محمد الياقتي

1327 ـ 1382هـ

1909 ـ 1962م

 

الشيخ محمد بن السيد عمر بن السيد محمد الياقتي الحلبي.

عالم، مفسر، فقيه، داعية جريء.

ولد في حي (الكلاسة)، من مدينة حلب، سنة: سبع وعشرين وثلاثمئة وألف للهجرة في أسرة فقيرة متواضعة، من أب بسيط يعمل بائعاً في حانوت صغير من حوانيت الحي، وأم تقية صالحة ربته على الصدق ومكارم الأخلاق، وحببت إليه التمسك بالدين، وطلب العلم، وأرسلته أول طفولته إلى كتاب الحي ليتعلم القرآن الكريم ومبادئ الكتابة والحساب، فأتقن تلاوة القرآن الكريم، وحفظ بعضه وبعض الأحاديث النبوية الشريفة على يد شيخه الشيخ أحمد المصري.

ثم ترك التحصيل العلمي تحت وطأة ظروف الحياة القاسية، التي كانت تعاني منها أسرته، ليعمل في مهنة نحت الحجارة وتسويتها (حجّاراً) وبقي يعمل في هذه الصنعة ردحاً من الزمن، لكن نفسه التواقة إلى المعرفة والعلم، وتطلعه لإنقاذ أهل حيه من الجهل والتخلف، دفعاه لمتابعة تحصيله العلمي، فانتسب إلى المدرسة (الخسروية)، وأخذ ينهل العلم من منابعه الصافية على يد شيوخها الأجلاء.

فأخذ علم الحديث والسيرة والتاريخ على محدث عصره ومؤرخ الديار الحلبية، الشيخ محمد راغب الطباخ، حيث قرأ عليه مختصر صحيح الإمام البخاري والشمائل المحمدية، كما تلقى علم الفقه وأصوله على شيوخ عصره من الفقهاء، أمثال الشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ محمد أسعد العبجي، والعلامة الشيخ عمر المارتيني، وقرأ علم التفسير على شيخه الشيخ أحمد بن محمد الشماع، وعلم التوحيد والمنطق على علامة عصره الشيخ فيض الله الأيوبي الكردي، أما علوم القرآن الكريم وتلاوته وتجويده فقد تلقاها على شيخه شيخ قراء حلب آنذاك العلامة أحمد التيجي المدني

وقرأ علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها على شيوخها الكبار أمثال: الشيخ محمد الناشد الملقب (بالزمخشري الصغير)، والشيخ عبد الله حماد، والشيخ أسعد العبجي، والشيخ إبراهيم السلقيني، كما درس علم الفرائض على فرائضي حلب الشيخ عبد الله المعطي، كما ألم الشيخ في مدرسته هذه ببعض العلوم الكونية؛ كالعلوم والرياضيات والجغرافية، وقد درسها على أساتذتها أمثال الشيخ أبي السعود الكيالي، والشيخ زكي باقو والأستاذ محمد كامل سراج الدين (1) وغيرهم.

ظل الشيخ في المدرسة (الخسروية)، ينهل من معين مواردها الثرة الصافية إلى أن تخرج فيها مع الدفعة التاسعة، سنة: ثلاث وخمسين وثلاثمئة وألف للهجرة النبوية الشريفة، الموافقة لعام: أربعة وثلاثين وتسعمئة وألف للميلاد (2) وقد انغرس في قلبه حبه الكبير لشيوخه، فهو يكثر من ذكرهم والحديث عنهم، والثناء عليهم في دروسه العامة وفي مجالسه الخاصة، إلا أن شيخه الشيخ محمد راغب الطباخ كان له الأثر الأكبر في نفسه وفي تكوينه العلمي والفكري المتحرر، فهو دائم الذكر له والثناء عليه

يروي عنه بكل إجلال واحترام.

بعد تخرجه من المدرسة (الخسروية)، نزعت نفسه إلى الوحدة والخلوة، يقطعها بالمطالعة والدراسة مبتعداً عن الناس بكتابه، وربما خرج إلى البرية أو البساتين القريبة من حيه يمشي فيها منفرداً متفكراً، أو مطالعاً كتاباً من كتب التفسير أو الحديث أو الفقه.

ولما أنس من نفسه القدرة العلمية، نذر نفسه للدعوة إلى الله، ونشر العلم بين الناس، وخاصة من أبناء حيه الذين أحبهم وأحبوه، فكانت له دروس عامة في الفقه والتفسير في الجامع الأموي الكبير، يومي الإثنين والأربعاء من كل أسبوع، ودروس في التفسير في (جامع الصديق) (3) يومي الجمعة والأحد بعد صلاة المغرب، أما يوم الجمعة فقد خصه لأبناء حيه حيث كان يخطب الجمعة في (جامع الصبحان) (4) ويلقي بعدها درسه في الفقه والحديث، ويجيب على أسئلة المستفتين. 

وكثر طلابه وتلامذته، حيث التفت حوله جماعة من أهل الحي يتابعون دروسه في كل مكان، ويأخذون عنه، ويتمسكون بنهجه، وينشرون آراءه في محاربة البدع والمنكرات، ومعارضته لبعض الشيوخ الذين يجعلون من حفلات المولد ومجالس الذكر ساحة للغناء والرقص، وينكر عليهم تقديم أيديهم لتلاميذهم ليقبلوها، مبالغة في تعظيمهم، ويدعو للأخذ بالقرآن الكريم وبصحيح الحديث الشريف فقط، وهكذا كثر أتباعه وأصبحوا يعدون بالمئات، وما زلت ترى إلى يومنا هذا ـ وقد مضى على وفاته أكثر من أربعين سنة ـ من يتمسك بآرائه، وينقل كلامه بحرفه قائلاً: " هكذا حدثنا شيخنا الشيخ محمد الياقتي رحمه الله " (5) وما يزال الناس في حي (الكلاسة) يطلقون عليهم اسم (الياقتية).

وقد أثار الشيخ في منهجه هذا، الكثير من الإشكال والتساؤل والخلاف، فمن مجلّ له جاعل منه إماماً ومصلحاً وقدوة، إلى معرض عنه منتقد لمذهبه في الدين والحياة، رام له بكل بدعة وانحراف، وقد عاداه كثير من علماء عصره، ووقفوا منه مواقف جرّت عليه محناً كبيرة، أدت إلى إعفائه من وظيفته الدينية في الإمامة والخطابة (6) كما منع من إلقاء دروسه العامة في المساجد، فضاقت عليه سبل العيش، وناء بحمل أعباء أسرة كبيرة (7) وما ذاك إلا لتمسك بآرائه، التي كان يرى فيها الحق والصواب من جهة، وعفة نفسه وترفعه عن مدّ يده إلى الناس، أو قبول هباتهم من جهة ثانية، ولربما مرّ به الأسبوع والأسبوعان، ولا طعام له ولأسرته إلا الخبز والبرغل المسلوق (8).

وصبر الشيخ على هذه المحنة التي امتدت قرابة عامين، راضياً بقضاء الله سبحانه وقدره، إلى أن قيّض الله له بعض العلماء الصالحين الذين تفهموا آراءه ومواقفه، فسعوا إلى إعادته إلى وظائفه ودروسه، وأعادوا له مكانته، ووافقت مديرية الأوقاف على إعطائه رواتبه التي قطعت عنه طوال مدة المحنة، فأخذها واستعان بها على أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام.

لقد كانت هذه المحنة خيراً عليه ـ كما كان يقول ـ إذ لولاها لما استطاع أن يؤدي فريضة الحج.

كان الشيخ محمد الياقتي غزير العلم، قوي الحجة، فصيح اللسان قريب البيان، يدخل إلى قلوب مستمعيه بسهولة ويسر، وقد آتاه الله إلى ذلك خلقاً رفيعاً يسموا به على ترهات الحياة، ويتواضع لمن يعلمه، ويصبر عليه ولا يترفع على الناس أبداً، أما إذا أخذ في تفسير القرآن الكريم، غاص في أعماقه واستخرج مكنوناته، ببيان واضح مشرق، وعبارة سهلة قريبة، حتى وصفه أحد معاصريه، وهو الشيخ محمد جميل العقاد (9) بقوله: " الشيخ الياقتي عندما يفسر القرآن كأنه يأكل الرمان، لا يترك حبة واحدة تهرب منه"(10).

ولانشغال الشيخ بالدعوة ونشر العلم، لم يترك أي مؤلفات أو آثار مكتوبة، غير أن بعض إخوانه كانوا يسجلون دروسه في التفسير على الأشرطة، وقد نشروا أحد دروسه في كراس بعنوان:(تفسير آيتين من كتاب الله للشيخ محمد الياقتي).

عظيم النفس، عالي الهمة، كثير العبادة، متمسك بالكتاب والسنة

زاهد في الدنيا، لا يهتم بمظهره وملبسه، ولا بأقوال الناس فيه، شديد الرضا بقضاء الله سبحانه

مربوع القامة، حنطي اللون، جميل الوجه واللحية، يزين رأسه بعمامة بيضاء صغيرة.

أمضى حياته بالدعوة إلى الله، غير ملتفت إلى زخارف الدنيا وزينتها يعيش كفافاً، راضياً بالحلال الطيب الذي ييسره الله له، وقد توفي ـ رحمه الله ـ ولم يتجاوز راتبه الشهري خمساً وسبعين ومئة ليرة سورية، ينفقها على عياله، وكان يوم وفاته يوم حزن وأسى عم الحيّ كلّه، وامتلأت أزقة الحي وساحاته بالناس، يودعون شيخهم الراحل، ويشيعونه إلى مثواه الأخير في مقبرة (أبي الرجاء) رحمه الله.

المصادر والمراجع

1- ترجمة خطية بيد تلميذه وابن عمه المقرئ الشيخ محمد ياقتي إمام جامع أنس بن مالك.

2- سجلات المدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية).

3- كراس تفسير آيتين من كتاب الله للشيخ محمد الياقتي.

4- مقابلة شفهية مع نجلي المترجم الأستاذ عمر ياقتي، والسيد محمد طلحة.

5- مقابلة شفهية مع شيخنا الشيخ محمد زين العابدين الجذبة.

6- مشافهة مع والدي الحاج عمر كاتبي، رحمه الله.

7- مشافهات عديدة مع من تبقى من تلاميذ الشيخ ومريديه.

========

(1) انظر ترجمات شيوخ هؤلاء في مكانها من الكتاب.

(2) تخرج مع المترجم له في هذه الدفعة كل من وحسب ترتيب نجاحهم، (سليم الرفاعي، عبد الباسط خلف، محمد الياقتي (المترجم)، محمد أديب حسون، عبد الله حلاق، نور الدين الخطيب، عبد الجواد عطار، محمود الإبزماوي، عبد الرحمن صباغ، عبد القادر بللو). ا.هـ عن سجلات الثانوية الشرعية.

(3) جامع (الصديق): جامع عامر يقع في حي الجميلية قرب مبنى مديرية التربية حالياً.

(4) جامع (الصبحان) جامع حديث بناه أحد أبناء الحي (الحاج أحمد الصبحان)، وقد وسع وجدّد منذ عشرين سنة تقريباً، يقع في حيّ (الكلاسة) شارع جسر الحج أمام (الكازية)، وهو مسجد كبير عامر بالصلوات، وقد توليت الخطابة فيه مدة قصيرة من الزمن، نيابة عن خطيبه شيخنا الشيخ علي الحلو، رحمه الله. (المؤلف)

(5) مقابلة مع أحد طلابه الشيخ وهو الحاج محمد رزوق.

(6) كان الشيخ إماماً للأوقات الخمسة في (جامع الحيات) الكائن شرقي خان الوزير وخطيباً في جامع (الصبحان) في حي الكلاسة.

(7) كانت أسرة الشيخ تتألف من أحد عشر فرداً أربعة أولاد ذكور وخمس بنات بالإضافة إلى زوجته.

(8) عن حديث شفهي مع نجل المترجم له الأستاذ عمر، وقد حدثني والدي ـ رحمه الله ـ أنه كثيراً ما كان يشاهد الشيخ رحمه الله عند أذان المغرب في رمضان، يتجول في الحي، فيسأله عما يريد، فيجيب الشيخ أشتري العشاء للأولاد، فيعرض عليه والدي المساعد، فيرفض بكل عزة وإباء مجيباً: (مستورة والحمد لله).

(9) انظر ترجمته في مكانها من الكتاب.

(10) عن ترجمة خطية بيد ابن عمه وتلميذه الشيخ محمد ياقتي.