهتمام بعمرو أو زيد، ولكن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فقد أدرك الرجل بإلهام البصير ما أكنه له من حب، فكنت أتلقى سلامه على البعد شاكراً، أبادله مثله صامتاً، وهو مذهب خاص بنفر من الناس تتعارف لديهم الأرواح، ولا تتلاق الأشباح.

كانت أنباؤه العلمية تفد إليَّ، فكان أعجب ما أعجب من أمره هو صبره الملح الدائب فصادف من ذوي الفضل في هذه الربوع الشاسعة من يجتمعون لعالم واحد إلا في الندرة النادرة، وقرأ من نفائس المخطوطات عربية ودينية ما عزَّ على غيره أن يسمع باسمه، فضلاً عن أن يقرأ صحيفة منه، وأذكر أنه روى عن علماء الهند من التحف العلمية ما كنت غير متصور لوجوده، كما تحدث عن أئمة هناك، لم تصل إلي أسماؤهم فضلاً عن مؤلفاتهم، وبسبب ما كتب عن هؤلاء أخذت أحاول التعرف إليهم، وأجمع ما أستطيع جمعه من أخبارهم، وهيهات أن أصل إلى بعض ما يعلمه الرجل الكبير عن هؤلاء الكرام...

وما زلت أذكر قول صديقي الأستاذ الدكتور عبد القدوس أبو صالح منذ ثلاثين عاماً عن الشيخ أبي غدة بأنه من كبار شيوخ الحديث في هذا العصر، وقد كان هذا منذ زمن بعيد، فماذا يقول عنه الآن، وقد بلغَت مؤلفاته في الحديث وحده، ثلاثين مؤلفاً، وقد طالعت قائمة مؤلفات الأستاذ في خاتمة (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي) فوجدتها تجمع أكثر من خمسين كتاباً، كلها مما يفيد الدارس البصير، فضلاً عن المتصفح العجول، ففيها كتب ضافية، عن الجرح والتعديل، وعن تمييز الفتاوي عن الأحكام للإمام القرافي،[وهو كتاب نادرة في موضوعه واتجاهه]، وعن فقه أهل العراق، وعن مسألة خلق القرآن، وعن فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر، وعن منهج السلف في السؤال عن العلم، بل إنها ضمت مؤلفات عن الأدب والخط مثل شرح قصيدة أبي الفتح البستي، والترقيم وعلاماته في اللغة العربية، وتصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمية، وهذا غيض من فيض.

وسأحاول أن ألم إلمامة موجزة ببعض كتبه في الحديث ليدل المذكور على المطوي، فأشير أولاً إلى كتابه:

(لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث) لأنه كتاب يفيد المثقف والمتخصص معاً لقرب تناوله، وسهولة سياقه، سهولة لا تخش حق المضمون المقرر من قضايا العلم، إذ تحدث المؤلف في نصاعة شفافة عن مقام السنة المطهرة من كتاب الله، وموقعها من الشرع الحنيف، وهو حديث كرره الأستاذ في أكثر من كتاب ؛ لأن الحملة الكاذبة على حجية السنة منذ بزغ قرنها الشيطاني في أوائل هذا القرن على يد المستشرق المجري جولدزيهر، قد وجد من الأذناب من حاول تقرير باطله مضخماً، حتى اقتنع بعض القراء بهذه المحاولة عن قصور فهم، فقام من سدنة الحديث من أقروا الحق، وفي طليعتهم السيد محمد رشيد رضا وجمال الدين القاسمي، وهما من جيل الأساتذة الذي ينتمي علماء هذا الجيل إلى مشيختهم النافعة، وجاء جيل الأستاذ عبد الفتاح فكفى وشفى.

والأستاذ في طليعة هؤلاء البررة بما سجل ودحض، وقد اقتضاه الموقف أن يتعرض في كتابه السالف إلى تمحيص طائفة من الأحاديث الضعيفة مبينا وهنها الركيك وإلى الخلوص لأهم أسباب الوضع في الحديث ونتائجه منتهيا إلى حديث شاف عن الإسناد، وتاريخ الرواة والرجال، ونقد الرواة، وبيان حالهم، وعلم الجرح والتعديل، وعلم مصطلح الحديث، وأمارات الحديث الموضوع!

وإذا كنت حمدت وضوح هذا السفر القيم، فإني أحمد دقة كتابين آخرين في هذا المجال هما كتاب: (الإسناد من الدين)، وكتاب (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي)، لأنهما أضافا الجديد حقاً فيما عالجاه من معضلات، فالكتاب الأول يتحدث حديثاً علمياً عن مكانة الإسناد من الدين بعد تدوين العلوم ورسوخها، وعن تحريفات غير مقصودة وقعت في كلام بعض الأئمة، وكان جميلاً أن ينتقل المؤلف إلى حديث أدبي عن اهتمام اللغويين بالسماع والإسناد، ناقداً أبا منصور الأزهري في نقله عن الكتب دون رواية شفوية.

أما ما أبدع فيه كل الإبداع فهو حديثه عن ألوان من التحريف اللفظي لأئمة كبار، فقد تتبَّع مؤلفات شهيرة لأعلام كبار ليرصد ما وقعوا فيه من خطأ لا يسلم منه بشر.

وقد آن أن أترك مجال الحديث إلى سواه، وأول ما اختاره في مجال التربية الإسلامية الرشيدة كتاب (صفحات من صبر العلماء)، وهو كتاب لو لم يكن لمؤلفه غيره لكفاه مجداً وتقديراً، لأنه نمَّ عن اطلاع غزير، وذوق رقيق، وسمو في الاختيار، وبراعة في التعبير، وإيجاز هو البلاغة بعينها، فإن إيراد الوقائع المدهشة لا يحتاج إلى تعليق يذهب ببريقها الساطع، وهذا ما عناه المؤلف حين قال: (واقتصرت في هذه الصفحات على إيراد الأخبار والوقائع دون تحليل أو تعليق عليها إذ هي ناطقة بذاتها لا تحتاج إلى شرح وبيان)، وهذه الطريقة أحبذها كل التحبيذ ؛ لأن شغف بعض الثرثارين بالإسهاب المطيل يطفئ الجذوة التي أتقدت من روعة الحدث، وأذكر أني قرأت من قبل كتاب (من أخلاق العلماء) للأستاذ محمد سليمان فوجدته يحوي أكثر من خمسمائة وستين نادرة من نوادر العلم والخلق والترفع والزهد والشجاعة الأدبية، فكانت بإيجازها اللامع مصدر إشعاع باهر يأخذ النفس، قبل أن يبهر العين،، وتمنيت أن يحذو حذوه عالم من طرازه فجاء كتاب الأستاذ عبد الفتاح فوق أمنية المتمني، وقد حُليت هوامشه بحواش نادرة ممتازة، يندر وقوعها إلا على يده لؤلؤي غواص.

وليس هذا الكتاب وحده الذي حظي بأمثال هذه الحواشي فأكثر كتب أبي غدة ذات حواش وشروح، ولا أنسى أن أذكر على سبيل المثال حواشيه العجيبة الساطعة المسهبة على كتاب (رسالة المسترشدين) للحارث المحاسبي فقد فاقت كل تقدير، ولولا حبي للمحاسبي لقلت إنها ارتفعت بقوله أرقى السموات ولعل كاتباً مبدعاً يعمد إلى كل قصة موجزة ذكرها المؤلف، فيتخذ منها سبباً لإبداع فني في رواية أو قصة تثير الأحاسيس، لأن بذرة التأثير فيما جمعه أبو غدة مهيأة لأن تنمو وتزهر وتورق وتثمر حتى تصبح دوحة يانعة، بإلهام فنان مقتدر، وأضرب المثل بقصة بقي بن مخلد التي رواها المؤلف القدير في صفحة 58 وما بعدها من الطبعة الثالثة فقد قرأها الأستاذ الكبير علي الطنطاوي في مصدرها الأول، وكتب عنها قصة رائعة في مجلة الرسالة سنة ۱۹۳۹ منذ أكثر من نصف قرن، فأين تلاميذ الطنطاوي ليغوصوا على هذه الفوائد في بحر الأستاذ أبي غدة، فيبلغوا بها حد الروعة في عالم الفنون! أين أين؟

ولم يستطع المؤلف أن يكتم مواجده الكظيمة، حين تثور عليه هذه المواجد!! وكيف يكتمها وهو يصطلي بجمرها اللاهب بين أضلاعه، ويحتاج إلى تنفس يلطف ما يلذعه من أوار، فهو حين يذكر جهود السابقين في طلب العلم بالماضي يتذكر ما يراه في الحاضر من قصور فادح فتلتاع مشاعره التياعاً يدفعه إلى أن يعقب بمثل قوله ص 109:

(فوازن رعاك الله بين هذه الدراسة التي أثمرتها الرحلات، وبين دراسة طلاب جامعاتنا اليوم يدرسون فيها أربع سنوات، وأغلبهم يدرسون دراسة صحفية فردية، لا حضور ولا استماع ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق ولا تأس ويتسقطون المباحث المظنونة للسؤال من مقرراتهم المختصرة، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقرارت، ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير الهامة من المقروءات ، [ والهامة أيضا وهذا الغالب].

[ولا] أستطيع مقاومة الإغراء الذي يدفعني بعنف إلى الإلمام بحديث موجز عن كتابه النادر (العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج) وهو كتاب يجذب كل قارئ إلى محتواه، ولو ترجم إلى بعض اللغات لأحدث من الدهشة ما يبهر كل قارئ.

ومن أعظم ما في الكتاب تحقيقاته الهامشية التي قد تطول وتمتد، وفي كل سطر بل في كل كلمة، بل في كل حرف مجال رائع للنظر الدقيق ومن ألطف الأمور أنه يعتذر عن الإطالة الدسمة المنتقاة فيقول (ص79) ومعذرة من الإطالة في تصويب هذه الكلمة، مع أن هذا التصويب قد عصف بآراء تداولها الناس و كادت تكون من المقررات.

وما انفرد به هذا الكتاب تراجمه الدقيقة لنفر من المعاصرين كالشيخ خليل الخالدي، وبشير الغزي، وسعيد النورسي ومحمد الكافي، وليتني قرأت هذا الكتاب من قبل لأني عانيت معاناة صعبة في ترجمة الأستاذ شكري الألوسي والنورسي سعيد قبل أن أعلم شيئاً مما كتب أستاذنا أبو غدة 

[الذيٍ يطبع الكتاب عدة طبعات، وفي كل طبعة يزيد ويزيد حتى يكون الفارق بين الطبعة الأولى والرابعة فرق بين الطفل والكهل، وهو توفيق إلهي أمده الله به، ولا أجد في مجال التربية أروع من هذا الكتاب وسابقه، وقد شغلني لبابه عن الإشادة بالمقدمة العلمية الرائعة التي فصَّل فيها الشيخ من العزوبة والزواج فكان في حديثه الدقيق يقظاً حذراً وكأنه يمشي على الصراط، وقد اجتازه إلى الحسنى بإبداع وإقناع.

وأختم البحث بكلمة عن كتاب: (الرسول المعلم وأساليبه في التعليم) ولعله آخر ما صدر عن الأستاذ مطبوعاً كما أظن، وهو كتاب جيد في بابه، لأنه اشتمل على أساليب التعليم النبوية مستمدة من كتب السنة، سواء كانت هذه التعاليم أقوالاً أو أفعالاً، وهذه النصوص أساس لبناء يجب أن يتعهده المربون بأساليب البحث النظري في فصول مستقلة تجري مجري البحث المنهجي مقدمة وعرضاً وخاتمة، فقد قدَّم لهم المصنف عناصر التربية النبوية في أحاديث أحسن توثيقها والتعليق عليها، وأقول التعليق عليها، لأن الشيخ لكثرة قراءاته قد كان سريع الاستشهاد بما يناسب اعتراضاً وجواباً، وإجمالاً وتفصيلاً، وقد يسهب في النقل من كتب التراث الإسلامي الأعلام المربين من أمثال: الماوردي وابن حزم والغزالي، ثم يستشعر الإطالة فيحاول أن يعتذر، وذلك أدب نفسي ألحظه في كثير من حواشيه، وقد طربت طرباً شديداً لتعليق نادر صادفني حين قرأت ما كتبه عن حديث رسول الله في رواية مسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه) فعلق المؤلف بهذا القول النادر.

قال العلماء المراد بالأخ في قوله (حتى يحب لأخيه)، عموم الأخوة حتى يشمل الكافر والمسلم فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحب لأخيه المسلم دوام الإسلام وأنا أرى أن المحبة لا تقف عند الدخول في الإسلام بل تتجه إلى كل خير يصيب الإنسان - أياً كان - ما دام لا يصيب أحداً ما بسوء

لقد كتبت هذا معجلاً، وكأن سائقاً يدفعني، وهذا ما لا حيلة لي فيه، إذ في بعض الأحيان أمسك القلم فلا أتلبث حتى أفرغ مما يملأ خاطري، ولو تمهلت لتم الأمر على أحسن مما كان، لذلك أرجو أن أعود إلى قراءة آثار أبي غدة مرة ثانية فقد تنفحني بالجديد، راجيا ما رجاه الطغرائي حين قال: لعل إلامة بالجزع ثانية =يهب منها نسيم البرء من عللي

وعلى الله قصد السبيل

لمحات من حياة العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة

رحمه الله تعالى

مجد بن أحمد مكي

هو العلامة المحدث الفقيه الأصولي الأديب الشيخ عبدالفتاح بن محمد بن بشير أبو غدة. ولد - رحمه الله تعالى - في مدينة حلب بسورية سنة ۱۳۳6 هـ ۱۹۱۷م، ودرس في المدرسة العربية الإسلامية الخاصة الدراسة الابتدائية، ودرس في المدرسة الخسروية التي أنساها خسرو باشا - رحمه الله تعالى - بحلب، والتي سميت فيما بعد: الثانوية الشرعية، من عام 1936 حتى عام 1942، وكان من أبرز أساتذته فيها المشايخ: الشيخ راغب الطباخ، وعيسي البيانوني، وإبراهيم السلقيني الجد، رحمهم الله تعالى، إلى جانب الشيخ محمد السلقيني والشيخ مصطفى الزرقا أمد الله تعالى في عمرهما بالعافية والسلامة، كما لازم الأستاذ الفقيه الحنفي المتقن الشيخ محمد الرشيد - رحمه الله تعالى - تلميذ العلامة الفقيه الكبير الشيخ محمد الزرقا وابنه الفقيه الجليل الشيخ أحمد الزرقا والد الشيخ مصطفى الزرقا.

ثم دخل كلية الشريعة في الجامع الأزهر بمصر في عام 1944م، ومن أبرز من درس له فيها المشايخ: الشيخ محمود خليفة، وعبد الرحيم الفرغلي، وعبدالرحيم الكشكي، ومحمد الخضر حسين التونسي، وعبدالحليم محمود، ومحمود شلتوت، وقد تولى ثلاثتهم مشيخة الأزهر فيما بعد، ودرس خارج الأزهر على الشيخ عبدالله الصديق الغماري، وحضر محاضرات الأساتذة عبدالوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وعبد الوهاب حمودة - رحمهم الله تعالى -، وكانت له تلمذة خاصَّة لشيخ الإسلام مصطفى صبري ولوكيل شيخ الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثري - رحمهما الله تعالى -، لازمهما لمدة ست سنوات ملازمة تامَّة.

وتخرج في عام 1948 حائزاً على الشهادة العالية من كلية الشريعة، ثم درس في (تخصص أصول التدريس) في كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر - أيضاً - لمدة سنتين وتخرج سنة 1950م.

وبعد عودته لسورية عمل مدرساً بوزارة المعارف العام 1951م ودرس لمدة إحدى عشرة سنة في ثانويات حلب مادة التربية الإسلامية كما درَّس العلوم الشرعية المختلفة في المدرسة الشعبانية والثانوية الشرعية التي تخرج منها، وألف خلالها ستة كتب دراسية للمرحلة الثانوية بالاشتراك مع الأستاذ الشيخ أحمد عز الدين البيانوني - رحمه الله تعالى -

ثم انتخب عضواً في المجلس النيابي بسورية في سنة 1962 للمدة التي سمحت الظروف السياسية فيها ببقاء المجلس النيابي، ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق، فدرَّس فيها لمدة ثلاث سنين: الفقه الحنفي وأصول الفقه والفقه المقارن بين المذاهب، ثم قام بعدها بإدارة (موسوعة الفقه الإسلامي) في كلية الشريعة بدمشق لنحو سنتين قام خلالها بإتمام وإنجاز كتاب (معجم فقه المحلى لابن حزم)، وكان قد سبقه إلى العمل فيه بعض الزملاء، فأتمه وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين.

ورحل لمدة نحو ثلاثة أشهر رحلة علمية شخصية خاصة إلى الهند وباكستان سنة1382هـ - 1962م والتقى بأجلة الشيوخ والعلماء في تلك الديار من أمثال المشايخ: الشيخ محمد شفيع مفتي باكستان، والمفتي عتيق الرحمن كبير علماء دهلي بالهند، وأبو الوفاء الأفغاني رئيس دائرة المعارف النعمانية، رحمهم الله تعالى، ويبلغ عدد شيوخه الذين لقيهم وأخذ عنهم واستجاز منهم أكثر من مائة وخمسين شيخاً.

وفي سنة 1385هـ تعاقد مع كلية الشريعة بالرياض التي غدت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاحقاً، ودرَّس فيها وفي المعهد العالي للقضاء، ثم درَّس نحو عشر سنوات في الدراسات العليا في كلية أصول الدين من الجامعة نفسها للحديث الشريف وعلومه، وكان عضواً في المجلس العلمي فيها، وبقي يعمل مع جامعة الإمام مدة ثلاث وعشرين سنة إلى عام 1408، ولقي فيها من إدارة الجامعة ومنسوبيها كل تكريم وتقدير، ثم تعاقد مع جامعة الملك سعود بالرياض فدرَّس علوم الحديث في كلية التربية لمدة سنتين لطلاب السنة الأخيرة من الكلية وفي الدراسات العليا، ثم تقاعد عن التدريس في 1411، وشارك في وضع مناهج وخطط دراسية في سورية، ثم في مناهج المعهد العالي للقضاء وكلية الشريعة في جامعة الإمام الإسلامية.

وانتدب أستاذاً زائراً للتدريس في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان لعام 1396، وأستاذا زائرا لليمن عام 1398، وأستاذا زائرا عام 1399 لجامعة ندوة العلماء في (لكنو) بالهند التي يرأسها سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي سلمه الله تعالى وأمتع به.

وانتفع بعلمه الالاف من التلاميذ وطلبة العلم في حلب وجامعات دمشق والرياض والهند وباكستان والسودان واليمن وغيرها.

وشارك في مؤتمرات وندوات كثيرة جداً في سورية والعراق واليمن وقطر والمغرب والسودان والهند وباكستان وتركيا وأندونيسيا وأفغانستان وطشقند و سمرقند، وفي أوروبا وأمريكا وكندا وغيرها.

وله من الخدمات العلمية والآثار المطبوعة ما بين محققات ومؤلفات أكثر من 60 كتاباً في الحديث والمصطلح والرجال والفقه والأخلاق والتاريخ.

هذا، والأستاذ أبو غدة رحمه الله - تعالى - إلى جانب هذه الآثار التي خدمها تأليفاً وتحقيقاً وطبعاً وإخراجاً: عضو في المجمع العراقي في بغداد، وعضو في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ونال جائزة سلطان بروناي لخدمة الحديث النبوي الشريف في عام 1415هـ وكان أول من مُنح الجائزة.

وأجهد الشيخ رحمه الله - تعالى - نفسه في نشر العلم وتحقيق الكتب النادرة، حتى ضعف بصره، وأجريت له عملية جراحية في مستشفى العيون التخصصي بالرياض في شعبان 1417هـ ضعفت صحته على إثرها ونقل إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي في أواخر رمضان، وتوفي سحر ليلة الأحد التاسع من شوال سنة 1417 هـ، وصلي عليه جمع حاشد من طلابه ومحبيه في مسجد الراجحي بالرياض بعد صلاة الظهر يوم الاثنين العاشر من شوال، ثم نقل إلى المدينة المنورة بطائرة خاصة أرسلها سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز جزاه الله خيراً، وصلي عليه بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي الشريف، و شيعه مئات المحبين الذين توافدوا إلى المسجد النبوي الشريف من شتى أنحاء المملكة، ودفن في البقيع بجوار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمضى عمره في خدمة سنته، وبجواره أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - الذين أحبهم ونشر فضائلهم.

وبموت فضيلة الشيخ تنطوي صفحة مضيئة مشرقة من صفحات العلم التي تذكر بعلماء السلف في علو الهمة والحرص على الزمن، والصبر على طلب العلم وتحصيله.

رحمه الله رحمة واسعة، وعوض المسلمين خيراً، وجمعنا به في مستقر رحمته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

مجلة الأزهر، السنة السبعون، محرم 1418 - الجزء 1 

===-

فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، زميل كريم التقيت به - حين زار الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ومجلة الأزهر، وقد تلقت سيلاً طيباً من أحاديث تكريمه لتشارك العالم الإسلامي مشاعره نحو هذا العالم الجليل الذي أصاب العالم الإسلامي بقبضه ما يصيب العلم بقبض العلماء، ولقد تسنى لنا - وكم نأسف لضيق المساحة بالمجلة - أن ننشر الكلمات التالية عنه رحمه الله رحمة واسعة.

(1) مجلة الرسالة، العدد 685 ، 11/1964م.

(2) الأخبار التاريخية في السيرة الزكية ص 117 ، 118، ط أولى.

(3) الرسول المعلم ص ۱۱۷