التطرف أسبابه وعلاجه في ضوء التربية والسلوك

 

تمهيد

لم تحظ مشكلةٌ من المشكلات باهتمام النَّاس، مسلمهم وكافرهم، كما حظيت مشكلة التَّطرف، حتى لقد كثرت فيها الكتابات والمؤلَّفات والمقالات والنَّدوات، حتى يصعب على المتابع لها أن يحصرها، وإذا بهذه المشكلة تزداد وتتوسع عبر القنوات ومواقع الانترنت ووسائل التَّواصل الاجتماعي، التي جعلت من العالم ليس قريةً صغيرةً فحسب، بل غرفة صغيرة، وأصبح الحدث يُنقل في نفس السَّاعة أو بعدها بقليل، حتى لقد اهتم بها القادة والسَّاسة، وأصبحت همًّا دوليًّا بعد أن كانت همًّا محليًّا داخليًّا.

وصار التَّطرف همًّا في كلِّ دينٍ ودولةٍ، فهنالك التَّطرف الهندوسي الذي قتل مئات المسلمين في الهند، وهدم مساجدهم، وقد شهدت البوسنة والهرسك التَّطرف الصِّربي، الذي راح ضحيته عشرات الآلاف، وكذلك التَّطرف البوذي في بورما، وأكبر التَّطرفات وأضخمها وأوقحها هو التَّطرف اليهودي الصُّهيوني، الذي اغتصب المقدَّسات، وسفك الدِّماء، وصادر الأموال والممتلكات، إنَّه تطرفٌ يستبيح المسجد الأقصى المبارك والأرض المباركة، ويستبيح الأموال والأعراض، إنَّه تطرفٌ رهيبٌ يُغضُّ الطَّرف عنه، مع أنَّه على مرأى العالم وسمعه وبصره، والعجيب الغريب أنَّه يهول ويضخم التَّطرف عند المسلمين، بينما لا يعتبر التَّطرف اليهودي الصُّهيوني منذ الاحتلال حتى يومنا هذا تطرفًا دينيًا، ولكنَّنا نوجز الكلام حول التَّطرف بين المسلمين، وهي مشكلةٌ تؤرِّق أهل الإسلام خاصةً، وهو موضوع السَّاعة، ومما زاد المشكلة عدم وضوح مفهوم التَّطرف في الإسلام، حتى أصبح ضائعًا بين طرفين، طرفٍ مفرِّط يرى الالتزام بالإسلام وبسنَّة سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - نوعًا من التَّطرف والغلو، حتى إنَّهم عدُّوا تحريم الربا وظهور الحجاب والسنن الظَّاهرة من التَّطرف، وبالمقابل غلا طرف آخر، وتشدَّدوا في إلزام النَّاس بسنن العادات أو المندوبات، حتى كرههم عوامُّ النَّاس، ونفَّروا النَّاس من السُّنة باسم السُّنة، وسأوجز أهمَّ أسبابه ووسائل علاجه من النَّاحية الإيمانيَّة والتربويَّة.

وهنا لابدَّ من مدخلٍ مختصرٍ في تعريف التَّطرف:

التَّطرف مرادفٌ للغلو، ومعنى الغلو اصطلاحًا؛ مجاوزة الحد، كما عرفه المناوي بأنَّه: مجاوزة الحد،

والغلو في الدِّين: التَّصلب والتَّشدد فيه حتى مجاوزة الحد.

وعليه قد يكون من المناسب التركيز على لفظ (الغلو) بدل التَّطرف، وهو التَّعبير الشَّرعي الصَّحيح عن التَّطرف، حيث لم  يرد الأخير في النُّصوص الشرعيَّة ، وإن كانت كلمة التَّطرف معروفةٌ في اللغة ومعناها: 

الوقوف في الطرف بعيدًا عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتَّطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات كالتَّطرف في الدِّين ، أو الفكر أو السلوك.

وقد أطلق العلماء كلمة المتطرف على القائل المخالف للشرع، والقول المخالف للشرع، والفعل المخالف للشرع.

وعلى ذلك يمكن تلخيص التَّطرف عند العلماء:

القول أو القائل أو الفعل المخالف للشريعة الإسلاميَّة، وهنالك كلماتٌ لها ارتباط وثيق بمعنى التطرف (كالتنطع والتعمق والتشدد والتعنت) وقد ورد الحديث الشريف بذمها.

ولقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المتشددين في الدين بالمتعمقين، فعن أنس رضي الله عنه قال: وَاصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ» [أخرجه البخاري في صحيحه برقم 7241]، وفي رواية في مسند أحمد برقم 13012: ((ما بال رجال يواصلون، إنكم لستم مثلي، أما لو مد لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم)).

وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن سيرين عن عبيدة قال: (( مر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يردوا عليه، أو قال: فلم يتكلموا، فسأل عنهم، فقيل: نذروا أو حلفوا ألا يتكلموا اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتعمقون)) يعني: المتنطعين. قال صاحب عون المعبود: ((هلك المتنطعون)) أي: المتعمقون الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، قاله النووي. قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.

ولقد ذمَّت الشريعة الإسلاميَّة التَّطرف في الدِّين، فعن الأحنف بن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا قال النووي أي: المتعمقون، الغالون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((إياكم والتبدع، وإياكم والتنطع ، وإياكم والتعمق ، وعليكم بالدين العتيق )).

قال ابن حجر: وفيه التَّحذير من الغلو في الديانة، والتَّنطع في العبادة، بالحمل على النَّفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنَّها سهلة سمحة. 

وأمَّا أهم أسباب التَّطرف فهي كالآتي:

1. الجهل بوسطيَّة الإسلام المتمثلة في قوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا? [البقرة:143]، ويسره وعدم وجود المشقة فيه، كما قال تعالى: ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة:185]، ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?، وما ثبت وصح من الأحاديث النبوية الشهيرة في هذا الباب يكفي أصحاب العقول المتفتحة والنفوس السليمة  كقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» [أخرجه البخاري في صحيحه برقم 39]،

وكقوله صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» [أخرجه مسلم في صحيحه برقم77]، وكقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» [أخرجه مسلم في صحيحه برقم78].

بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الغلو والتَّطرف من علامات هلاك الأمم الماضية، فقال: «وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» [أخرجه أحمد في مسنده برقم 1852].وهذا يشمل الاعتقادات والأعمال.

وقال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، وهم المتعمقون المغالون في أقوالهم وأفعالهم.

وهذا يحمل على أحد محملين:

1)  الدعاء: ومن دعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالهلاك، فقد حلت به مصيبة عظيمة.

2) الخبر: وإنما التكرار لبيان خطورة التنطع والغلو، وأن من تطرف وغلا فقد عرض نفسه للعقوبة والهلاك فى الدنيا والآخرة.

2. الجهل بمقاصد الشريعة، والخوض في معانيها بالظَّن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنَّظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم؛ ألا ترى إلى الخوارج كيف خرجوا من الدين كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، ووصفهم بأنهم «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ»، وهذا يعني - والله أعلم - أنَّهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم، لأنَّ الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وهذا يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم، وقد ورد قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [أخرجه مسلم في صحيحه برقم 2673] وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فروى البيهقي في شعب الإيمان عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال:كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة، زاد سعيد: وكتابها واحد ؟ قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولايدرون فيما نزل ، فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا.

ومن دلائل هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وعدم الرسوخ في الفقه، والإحاطة بآفاق الشريعة: الميل دائمًا إلى التضييق والتَّشديد والإسراف في القول بالتَّحريم، وتوسيع دائرة المحرمات، مع تحذير القرآن والسنة والأئمة الفقهاء من ذلك.

وحسبنا قوله تعالى: ?وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ? [النحل:116] .

وكان السَّلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزمًا، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا: نكره كذا، أو لا نراه، أو نحو ذلك من العبارات، ولا يصرحون بالتحريم، أمَّا الميالون إلى الغلو، فهم يسارعون إلى التحريم دون تحفظ، بدافع التَّورع والاحتياط، إن أحسسنا الظن، أو بدوافع أخرى، يعلم الله حقيقتها.

 فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن أبي نعيم قال: "جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس ، فسأله عن دم البعوض؟ - وفي طريق أخرى للحديث أنه سأله عن محرم قتل ذباباً - فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: ها ! انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعني الحسين رضي الله عنه) وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( هما ريحانتاي من الدنيا )).

ومن دلائل عدم الرُّسوخ في العلم، ومن مظاهر ضعف البصيرة بالدِّين: اشتغال عدد من هؤلاء الغلاة بكثير من المسائل الجزئيَّة والأمور الفرعيَّة، عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمَّة وهويتها ومصيرها.

فإذا كان في الفقه رأيان: أحدهما يقول بالإباحة والآخر بالكراهة، أخذوا بالكراهة، وإن كان أحدهما بالكراهة، والآخر بالتحريم، جنحوا إلى التحريم.

وإذا كان هناك رأيان: "أحدهما ميسر، والآخر مشدد، فهم دائمًا مع التَّشديد والتضييق" والدِّين براءٌ من كل هذا الغلو والتَّطرف . . . وقد جاء في حديث أبي هريرة مرفوعًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» [أخرجه البخاري في صحيحه برقم:6463]، وقد جاء في المسودة للمجد ابن تيمية: ((ومن الناس من لا يحكي إلا القولين المتطرفين دون الوسط)) .

3. تقصير بعض أهل العلم في القيام بواجب النُّصح والإرشاد والتَّوجيه لعموم الأمَّة لأنَّ الله جلَّ وعلا حمَّلهم مسؤوليَّةً عظمى وهي هداية البشريَّة، ونشر العلم، وبذل النُّصح ، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإبلاغ الحق، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، فمتى ما أهمل العلماء هذه المسؤوليَّة العظمى فإنَّ البلدان تخرب، والقلوب تظلم، والنُّفوس تتيه، والأفكار تزيغ، والباطل يصول، والضَّلال يجول.

4. اعتماد الشباب بعضهم على بعض دون الرُّجوع إلى العلماء: يقول ابن مسعود رضى الله عنه: "لا يزال النَّاس بخيرٍ ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا". كما في (نصيحة أهل الحديث) للخطيب البغدادي: وقد قال ابن قتيبة في تفسير ذلك: "لا يزال النَّاس بخيرٍ ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث، لأنَّ الشيخ قد زالت عنه حدَّة الشَّباب ومتعته وعجلته واستصحب التَّجربة في أموره فلا تدخل عليه في علمه الشبه ولا يستميله الهوى ولا يستزله الشيطان، و الحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ".

كما روى أميمة الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثَةً: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَلْتَمِسَ الْعِلْمَ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ» [أخرجه الطبراني في الكبير برقم908] وقال الحجاج بن أرطأة : "كانوا يكرهون أن يحدث الرجل حتى يرى الشيب في لحيته"، ويدخل في هذا القيام الاعتماد على الكتب دون القراءة على العلماء.

قال الشافعي: "من تفقه في بطون الكتب ضيَّع الأحكام"، كما في تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والتعلم. وقد اشتهرت الحكمة القائلة بأن "من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه" .

وهذا ما جعل علماء السَّلف يحذرون من تلقِّي العلم عن هذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي. يعنون بالمصحفي: الذي حفظ القرآن من المصحف فحسب، دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من شيوخه وقرائه المتقنين .

وأمَّا أفضل طريقةٍ لعلاج التَّطرف والغلو فهي:

1.نشر العلم الشَّرعي مع التَّأكيد على تزكيَّة النُّفوس والتربيَّة الإيمانيَّة، وذلك بأخذ العلم عن الأكابر المشهود لهم بالفقه والربانيَّة، فإنَّ ذلك يحدُّ من التَّطرف والغلو، فالرؤوس الجهلة هم سبب الضَّلال والإضلال، وأكابر أهل العلم والصلاح هم سبب الصَّلاح والإصلاح، وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه: ((ألا وإنَّ النَّاس بخيرٍ ما أخذوا العلم عن أكابرهم))، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((إن كم لن تزالوا بخير مادام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفه الصغير الكبير))، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((أتدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا. قال ذهاب العلماء هو ذهاب العلم)). وحاجة النَّاس إلى العلماء الريانيين أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فإنه يحتاج إليه في اليوم مرتين أوثلاثاً، والعلماء الربانيون يحتاج إليهم في كل وقت .

ويدخل في نشر العلم الشرعي محاور عدة منها: العناية بمناهج التعليم، وأن تتبنى سياسة التعليم منهجية الوسطية والاعتدال، ونبذ التطرف والغلو، ويشمل ذلك اختيار الكتاب والمعلم الذي يربي الأجيال الصاعدة.

2. الحوار الهادئ الحكيم مع الغلاة المتطرفين، انطلاقاً من قول ربنا تبارك وتعالى: ?وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل:125]، وقد حفظت لنا كتب الحديث الشريف والتَّاريخ نماذج رائعة من الحوار الحكيم، ومن ذلك محاورة ومناظرة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم مع الخوارج، فقد أثمرت محاورة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف، فالحوار أحد أساليب القضاء أو التقليل من التطرف .

3. رد شبهات المتطرفين والغلاة، تحقيقاً للحديث النبوي الوارد: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ». رواه البيهقي، وصححه أحمد والعلائي.

ومن ذلك الرَّد المباشر قول الخارجي: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» [أخرجه مسلم في صحيحه برقم 1063]. ويدخل في رد شبهات المتطرفين والغلاة، الرد بالمؤلفات والمقالات والندوات الإعلامية، والمحاضرات والدروس والفتاوى.

وينبغي أن يكون لوسائل الإعلام دور صادق جاد في مكافحة التَّطرف، لا ذلك الدور التضخيمي المهول، الذي يصور أنه لا يخلو بيت من وجود متطرف، ففي ذلك إساءة بالغة وتشويه لعظمة الإسلام، وتزوير لحقيقة المسلمين.

4. فتح باب الأمل في هداية الناس، والقيام بالوظيفة المقدسة المهجورة (وظيفة الأنبياء والرسل)، وهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بدون تركيز على ذنوب العباد وأخطاءهم، فكل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون، وذلك لأن كثرة التركيز على ذنوب العباد تورث في القلب يأساً من صلاحهم، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: «إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يقول: هلكَ الناسُ فهو أهلَكُهم». [ذكره البخاري في الأدب المفرد برقم 759]. وروى الإمام مالك في الموطأ: «إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ. فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» ، وقد ضبطت: "أهلكُهم"، بضم الكاف، أي أشد هلكاً، وبفتح الكاف: أي جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا على الحقيقة، ولكن طريقته تؤدي إلى الهلاك .

وأخيراً : لقد أثبتت الأيام والظروف التي تمر بها أمتنا ومجتمعاتنا الإسلامية حجتها إلى الخطاب الوسطي المعتدل، وكراهيتها ونفرتها من الخطاب المتطرف، الذي يخالف روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

المصدر :المجلة الحميدية الجزء الأول

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين