ما يجب على كل مسلم تعلمه-1-

 

حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على التعلم أعظم الحثّ، ورَغَّب فيه كلَّ التَّرغيب، حتى جعله فريضةً لازمة، وذلك في الحديث الذي اشتهر على الألسنة، حتى حفظه الكبير والصغير والخاصُّ والعام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"([1]).

أي: على كلِّ إنسان مسلم ذكراً كان أم أنثى، ولهذا يرويه جمهور الناس :"على كل مسلم ومسلمة". والمعنى صحيح، ولكن اللفظ لم يرد.

ولكن . ما العلم الذي جعل الحديث طلبه فرضاً على كل مسلم؟

قد تباينت الأقوال وتناقضت الآراء، في هذا العلم المفروض على نحو عشرين قولاً- كما يقول العلامة المناوي – فكل طائفة تقيم الأدلة على فرضيَّة علمها هي، وكلٌّ لكلٍّ معارض، وبعضٌ لبعضٍ مناقض.

فمن متكلِّم يحمل العلم هنا على علم الكلام، ويحتجُّ لذلك بأنه العلم المُتقدِّم رتبة لأنه علم التوحيد، الذي هو أساس البناء.

ومن فقيه يحمله على علم الفقه، إذْ هو علم الحلال والحرام، وبه يعرف المسلم كيف يعبد الله، وكيف يعامل الناس، ويقول: إنَّ ذلك هو المتبادر من إطلاق العلم في عرف الشرع.

ومن مُفسِّر يرى أنَّ أوْلى ما يطلق عليه العلم هو العلم بالمراد من كلام الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، وهذا هو علم التفسير.

ومن محدَّث يحمل العلم على معرفة السنن والآثار، التي بها بيان القرآن، وفيها تفصيل ما أجمل، وتبيين ما أُبهم، وتخصيص ما عُمِّم، وتقييد ما أُطلق، وهي- مع القرآن – حبل النجاة.

ومن نَحْوي يحمله على علم العربية، إذ الشريعة إنما تتلقى من الكتاب والسنة، وقد قال تعالى  [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] {إبراهيم:4} . فلا بد من إتقان العربيّة ليعرف البيان المشار إليه في الآية الكريمة.

ومن متصوِّف يحمله على علم العبد بحالة، ومقامه من الله عز وجل، أو العلم بالإخلاص وآفات النفوس، ومداخل الشيطان إليها .. إلخ.

وقال أبو طالب المكي: هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام: "بُني الإسلام على خمس.. " لأن الواجب هذه الخمس . فيجب العلم بكيفيَّة العمل فيها، ويكفيه الوجوب([2]).

وهكذا تَعَدَّدت الآراء، واختلفت الأقوال، ولكلٍّ وجهةٌ هو مُولِّيها.

 والذي أراه أن العلم الواجب طلبه وتعلمه- عيناً – على المسلم: هو ما لابدَّ له منه في دينه أو في دنياه.

أما في دينه، فلا بد له أن يتعلم من علوم الشرع:

1-      ما يعرف به عقيدتَه معرفة يقينيَّة صحيحة، سالمةً من الشِّركيَّات والخرافات.

2-      وما يُصَحِّحُ به عبادتَه لربِّه ظاهراً، بأن تكون على الصورة المشروعة، وباطناً بأن تتوافر فيها النيَّة الخالصة لله تعالى.

3-      وما يُزَكِّي به نفسه، ويُطَهِّر به قلبه، بأن يعرف الفضائل "المنجيات"؛ ليتحراها ويتخلق بها، ويعرف الرذائل "المهلكات"؛ ليتجنَّبَها ويتوقَّاها.

4-      وما يضبط به سلوكه في عَلاقته مع نفسه، أو مع أسرته، أو مع الناس، حكاماً ومحكومين، مسلمين وغير مسلمين، فيعرف في ذلك الحلال من الحرام، والواجب من غير الواجب، واللائق من غير اللائق. ولا يضيرنا أن يدخل هذا القدْر اللازم تحت اسم "التوحيد" أو "الفقه" أو "التصوف" أو "الآداب الشرعيَّة" أو "الزهد" أو غير ذلك.

فهذه التَّسميات مُصطلحات مُحْدَثة، ولم يتعبَّدنا الله بها، وإنما يَهمُّنا المضمون، ولا عبرة بالأسماء والعناوين، متى وضَحت المُسمَّيات والمَضامين.

وهذا القدر من العلم يجب أن يكون إلزامياً، يتعلمه كل مسلم ومسلمة: بالقراءة في المدارس والمعاهد، وبالسماعِ في المساجد، وفي أجهزة الإعلام المختلفة.

وعلى كلِّ دولة تنتسب إلى الإسلام، أن تُوفِّر هذا القدر لأبنائها بكل وسيلة مستطاعة، وأنْ تنتهز كل فرصة لتفقيه أبنائها ما يجب عليهم، مثل فرصة التجنيد في الجيش أو في الشرطة.

ويجب على الآباء والأولياء أن يعلموا أولادهم، ومَنْ يلُونَ عليهم، أو يبعثوا بهم إلى المدارس والمساجد والأماكن، يتلقون فيها العلم الواجب، ولا يجوز لوليٍّ أن يدعَ مُوليه في ظلام الجهل بدينه، دون أن يعلِّمه أو يهيِّئ له من يعلمه، فضلاً عن أن يمنع من التعلم إذا أراد.

وذلك أن الحديث الشريف يقول: "مرُوا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر"([3]) فدلَّ هذا على وجوب تعلم الصلاة – ومثلها الصيام لمن يطيقه – منذ تمام السابعة من العمر؛ لأن أداء الصلاة غير ممكن إلا بتعلمها بشروطها وأركانها وكيفيَّتها، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ.

فإذا قصَّر الأب أو الوليُّ في تعليم مَنْ ولاه الله رعايته، لم يعفه ذلك من وجوب التعليم وطلب العلم المفروض عليه، حين يبلغ الحلم، ويتحمَّل مسؤولية نفسِه، فقد رُفع القلم عن الصبيِّ حتى يبلغ.

يقول الإمام أبو محمد بن حزم بعد أن بيَّن ما يلزم كل مسلم ومسلمة تعلمه من الطهارة والصلاة والصيام، وما يَحلُّ له ويحرم عليه من المآكل، والمشارب، والملابس، والفروج، والدماء، والأقوال والأعمال:

"فهذا كله لا يسع جهلُه أحداً من الناس، ذكورهم وإنائهم، أحرارهم وعبيدهم وإمائهم. وفرضٌ عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحُلم، وهم مسلمون أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحُلم.

قال: ويجبر الإمام (رئيس الدولة) أزواج النساء، وسادات الأرقاء، على تعليمهم ما ذكرنا، إما بأنفسهم، وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرضٌ على الإمام أن يأخذ الناس بذلك، وأن يرتِّب أقواماً بتعليم الجهال"([4]).

وهذا القدْر يجب أن يتعلمه المسلم بلغته التي يُحسنها، ولكن يجب عليه أن يتعلم من العربية ما يتلو به أمَّ القرآن في صلاته وما يقرأ به من الآيات، وما تقوم به الصلاة من التَّكبيرات والتَّسبيحات والسلام، وما يفهم به الأذان والإقامة ونحوها. ومن لم يجد هذا القدر اللازم تعلُّمَه موفوراً في بلده، وجب عليه أن يرحل في طلبه حتى يتعلمه من أهله ولو بالصين.

على أنَّ هذا القدْر الواجب تعلمه إنما يُمثِّل الحدَّ الأدنى لمعرفة المسلم بدينه في كل بيئة وكل حال، ثم هو يتَّسع ويزداد حسب الأحوال والمُوجبات الخاصَّة أو العامَّة، فالفقير لا يجب عليه أن يتعلم تفاصيل أحكام الزكاة، إلا أن يتعلم ما يباح له أخذه من مالها، إنما يجب عليه أن يتعلم أحكامها إذا ملك مالاً تحب فيه الزكاة.

ولا يفترض عليه تعلم كل الأحكام لكل أموال الزكاة، بل ما ملك نصاباً منه تعلم ما يتعلق به. فالتاجر يتعلم أحكام زكاة التجارة والنقود والديون ونحو ذلك: فيمَ تجب؟ ومتى تجب؟ وكم تجب؟ ولمن تجب؟ وليس عليه أن يتعلم زكاة الأنعام من إبل وبقر وغنم، وما يجب فيه بنت مخاض أو بنت لبون، إذ لا حاجة له فيها.

ومن لا مال له، ولا استطاعة عنده، لا يفرض عليه تعلم أحكام الحج، بل يتعلمه مَنْ مَلك الصحَّة الجسميَّة، والقدرة الماليَّة، أي: على نفقات السفر ذهاباً وإياباً، ونفقات الإقامة في الأرض المُقدَّسة، ونفقات مَنْ يعوله حتى يعود، فعندئذ يلزمه تعلم أساسيات الحج والعمرة، وخاصَّة عندما يعقد النيَّة، ويدخل في أشهر الحج. وإذا كان في المذاهب الفقهيَّة من يرى أن فرض الحج على التراخي، فالأكثرون يرونه واجباً على الفور، والحزم في المبادرة والمسارعة إلى الخيرات.

وهكذا من كان له اختصاص بشيء، وجب عليه أن يتعلم ما يتصل به من الأحكام، فالتاجر يلزمه معرفة ما يَحل وما يَحرم من البيوع، وأنواع المعاملات والمُدايَنات التي تدخل في نطاق التجارة، حتى لا يسقط في هُوَّة الحرام وهو لا يدري. وجهله ليس عذراً  له.

والطبيب يلزمه معرفة ما يتعلق بمهمَّته، كتحريم التداوي بالخمر، وتحريم الإجهاض ونحو ذلك. 

والذي تقْتضيه مهنته السفر كربَّان السفينة والطيار ومضيف الطائرة، يلزمه تعلم أحكام السفر ورخصه.

المهم أنَّ كل من يحتاج إلى شيء، لاختصاصه به أو ملابسته له، يلزمه تعلمه وما لا فلا. على أنَّ كل إنسان لا يخلو من وقائع في عبادته أو معاملاته، تتَجدَّد له، ولا يعرف حكم الشرع فيها، فهنا يلزمه السؤال عنها، بل ينبغي له المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالباً([5]).

[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43} .

ففَرَض على كل أحد طلب ما يلزمه.

هذا ما لابدَّ منه للمسلم في دينه، وتعلمه فرضُ عينٍ عليه، وأما ما لابدَّ له منه في دنياه، فيختلف باختلاف البيئات والأزمات. وأرى أن تعلم القراءة والكتابة والحساب وسائر ما يدرس في المرحلة الابتدائية الآن – على الأقل- لازمٌ لكلِّ إنسان مسلم في دنيا عصرنا حتى يكون عضواً نافعاً في المجتمع، ولا توصم أمتنا بالتخلف والأميَّة في مواجهة الأمم الراقية المتعلمة.

من كتاب "الرسول والعلم"

-------------

([1])رواه بن ماجه في المقدمة (224)، وأبو يعلى (2837)، والطبراني في الأوسط (9)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (183)، عن أنس.

([2]) انظر: الإحياء، جـ1/14 وما بعدها، وفيض القدير، جـ4/267، 268.

([3]) رواه أحمد (6756)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود (495)، والدار قطني (1/ 230)، والبيهقي (2/ 229) ثلاثتهم في الصلاة، وصححه الألباني في إرواء الغليل (298)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

([4]) انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم – الباب الحادي والثلاثون: في صفة التفقه في الدين، وما يلزم كل امرئ طلبه من دينه، ص69ط. مطبعة الإمام بالقاهرة.

([5]) أنظر: الإحياء، للغزالي، والأحكام لابن حزم السابق ذكرها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين