الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والصيغة التوفيقية بعد مائة عام

- 1 -

عبَرنا القرن الحالي الذي كادت شمسه أن تغيب بآراء الأستاذ الإمام محمد عبده التنويرية ومنهجه الإصلاحي الذي بزرت فيه الصيغة التوفيقية بين الإسلام والحضارة الغربية. وقد قرن عباس محمود العقاد بين منزلة الإمام محمد عبده ومنزلة الإمام الغزالي في الدعوة الإسلامية وفي «الإصلاح الديني على أساس من إصلاح التفكير وهداية الضمير» حتى جاز لنا أن نعدّ الأستاذ الإمام حجة الإسلام على الحضارة الغربية في العصر الحديث. وربما حجة الإسلام على صلاحية هذا الدين أساسًا للنهضة والتقدم في كل العصور.

وقد حاول زعماء الإصلاح والتجديد الامتداد بصيغة الأستاذ الإمام هذه وآرائه تلك فنجحوا تارة وأخفقوا أخرى. وفي وسعنا أن نعدّ الأستاذ عباس محمود العقاد نفسه من أبزر المفكرين الذين انطلقوا من منهج الأستاذ الإمام، وامتدوا بآرائه.. أو انتهوا إليها في نهاية المطاف.

ومن العجيب- الذي قد لا يستعصى على التفسير مع مسلسل «الأبطال» وحكم العسكر- أن يشهد النصف الثاني من هذا القرن انحيازًا إلى الخيار الأوروبي، أو خيار الحضارة الغربية وبخاصة في شقها الاشتراكي.. حتى لقد وُصفت الاشتراكية- العلمية وسواها!- بالحتمية في بعض المراحل. وقد بدا هذا الخيار في الستينيات شديد الوطأة، نافيًا لمحاولة التوفيق التي بدأها الأستاذ الإمام.. حتى إن هذه المحاولة جرى التعريض بها بوصفها «ليبرالية» أو أقرب إلى الشقّ الليبرالي.. كما جاء على لسان «الاشتراكيين» مرة، وعلى لسان خصوم الإمام من علماء الدين مرة أخرى.

- 2 -

ونحن اليوم بعد نحو مائة عام مرت على محاولة الشيخ محمد عبده رحمه الله، هل لنا أن نستعيد هذه المحاولة من جديد.. ومن أيِّ المواقع بعد هذا التاريخ؟ 

لابد من أجل الإجابة عن هذا السؤال أن نورد الملاحظات التالية:

1- كتب الأستاذ الإمام من موقع الدفاع عن الإسلام تحت وطأة صعود الفكر الأوروبي، وفي مناخ سيادة العقل على مسرح الحضارة والتاريخ من جهة، وفي ظل الركود الذي كان يعيشه المسلمون من كان منهم منضويًا تحت الراية العثمانية ومن لم يكن من جهة أخرى. 

وعلى الرغم من الانبهار الشديد بالغرب الذي صاحب هذه الأوضاع أو ساد في هذه المرحلة؛ فإن الأستاذ الإمام حقق أفضل صور «الصمود الإيجابي» إنْ صح التعبير عندما أكدّ على أن كل مزايا الحضارة الغربية موجودة في الإسلام.. ولكنه اتَّسع في نطاق التأويل لتحقيق المواءمة والتوفيق.

2- لم تكن هذه الحضارة قد أفرغت بعد، كل ما في جعبتها من الفكر والفلسفة ونظم الحياة.. حيث شهدت أوروبا قيام الثورة البلشفية عام 1917 وشيوع المذاهب الجماعية الأخرى.. إلى جانب المذاهب الوجودية والفوضوية والحركات الفاشية والنازية.. كما شهد النصف الأول من هذا القرن- الذي ودعه الإمام عام 1905- قيام حربين عالميتين.. وما أفضت إليه الحرب الثانية من انشطار المجتمعات الأوروبية إلى شقين وولادة ما سمِّي بالحرب الباردة.

3- لم يعش الأستاذ الإمام ليرى الثقافة الأوروبية وهي تخوض اختبارها الحقيقي في النصف الثاني من هذا القرن، حيث امتدت بالأوروبيين حياة الأمن والاستقرار، وظهر من آثار تعامل ثقافتهم مع النفس والمجتمع ما لم يكن قد ظهر من قبل في ظلِّ تحدي الحربين المذكورتين في النصف الأول، وفي ظل رسالة (الفتح) والكشوف الجغرافية والانطلاق (لتمدين) العالم!! في القرن الماضي الذي عاش فيه الشيخ.

لقد أفرزت هذه الثقافة- دون سواها- مجموعة من المشكلات التي باتت تهدد مسيرة هذه الحضارة.. مثل العنف والجريمة والمخدرات والإيدز والشذوذ والشيخوخة وتناقص السكان وتهديد نظام الأسرة.. إلخ.

4- جاء سقوط النظام الاشتراكي من جهة، والمشكلات التي تهدد الشقَّ الليبرالي المستمر أو المنتصر من هذه الحضارة من جهة أخرى.. ليصبّا في صالح الثقافة العربية الإسلامية وقيم الإسلام الحضارية.

لقد انتهت تجربة هذا القرن إلى التأكيد على أن التقدم الذي أصابه القوم في التعامل مع المادة أو الطبيعة لم يصاحبه تقدم مماثل في التعامل مع الإنسان في باب القيم والأهداف وتشريع الحلال والحرام، وتمييز الطيب من الخبيث.

- 3 -

نستعيد عن هذه اللحظة محاولة الإمام التوفيقية بعد مائة عام، ولكن ليس بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية، ولكن بين الثقافة الإسلامية (والعلم) الغربي، وأعني العلم التجريبي الذي بلغ فيه القوم شأوًا لم تعرفه حضارة في التاريخ. وهي محاولة أقرب إلى المشاركة منها إلى التوفيق.. وتأتي هذه المحاولة أو الدعوة من موقع حركة التاريخ التي باتت تدفع باتجاه الدين.. ومن موقع إنسانية الإسلام الذي أراده الله رحمة للعالمين.

وقد يكون من حقنا- أخيرًا- أن نرى في فلسفة نهاية التاريخ وصدام الحضارات فيما نرى محاولة لقطع الطريق على صعود الإسلام في القرن القادم.{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }[الأنفال: ٣٠].