تأسيس الدولة الصفارية

 

 حدث في الرابع من جمادى الأولى 255

 

 

في الرابع من جمادى الأولى من سنة 255 استولى على إيران أبو يوسف يعقوب بن الليث الصَّفار، ليؤسِّس الدولة الصفارية التي امتدت من الباكستان إلى إيران، وكان يعقوب أحد أبطال العالم، وأحد الأمراء الدهاة الكبار.

 

كان يعقوب  في صغره يعمل في صناعة الصُّفر - النحاس - في سِجستان بخُراسان، وسجستان أو سِستان تقع اليوم في جنوبي غربي أفغانستان وشرقي إيران، وكان أخوه عمرو مُكارياً يكري الحمير، وكانا من أهل الزهد والتقشف، وكانت سجستان داخلة في إمارة خراسان التي قام بها آل طاهر بن الحسين الخزاعي، وأول من وليها منهم عبد الله بن طاهر بن الحسين سنة 213 في أيام المأمون.

 

وهربت إلى سجستان مجموعة من الخوارج الشُراة، الذين تسمَّوا بذلك لزعمهم أنهم شَرَوا أنفسهم لله تعالى أي باعوها، وأغارت فيها على القوافل والأفراد، فقام لقتالها مجموعة من المتطوعين ترأسهم رجل من أهل بُست يدعى صالح بن النضر الكناني، فانضم إليه يعقوب وهو شاب وقاتل معه، وجعله صالح نائبه على العسكر.

 

وفي سنة 237 تمرد صالح على إمارة طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، واستولى على سجستان، وذلك في خلافة المتوكل على الله، ولكن طاهر استطاع استخلاصها منه، وإن لم يستطع القضاء على قوة المطوعة.

 

ومات صالح بن النضر سنة 241 فاختار المتطوعة درهم بن الحسن أميراً عليهم، وبقي يعقوب على الطاعة مع الأمير الجديد كما كان مع صالح، وكان درهم بن الحسن رجلاً بسيطاً فلم يضبط أمور المطوعة، وبدأت أمورهم تتفلت، ومال عدد منهم إلى يعقوب بن الليث الذي كان قائدهم العسكري، ثم احتال أمير خراسان على درهم بن الحسن حتى ظفر به، فحمل إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق، ولزم بيته يظهر النسك والحج.

 

واختار المطوعة يعقوب بن الليث أميراً عليهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته ، وقيامه بأمرهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوها أحداً قبله، وقام بمحاربة الشُراة من الخوارج فظفر بهم وكاد يفنيهم، وكانت شجاعته في حربهم وإقدامه على قتالهم مضرب المثل، وكانت آثارها في جسده ووجهه، قال علي بن الحكم: سألت يعقوب بن الليث الصَّفار، عن الضربة التي علي وجهه، وهي مُنكَرة على قصبة أنفه ووجنته، فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الخوارج، وأنه طعن رجلاً منهم، فرجع عليه فضربه هذه الضربة، فسقط نصف وجهه، حتى رُدّ وخُيّطَ. قال: فمكثتُ عشرين يوماً في فمي أنبوبة قصب، وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي، وكان يُصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء، قال حاجبه: وقد كان مع هذه الضربة، يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل.

 

واشتدت شوكة يعقوب الصفار فغلب على سجستان سنة 247، وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتَبـَه وصَدَرَ عن أمره، وأظهر أنه أمره بقتال الشُراة، وضبط يعقوب الطرق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكثر أتباعه.

 

 وفي سنة 248 توفي الأمير طاهر بن عبد الله، فأصدر الخليفة العباسي المستعين بالله أمره من بغداد بتعيين ابنه محمد بن طاهر على خراسان.

 

وأصبحت قوة يعقوب تهديداً واضحاً لأمراء المناطق من حوله، وكانوا من قبائل الدُراني البشتونية، فحاربوه ولكنه هزمهم وشتت جموعهم، ثم اتجه في سنة 253 شمالاً نحو هراة ، وكانت أكبر مدينة قريبة منه، وهي حاضرة منطقتها ومركز تجارتها وتقع على الطرق التجارية فيها، وهي اليوم في غرب أفغانستان، وهاجم بلدة بوشنج فخرج إليه أميرها وكان معروفاً بالتدبير في الحرب وتحريك الجيش، فكان يعقوب يرد على كل حركة له بما يبطلها حتى هزمه، واستولى بعدها على هَراة، وأصبحت إمارته قوية غنية، فهابه أمراء الأطراف، ثم انضوى تحت لوائه أمراء القبائل الدُرانية وحفزوه على جهاد الهندوس فاتجه شرقاً فغزا المناطق التي تقع في حدود باكستان مع أفغانستان وإيران فهزمهم، وصارت له هيبة بين ملوك السند ومُلتان.

 

وقبض يعقوب الصفار على جماعة من آل طاهر ولاة خراسان، وحملهم إلى سجستان، فوجه الخليفة المعتز بالله  رسولا يعرف بابن بلعم برسالة جعله فيها أميراً على البلاد التي تحكم فيها، فأطلقهم. قال ابن بلعم: صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله إلى زَرَنْج - وكانت عاصمة بلاد سجستان -  فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت ولم أسلم عليه، وجلست بين يديه من غير أمره، ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له: قَبِّلْ كتابَ أمير المؤمنين! فلم يقبله، وفضَّه، فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله. فأعجبه ذلك، وأحسن مثواي ووصلني، وأطلق الطاهرية.

 

وتطلع يعقوب إلى أن يملك بلاد فارس ويجبي خراجَها الهائل، فكتب إلى الخليفة العباسي المعتز بالله ببغداد يعرض طاعته ويسأل أن يُعطى بلاد فارس، على أن يحمل للخليفة في كل سنة مبلغ 15 مليون درهم، وأرسل الصفار إلى المعتز بالله هدية سنية من جملتها مسجد فضة مخلّع يصلي فيه خمسة عشر إنسانا، وكان يُحمل على عدّة جمال، ويُفكَّكُ ثمّ يُركَّبُ، وعشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله، ومئة مُهر، وعشرين صندوقاً على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه، ومئة رطل من مسك، ومئة رطل عود هندي، وأربعة آلاف ألف درهم.

 

وكان الخليفة العباسي قد ولَّى عليَّ بن الحسين بن قريش على كرمان، وكان الخليفة في تلك الفترة ضعيفاً لا قدرة له على أن يقاتل أمراء الأطراف إن هم عصوا أمره، وبالطبع كان الصفار يدرك ذلك، ولذا عرض في كتابه أن يتولى هو إخراج الوالي الحالي علي بن الحسين بن قريش، وكان الخليفة يريد إزاحته لأنه كان يتأخر في حمل مال الخراج ويتعذر حتى ينقص منه، فكتب الخليفة إلى يعقوب بالولاية، وقصد أن يضرب كل واحد منهما بالآخر، وكان الخليفة  المعتز يعلم في باطن أمره أن كلاهما على نية العصيان.

 

ولم ينتظر يعقوب الإجابة من الخليفة، بل قدر أن سيصل خبر كتابه إلى علي بن الحسين بن قريش، فبادر بالمسير في جيشه إلى كرمان حتى نزل بلدة بَم على الحد الفاصل بين سجستان وبين كرمان، فخرج إليه العباس بين الحسين أخو علي وواليه على كرمان، ومعه أحمد بن الليث الكردي في جيش من الأكراد غير المسلمين، وارتكب هؤلاء فظائع مع سكان المناطق التي مروا فيها من قتل وسبي وأخذ للأموال، مما جعل الناس تكرههم وتميل إلى يعقوب الصفار، قال أحمد بن الحكم، قال لي يعقوب الصفار: أخبرني عن علي بن الحسين أمسلم هو؟ قلت: نعم، قال: أفرأيت مسلماً يوجه بالأكراد الكفار إلى بلاد المسلمين فيقتلونهم ويحملون نساءهم ويأخذون أموالهم؟ ألم تعلم أن أحمد بن الليث الكردي قتل بكرمان سبعمئة إنسان على دم واحد، وافتض الأكراد مئتي بكر من أهل البيوتات، وحملوا معهم نحو ألفي امرأة إلى بلادهم، أفرأيت مسلماً يرضى بهذا؟ قال: قلت: فعل أحمد هذا من غير أمره.

 

وأمسك أحمد بن الليث بجماعة من جيش يعقوب كانوا يطلبون العلف، فهرب بعضهم وقتل بعضهم، وأرسل أحمد بن الليث برؤوس المقتولين إلى علي بن الحسين الذي افتخر بهذا النصر ونصب رؤوسهم ليشهدها الناس في المدن، ولما بلغ الخبر يعقوب عَبَر الحدود ودخل  كرمان، فندب علي بن الحسين لمحاربته طوق بن المغلس في خمسة آلاف من الأكراد، سوى من تقدم مع أحمد بن الليث الكردي، وتواجه جيش يعقوب مع جيش طوق بن المغلس قرب كرمان، وأرسل يعقوب كتاباً إلى طوق يعلمه أنه أخطأ إذ دخل منطقة خارجة عن سلطانه واعتدى فيها على جنود يعقوب، فرد عليه طوق: أنت بعمل الصُفر أعلم منك بعمل الحروب!

 

وتحاجز الجيشان مدة شهرين، لا يتقدم يعقوب إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهر يعقوب الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظن أنه قد عدل عن حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكر راجعاً وطوى المرحلتين في مرحلة واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشي، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا.

 

وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق بن المغلس قيوداً في صناديق، ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أخرى أطواقاً وأساور يعطيها للشجعان من أصحابه، فلما غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى يعقوب الأطواق والأساور للشجعان من أصحابه، وقيد بالقيود والأغلال أصحاب علي.

 

ولما وضع الحداد القيد في يد طوق بن المغلس، مد يده رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتني حرارة ففصدتها، فأمر يعقوب مساعده أن ينزع له خفه، فتساقطت منه كسر يابسة، فقال: يا طوق، هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي فيه، منه آكل، وأنت جالس في الشرب!‏ وقيده بقيد خفيف، وأكرمه وأحسن إليه ووسع عليه، وكان طوق قبل خروجه إلى يعقوب اشترى داراً بشيراز بسبعين ألف درهم، ثم أنفق على تحسينها مالاً، فكتب إلى ابنه: لا تقطع البناء عن الدار، فإن الأمير يعقوب قد أكرمني وأحسن إلي.‏

 

ولجأ علي بن الحسين إلى السياسة فكتب كتاباً إلى يعقوب مضمونه أن طوق بن المغلس فعل ما فعل من غير أمره، وأنه لم يأمره بمحاربته، وقال له: إن كنت تطلب كرمان فقد خلفتَها وراءك، وإن كنت مأموراً من أمير المؤمنين فأورد كتابه بتسليم العمل لأنصرف. فرد عليه يعقوب: إن معي كتاباً من السلطان لا أوصله حتى أدخل البلد، والسيف بيننا،  والموعد مرج سنكان. وهو مرج واسع بينه وبين شيراز ثلاثة فراسخ.

 

و واستعد أهل شيراز للحصار، وكتب صاحب البريد بها ووجوه أهلها إلى يعقوب يعلمونه أن علي بن الحسين لن يسلم البلد إلا بكتاب الخليفة، ويناشدونه ألا يتسرع إلى سفك الدماء، مع ما وهب له الله تعالى من التطوع والديانة وقتل الخوارج ونفيهم عن بلاد خراسان وسجستان.

 

وكان المنهزمون من جيش طوق قد أسروا ثلاثة جنود من جيش يعقوب وعادوا بهم إلى شيراز، فحبسهم علي بن الحسين، فكتب طوق بن المغلس إليه يسأله إطلاقهم، وكان يعقوب وعده أن يطلقه مقابلهم، فقال علي بن الحسين: اكتبوا إلى يعقوب ليصلب طوق بن المغلس، وإن أقل عبد من عبيدي أكبر عندي منه. ولما بلغ هذا الجواب طوق بن المغلس انقلب على علي بن الحسين، وتقرب إلى يعقوب بمال عنده بشيراز ليقوى به على حرب علي بن الحسين، وكتب إلى ابنه في شيراز بذلك فوقع الكتاب في يد علي بن الحسين فأخذ المال وغيره من دار طوق.

 

وعرض يعقوب على علي بن الحسين أن ينسحب من كرمان ويعود إلى سجستان مقابل أن يدفع له مبلغاً من المال يوزعه في جنوده، وأرسل إليه في أول جمادى الأولى من سنة 255 كتاباً ورسالة شفوية مع وسيط، قال له فيها: إن معي قوماً أحراراً جئت بهم ليس يتأتى لي درؤهم إلا بما يحبون، فوجه إلي بما يرضيهم، ووجه لي في نفسي ما يشبه مثلي من البِر، فإذا فعلت فأنا أخوك وعونك على من حاربك، وأدفع لك كرمان تأكلها، وأنصرف إلى عملي.  وجاء في كتاب يعقوب: ... إني لست ممن تطمع نفسه في محاولة ظلم، ولا ممن يمكنه ذلك ... فإن البلد لأمير المؤمنين، ونحن عبيده بأمره في أرضه وسلطانه، وفي طاعة الله وطاعته، وقد استمعت من رسولك، ورجعت إليه في جواب ما عملته وأدائه ما يورده عليك لنا ولك فيه صلاحاً، فإن استعملته ففيه السلامة إن شاء الله تعالى، وإن أبيت فإن قدر الله تعالى نافذ لا محيص عنه، ونحن نعتصم بالله من الهلكة، ونعوذ به من دواعي البغي ومصارع الخذلان، ونرغب إليه في السلامة ديناً ودنيا بلطفه، مد الله في عمرك.

 

وحشد علي بن الحسين جيشاً تعداده 15.000 جندي، ووقعت المعركة في الرابع من جمادى الأولى من سنة 255، وانهزم جيش علي بن الحسين هزيمة منكرة، وقتل منه 5.000 قتيل، وهرب هاربوه حتى وصلوا الأهواز، وكاد جنود يعقوب أن يقتلوا علي بن الحسين فأعلمهم أنه الأمير فأسروه وجاءوا به إلى يعقوب، فوضعه في القيود، وصب عليه العذاب ليدله على الأموال، فدلهم على موضع في داره، فاستخرجوا منه أربعة ملايين درهم.

 

ودخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه، وظن أهل شيراز أنه يؤدبهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم، لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم لينهبوا شيراز، وبلغ أهلها ذلك فلزموا بيوتهم، ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز، فلما أصبح نادى بالأمان ليخرج أهلها إلى الأسواق، فخرج الناس، وأعطى كل فرد في جيشه ثلاثمئة درهم عوضاً عن ذلك، وحضرت الجمعة فأمر الخطيب فدعا للخليفة المعتز بالله ولم يدْعُ لنفسه، فقيل في ذلك فقال: الأمير لم يقدم بعد، وقال: إنما مقامي عندكم عشرة أيام، ثم أرجع إلى عمل سجستان. وعاد فعلاً إلى سجستان بعد حوالي ثلاثة أسابيع، واستعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.

 

وكانت الخلافة في بغداد بيد الأتراك في الحقيقة الذين استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه، حتى انه لما جلس المعتز على سرير الخلافة في سنة 252 قعد خواصه وأحضروا المنجمين، وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرفُ من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته! فقالوا له: فكم تقول إنه يعيش؟ وكيف يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبق في المجلس أحد إلا من ضحك.

 

ثم إن الأتراك ثاروا بالمعتز في رجب من سنة 255، وطلبوا منه مالاً فاعتذر إليهم وقال: ليس في الخزائن شيء. فاتفقوا على خلعه وقتله، فحضروا إلى بابه وهجموا عليه وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، ثم جعلوه في بيت وسدوا بابه حتى مات، بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه.

 

وجعل الأتراك مكانه الإمام المهتدي بالله ثم خُلِعَ بعد سنة في 16 رجب من سنة 256، ووضعوا مكانه المعتمد ‏على الله سنة 256، فأهمل أمور رعيته وتشاغل بلهوه ولذاته، فغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه الموفق طلحة بن جعفر المتوكل، ويسمى بالناصر لدين الله، وصيره كالمحجور عليه لا أمر ينفذ له ولا نهي، فقام الموفق بأمر الملك أحسن قيام، وقمع من قرب من الأعداء، واستصلح من نأى، على كثير ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم، وتوفي الموفق ببغداد سنة 278.

 

وبقي يعقوب على طاعته للخلافة وهو في نفس الوقت يوسع سلطانه ويوطده، واستمر على ذلك حتى سنة 258 فقد دخل فيها إلى فارس وجبى غلاتها ورجع ومعه 30 مليون درهم، وفي منتصف سنة 258 اتجه يعقوب شرقاً فدخل مدينة بلخ، وهي اليوم مزار شريف في شرق أفغانستان، وفي آخر سنة 259 اتجه غرباً فدخل نيسابور، واستسلم له أميرها محمد بن عبد الله بن طاهر آخر أمراء الأسرة الطاهرية، وكان أمرهم قد ضعف لكثرة الخارجين عليهم من أمراء النواحي، فأخذ يعقوب يوبخه ويعنفه على تفريطه في البلاد، حتى غلب عليها العدو.

 

وتوجه يعقوب بعدها  شرقاً نحو جُرجان للقاء الحسن بن زيد العلوي أمير طبرستان وجرجان، ولما بلغ الحسن بن زيد أن يعقوب يقصده أخذ من أموال الخراج ثلاثة عشر ألف ألف درهم وانسحب إلى طبرستان، ودخل يعقوب جرجان وسار بعدها إلى إقليم طبرستان، الواقع على بحر قزوين، وخرج إليه الحسن بن زيد في جيش كبير، ووقعت المعركة في 26 رجب سنة 260، وتقدم يعقوب بنفسه إلى القتال، فتبعه خمسمئة من عبيده، فحمل على الحسن وأصحابه حملة واحدة فانهزموا، وأخذ يعقوب مما كان مع الحسن بن زيد ثلثمئة وقر مالاً أكثرها عين، وظفر بجماعة من آل أبي طالب فأساء إليهم وأسرهم، وسار بعدها فاحتل آمُل، وهي عاصمة بلاد طبرستان.

 

وهرب الحسن بن زيد إلى بلدة يقال لها سالوس، فلم يجد قبولاً لدى أهلها فتركها، ويعقوب وراءه يتعقبه، فلما كاد أن يدركه جاءه الخبر أن الحسين بن طاهر بن عبد الله قد صار بجيش في مرو ومعه جنود أمير خوارزم، ولما كان هذا يهدد المناطق الشمالية في ملكه، ترك يعقوب طلب الحسن بن زيد وقرر العودة إلى هراة، ولكنه قبل ذلك كتب إلى أمير الري، وهي طهران اليوم، يأمره أن يخرج منها لأن أمير المؤمنين قد ولاه إياه.

 

وفي أول سنة 261 نشبت معركة بين يعقوب وبين الحسن بن زيد قرب جرجان في طبرستان، وانهزم جنود يعقوب وقتل عدد منهم، وانسحب هو إلى جرجان، فجاءت بها زلزلة عظيمة دامت ثلاثة أيام قتلت من أصحابه ألفي إنسان، وهكذا رجعت طبرستان إلى الحسن بن زيد العلوي.

 

وأقام يعقوب بجرجان يعد العدة للحرب، فاشتد على أهلها في فرض الخراج وجباية الأموال، وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة المعتمد على الله  فكتب إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، بأن يجمع الحاج من أهل خراسان وطبرستان وجرجان والري يقرأ عليهم كتاباً منه إليه، فجمع الحاج القادمين من أقاصي البلاد، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين يهاجم فيه الصفار ويذمه، وعمل ثلاثين نسخة، ودفع إلى أهل كل كورة نسخة لتذيع الأخبار بهذه النسخ في الآفاق، ثم كتب الخليفة إلى أصحاب الممالك بخراسان وذوي الجاه بتولية كل رجل ناحية.

 

ووصلت الأخبار إلى يعقوب الصفار، وانكشف له رأي الخليفة فيه، فرجع شرقاً إلى نيسابور، ولما دخل إليها أساء إلى أهلها بأخذ الأموال، ثم اتجه إلى سجستان في منتصف سنة 261 فأعد العدة وسار منها حتى وصل إلى عسكر مكرم في الأهواز، وأرسل منها كتاباً إلى الخليفة يسأله فيه ولاية خراسان وبلاد فارس وما كان مضموماً إلى آل طاهر بن الحسين الخزاعي من الكور وشرطتي بغداد وسر من رأى، وأن يعقد له على طبرستان وجرجان والري وأذربيجان وقزوين، وأن يعقد له على كرمان وسجستان والسند، وأن يحضر من قرئت عليهم الكتب التي نسخت في دار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويقرأ عليهم خلاف ما قرئ عليهم أولاً من ذكره، ليبطل ذلك الكتاب بهذا الكتاب.

 

وكان هذا طلباً تعجيزياً من الخليفة المعتمد على الله، ولكن أخا الخليفة الموفق بالله، والمستولي على الأمور كلها، أراد أن يتجنب القتال مع الصفار فأجابه إلى ما طلب، وجمع الناس وقرأ عليهم ما أحبه الصفار، وأجيب إلى الولاية التي طلبها.

 

وكانت نتيجة ذلك أن ثار الجنود على الخليفة لاستجابته لما طلبه الصفار، واتهموا الأمير الموفق بأنه على ترتيب مع الصفار الذي ما كان ليأتي لولا ذلك، واستغرب الناس  أن يقدم أمير صغير من زَرَنج في سجستان إلى بلاد العراق لمحاربة الخليفة وهو في جيوشه وعدده وتقادم مملكته في شرق الأرض وغربها، والصفار منفرد بجيشه ليس معه من يعضده ولا يشاركه في هذا الأمر! وتدارك الخليفة الأمر بأن لعن الصفار على الملأ، فطابت أنفس الموالي.

 

ولم تكن جرأة الصفار مجازفة خالية من الحسابات السليمة، إذ كانت فتنة الزنج التي مضت عليها سنوات تعصف بالخلافة وتذرو الفتن واحدة تلو الأخرى، فقد استولى الزنج على البصرة واستباحوها سنة 257، وأضحت الدولة العباسية في حالة ضعف واستنزاف شديدة في حربها معهم، ولذا قدر أنها لن تستطيع صده، وأضمر في نفسه الاستيلاء على العراق والسيطرة على الخليفة المعتمد، ويقال إنه قال في مسيره هذا أبياتاً ينكر على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:

 

خُراسان أحْوِيهَا وأعمال فارس ... وما أنا من ملك العراق بآيسِ

 

إذا ما أمور الدين ضاعت وأُهمِلت ... ورَثَّتْ فصارت كالرسوم الدوارس

 

خرجْتُ بعون الله يُمنا ونُصرة ... وصاحب رايات الهدى غير حارس

 

ووقعت المعركة في منطقة تدعى دير العاقول، وخرج المعتمد على الله بجيشه، ودعا ببُرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه، وأخذ القوس ليكون أول من رمى، ووزع العطاء في الجند، وقطع ما في الطريق من الشجر ‏والدغل، واستعد جنود الخليفة للحرب وجدَّوا فيها وشمروا، وقيل ما هو إلا أن تنتصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم ‏إليكم، ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، ووقف معه جماعة من أهل البأس والنجدة، وتقدم بين يديه الرماة ‏بالنشاب، ورشقوا في ذلك اليوم أزيد من عشرين ألف سهم، وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي، وحمل على أصحاب الصفار، وقتل بين ‏الطائفتين خلق كثير،  وأصيب يعقوب بثلاثة أسهم في يديه وحلقه.

 

وفجر الخليفة على جيش يعقوب نهراً يعرف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، واشتد القتال، فوقعت الهزيمة على الموفق، ثم ثبت، وانكسر أصحاب يعقوب، وكره أكثرهم القتال إذ رأوا أنفسهم يقاتلون الخليفة، فولوا الأدبار واستبيح عساكرهم، وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف، وخلَّصوا محمد بن طاهر، وكان مع يعقوب في القيود، ودخل يعقوب إلى فارس وخلع المعتمد على محمد بن طاهر إمارة خراسان، ورده إلى عمله، وأعطاه خمسمئة ألف درهم، وانتهز صاحب الزنج اشتغال العسكر، فنهب البطيحة، وقتل وأسر، فسار عسكر الموفق لحربه فهزمهم.

 

قال أبو الساج داود ابن دوست الكردي للصفار لما انهزم: ما رأيتُ ‏معك شيئاً من تدبير الحروب، وكيف كنت تغلب الناس! فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك ‏وقصدت بلداً على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل، وقاتلت يوم الأحد والريح عليك، ‏وسرتَ من السوس إلى واسط في أربعين يوماً، وأحوال العساكر مختلة، فلما توافت عُددهم، وجاءتهم أموالهم ‏واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين، وتأخرتَ عند إمكان الفرصة وأقبلتَ ‏تعدو في موضع التثبت، فقال الصفار: لم أعلم أني أحارب، ولم أشك في الظفر، وتوهمت أن الرُسُلَ تَرِدُ عليَّ، ‏فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه.‏

 

ومن مصائب الحروب الخسائر العلمية، وكان من خسائر هذه الحرب كتابٌ ألفه أبو عمرو شمر بن حمدويه الهَروي، وكان ثقة عالماً فاضلاً، حافظاً للغريب، راوية للأشعار والأخبار، فقد ألف كتاباً كبيراً أسسه على حروف المعجم، وابتدأه بحرف الجيم، لم يسبقه إلى مثله أحد تقدمه، ولا أدركه فيه من بعده؛ ولما أكمل الكتاب بخل به فلم ينسخه أحد من أصحابه، وتوفاه الله فاختزن بعض أقاربه ذلك الكتاب واتصل بيعقوب بن الليث، فقلده بعض أعماله، واستصحبه إلى فارس ونواحيها، فحمل معه ذلك الكتاب، فلما جرى الماء من النهروان على معسكره، غرق ذلك الكتاب في جملة ما غرق من سواد المعسكر.

 

قال أبو منصور الأزهري: أدركت أنا من ذلك الكتاب تفاريق أجزاء بغير خط شمر، فتصفحت أبوابها فوجدتها على غاية من الكمال؛ والله عز وجل يغفر لنا ولأبي عمرو زلته، فإن الضن بالعلم غير محمود، ولا مبارك فيه.

 

ومضى الصفار منهزماً إلى واسط، ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب والنهب، ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال، ثم قصد تُستر - وهي اليوم شوشتر في الأهواز- وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائباً، واستولى في سنة 263 على الأهواز، وقاتل الزنج الذين سيطروا على البصرة، وحاول رئيسُهم المسمى العلوي البصري استمالته، وكتب إليه يدعوه إلى الرجوع إلى بغداد، ووعده المساعدة، فقال لكاتبه: أجب عن كتابه، فقال: بماذا؟ فقال: اكتب: ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?، وسيَّر الكتاب إليه.

 

وبقي الصفار يشكل تهديداً للخلافة العباسية إلى أن توفي، فقد أرسل المعتمد إليه رسولاً بكتاب يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له وجعل عنده سيفاً ورغيفاً من الخبز الخشكار، أي غير المنخول، ومعه بصل، وأُحضر الرسول فأدى الرسالة، فقال له يعقوب: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أو تكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل. وأعاد الرسول.

 

مرض يعقوب بعلة القُولَنج - الإمساك الشديد - فأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة، فامتنع منها واختار الموت عليها، فمرض 16 يوماً ثم مات في جنديسابور في الأهواز في العاشر من شوال من سنة 265، وأجمع الجيش على أن يولوا مكانَه أخاه عمرو بن الليث، وأرسل عمرو كتاباً إلى الموفق أخي الخليفة المعتمد على الله بالسمع والطاعة، وأن يتولى ما كان أخوه يتولاه، فأجيب إلى سؤاله وتوليته.

 

واستمر عمرو أميراً حتى أوائل سنة 287، ويبدو أنه لم يكن مثل أخيه في التقشف، فقد كان لدى زوجته 1700 جارية، وكان جنده يظلمون أهل بلخ حتى كرهوه، وفي سنة 287 اعتدى عمرو على والي سمرقند إسماعيل بن أحمد بن أسد، وأراد أخذ سمرقند منه، فخضع له وقال: أنا في ثغر قد قنعت به، وأنت معك الدنيا، فدعني. فأبى إلا أخذها، فبادر إسماعيل في الشتاء، ودهم عمروا فانفض عنه كاتبه وجيشه وانحازوا إلى إسماعيل بن أحمد، وحمل عمرو إلى بغداد أسيراً حتى مات في سجن الخليفة، وانتهت الدولة الصفارية في حدود سنة 297 حين انهزم أخرهم: محمد بن علي بن الليث وحمل سجيناً إلى بغداد، وهناك في إيران اليوم من يعتبر الصفار بطلاً واجه العرب وأسس دولة إيرانية، وهو أمر لا يؤيده ما أوردنا من سيرة هذا القائد العظيم.

 

كان يعقوب الصفار ملكاً مدبراً عارفاً بالحروب وأصول الحكم، خلف في بيوت أمواله من العَين أربعة آلاف ألف دينار، ومن الفضة خمسون ألف ألف درهم، وكان عاقلاً حازماً قلَّ أن يُرى متبسماً، وكان خصمه الحسن بن زيد العلوي يسميه السندان  لثباته، وقال شيخ من الصفارين كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصُّفر: ولم أزل أتأمل بين عينيه ‏وهو صغير ما آل أمره إليه! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه إلا وجدته مطرقاً ‏إطراق ذي همة وروية، فكان من أمره ما كان.‏ وكان الصفار يقول: كلُّ من عاشرتَه أربعين يوماً ولا تعرف أخلاقه؛ لا تعرفها في أربعين سنة.

 

وكان يعقوب الصفار رحمه الله تغلب عليه التقوى ومراقبة الله، كما مرَّ في جوابه لصاحب الزنج، وروي أنه مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته، فقيل له: إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون، هو سهل بن عبد الله التُستري المتوفى سنة 283، فلو دعا الله لك؛ ترجو العافية. فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له، فقال له سهل: أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات، وإخراج المحبسين، فقال سهل: يا ربِّ كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله، فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً.

 

وأمر يعقوب أن يكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين. وكتب بعده هذين البيتين:    

 

أحسنْتَ ظـنَّك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء ما يأْتي به القدرُ

وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين