الشيخ وصفي المسدي: اغرف من بحار علمه لو استطعت!

إذا كان الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر، فإن الشيخ وصفي المسدي رحمه الله تعالى،كان هو وحده بحورًا من علم غزير متنوع لا تملك إلا أن تغرف منه وتبالغ في الغرف إن استطعت!

قدر الله لي أن أختلف إلى الشيخ خلال عامين أو أكثر في حمص في السبعينيات. بعضها في مسجد القاسمي، موئل الشيخ الأصلي، ثم مسجد البازرباشي، لما كان مسجد القاسمي تحت التجديد والصيانة. وقد هالني فعلا ، ذلك العلم الغزير عند الشيخ وتنوع المعارف عنده، فهو يفسِّر القرآن الكريم ويقصُّ السيرة ويشرح الحديث ويثري شروحه بفصاحة اللغة العربية وقواعدها وصرفها ونحوها...كل ذلك من ذاكرة (خزانية) وحضور بديهة ، وسلاسة في التوضيح والبيان، مع لمسات روحيَّة وصوفيَّة تخالط شَغَاف القلب!

لا أنسى واحدًا من دروسه، حيث أمضى الوقت كله بين المغرب والعشاء، يشرح آية واحدة فقط من القرآن الكريم. ولا أنسى ما أثرى به شرحه من بيان ولغة ومواعظ رقيقة في ثنايا الشرح والتفصيل. ولتقريب الأمر للأخوات القارئات والإخوة القراء،لمعرفة معنى أن يستغرق الشيخ ساعة كاملة في شرح آية، أذكر لهم أن الحديث لمدة ثلاث دقائق تقريبا، يقتضي قراءة صفحة واحدة من صفحات التصوير الضوئي المعروفة(A4) فإذا كان الشيخ قد استغرق خمسين دقيقة يشرح من عندياته آية كريمة فقط، فهو كأنه قرأ حوالي خمس عشرة صفحة مرة واحدة!

غير أن درسًا آخر كان يأخذ بالألباب ، هو درسه بعد صلاة الظهر أيام رمضان الخوالي في مسجد الدالاتي في أول شارع الحميدية بحمص.

كان الشيخ رحمه الله يعطي درسًا في السيرة النبوية. وقد كان الموضوع حينها، عن الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم يوم فتح مكة ، وقال: اقتلوهم ولو رأيتموهم معلقين بأستار الكعبة، لشدَّة ما آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لقد تتبع الشيخ سيرة هؤلاء واحدًا واحدًا، منذ أول الدعوة، إلى ما انتهى إليه مصيرهم فردًا فردًا، سواء منهم من أسلم وحسن إسلامه ، أو قتل فعلا، أو غير ذلك. كل هذا من ذاكرة حاضرة دقيقة متفحصة. وكما يعلم القراء، فإن السيرة النبوية مكتوبة في معظمها مرتبة زمنيا. ولذا فالحديث عن هؤلاء يقتضي تتبعا دقيقا للسيرة من أولها إلى آخرها، حتى يلمّ بكل المعلومات الضرورية للبحث!وهو ما أتقنه الشيخ أيّما إتقان.

كان العلماء في حمص، يجتمعون في فترة سابقة، في بيت مفتي حمص الأسبق الشيخ طيب الأتاسي رحمه الله تعالى. وقد حدثني جدي لوالدتي، وقد كان ملازمًا للعلماء، أن الشيخ وصفي رحمه الله تعالى، كان سيد العلماء دون منازع! فهو الأغزر علما، والأقوى حضورًا، والأكثر إثراء وتمتيعا. 

كان الشيخ وصفي رحمه الله تعالى (سلطانا) حقيقيا في العلم والحضور والتربية والتعليم والتوجيه والوعظ . هو بحقّ آية من آيات الله في خلقه.

رحمك الله يا شيخ حمص وسيدها(أبو أحمد) كما كان يسمى مع كل معاني الاحترام والتبجيل.

رحمك الله يا شيخنا. نفتقدك اليوم في أفراحنا وأتراحنا، وسهراتنا...

جزاك الله خيرا عنا وأحسن إليك ورفع مقامك.