الإلحاد خرافة علميَّة

 

قلنا: إنَّ الإيمان معرفة بالله بلغت حدَّ اليقين، وإنَّ المعرفة المقبولة هي المعرفة الصحيحة التي تطابق الحق. وقلنا: إن هناك من يعرفون الله معرفة مَشُوبة بالخطأ، مَقرونة بأوهام لا يُساندها الواقع. وقد ذكرنا نماذج لتفكير هؤلاء. وبقي أن نتعرَّض لقوم آخرين لا يَعرفون الله أصلاً، بل يُنكرون وجوده بقوَّة. وهؤلاء الموغلون في الجحود قد اشتدَّت سواعدهم في العصر الأخير اشتداداً مُحزناً، وأسعفتهم حضارة الغرب الماديَّة بقوى كثيرة.

ففلسفة الشيوعيَّة القائمة على أنَّه، لا إله والحياة مادَّة، أمست لها دولة مُسلَّحة مخوفة، وفلسفة الوجوديَّة، أو نزعات البعد عن الدين إجمالاً، تنتظم مواكب ضخمة من المثقفين في دول أوروبا الغربيَّة، وهؤلاء يروجون لنظرية النشوء والارتقاء، ويدرسون الحياة على أنَّها بداية هزيلة مُبهمة تدرَّجت في سُلَّم التطور حتى بلغت وجودها الحالي، واستطاع الغزو الثقافي أن يقذف مجتمعنا بجملة من هذه الأفكار العليلة وهي أفكار ما تلبث ـ إذا نوقشت ـ أن تنهار. وقد تجدَّدت الحملة على الإيمان في الآونة الأخيرة فرأينا أن ندفع ما فيها من بَاطل، تحت العنوان نفسه الذي اختاره المبطلون وهو:

لغز الحياة:

ماذا ترى عندما تعبث الأيدي بأوراق اللعب، أو بأزهار النرد؟. إنها تلقي ما بها أو تستقبل ما أمامها دون أن تدري عنه شيئاً، ثم تتأمَّله بعد أن يقع لتعرف ماذا يحتوي. أترى الأطفال وهم يلهون بالألاعيب المهداة إليهم؟ إنهم يرمونها يمنة أو يسرة ويحركونها بضعف أو قوة، دون أن يكون لهم هدف أكثر من حب العبث وطلب المرح. هذه الحركات التي تلمحها في الصغار والكبار لا يمكن أن تُوصف بأنها مَقرونة بحكمة أو محكومة بقانون، أو مَصُوغة في إطار من سداد الفكر ودقة الغاية، إنها حركات وحسب.

 ونحب أن نسأل: هل خَلق العالم جاء على هذا الغرار؟ فركمت مواده بعضها فوق بعض دون قصد، وسيرت حركاته علواً وسفلاً دون ضبط، كأنَّ الخالق أراد من هذا الصنيع اللهو والتسلية! والجواب السريع: لا، فإنَّ مبدع هذه العوالم قال في وضوح: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ] {الأنبياء:16-17}. وفي آية أخرى يُبين أنَّ كيان هذا العالم تضام وتماسك، أو تحرك وانطلاق وفق نظام رائق، وسنن مُتَّسق، وغاية مرسومة، ومراحل معلومة: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {الدُخان:38-39}، ونريد أن نقف وقفة ذكية فاحصة عند كلمة: (الحق) هذه، فإنها تكرَّرت في كتاب الله عشرات المرات، وهي في شتى مواضعها تعني أنَّ الحياة لا تسير خبط عشواء، وأنَّ بناء الكون قائم على بصر نافذ وأوضاع اكتنفها من ألفها إلى يائها إعداد حكيم، وتنظيم مَضبوط، يستحيلُ أن يتطرَّق إليه خلل أو ينتابه عِوَج.

فكل قطرة في المحيطات الفسيحة أخذت سمتها والتقت مع سواها وتهيأت لحمل السفن الماخرة، أو صلحت لحياة الأسماك والحيتان، وثارت موجاً عاتياً أو حالت جليداً بارداً. كل قطرة في عالم الماء العميق الوسيع تكوَّنت على هذا النحو وفق قانون عتيد وخطة مَرسومة، وصل العلم البشرى إلى جزءٍ منها، وربما وصل إلى أجزاء أخرى مع إدمان النظر والتفكير.

وكل ذرَّة في القارات الراسية من أرض مخصبة أو مجدبة تماسكت مع غيرها وصلحت مِهَاداً للناس يستخرجون دفائنها، ويرتفقون ظَواهرها، ويجوبون أقطارها، ويعمرون فجاجها كل ذلك ما يتم إلا في نطاق التخطيط الأزلي الذي وضعه البارئ الأعلى للكائنات كلها، فهي مطبوعة به مُنساقة إليه لا تعرف غيره ولا تحيد عنه. أجل، فالنظام الشامل يسود كل حركة وسكنة تتعرض لها الكائنات جملة وتفصيلاً.

وعندما وجَّه فرعون إلى موسى وأخيه هذا السؤال: [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] {طه:49-50}، إنَّ هداية كل شيء في الحياة ليقوم بوظيفته المطبوع عليها، هو (التقدير) الذي سَيَّر الله به الحياة تسييراً مُتقناً..: [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] {الأعلى:1-3}، وذلك هو معنى الحق الذي قامت به السموات والأرض.

فلا تحسبن نبتاً ينبثق من ترابه كما يحلو له، إنَّ مقادير الأغذية التي يحملها أو الروائح التي يطلقها عبئت فيه وفق سنن بيَّنة قائمة. 

ولا تحسبن نجماً يخترق هذا الفضاء مُتجولاً فهو يسرع إذا أحبَّ ويبطئ إذا أحب، إنه يجرى تبعاً لقوانين قُيِّد بها، وقوى حبس في حدود أذن الله بها، ولم يأذن بغيرها، وقد وُزِّعت هذه الإيحاءات من بدأ الخليقة توزيعاً لا يلحقه اضطراب ولا ترقى إليه فوضى.

وإبرازاً لهذه الحقيقة قال الله جلَّ شأنه: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] {فصِّلت:11-12}، ذلكم هو الحق الذي انساب في أوصال العالم كما تنساب الروح في البدن، والذي تكرَّر كثيراً في سور القرآن الكريم: [مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ] {الأحقاف:3}، [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ] {الحجر:85}، [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ] {الرُّوم:8}. وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير!، لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له: بل هذا الكلام يوصف بأنه تفكير علمي لدى بعض الناس!. هذا المنطق الصبياني هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة! وحل مشكلة الوجود! وبيان أنَّ العالم مادَّة وحسب، وأنه لا إله.

هذا المنطق يريد أن ينقل خصائص الألوهيَّة إلى المادَّة نفسها جاعلاً السنن الكونية المنتظمة لها علامة تفكير واختيار لدى الأحياء والجمادات على سواء. يقول الكاتب: 

" اسمعوا هذه ليست نكتة

إنَّ الوردة فيها عقل

وشجرة البلوط لها عقل

 وإن كان عقلاً ثخيناً مثل جذعها الثخين

إنَّ حركة زهرة عباد الشمس وهي تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيراً عن حركة النحلة وهي تطير إلى الحقل لتجمع العسل.

 ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يَطير ليقتحم المخاطر مُستهدفاً رسالة سامية.

 إنَّ الحركات الثلاثة مَنظومة مُتصلة الحلقات، الفارق بينها فارق في الدرجة فقط إنَّ حركة زهرة عباد الشمس في بساطتها عقل. فما هو العقل؟ إنَّه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة. إنَّه في كلمات قليلة بسيطة: القدرة على اتخاذ موقف انتقائي أكثر مُلاءمة للحياة في كل لحظة، والزهرة حينما تلوي أوراقها نحو الضوء تتخذ مَوقفاً انتقائياً أكثر ملاءمة لحياتها. إنها تتحرك عاقلة، ومعنى هذا أنَّ العقل ليس شيئاً جَديداً في الإنسان، إنه في الطبيعة الحية كلها، كل الفرق أنَّ الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقاً مُعَقَّداً يملك يدين فيها عشرة أصابع، ويملك لساناً ناطقاً، ويملك عينين مبصرتين، وأذنين حادتين، وبشرة حسَّاسة، وأنفاً شماماً، وكل هذه الأجهزة في خدمة عقله. الإنسان حيوان إقطاعي عنده عشرة آلاف فدَّان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة، وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها.

وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة، العقل باطن كامن في كل الطبيعة الحيَّة، ومنذ أن انبثَّت الحياة في الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة، وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنيَّة التي في الإنسان: لا جديد في الإنسان، وإنما هناك تطور فقط".

أقرأتَ هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إنَّ أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارجٌ عنها، فإنَّ كل ذرَّة فيها تؤدِّي رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم!، فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت، وبرغبتها وقعت حيث وقعت! وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سادت وبمشيئتها أصابت من أصابت، وهذا الكلام ليس نكتة، بل هذا هو التفكير العلمي كما استقر في أذهان بعض الغافلين، وهو الحل الموفَّق للغز الحياة، كما يتخيَّل نفر من الحاقدين على الله، الكارهين لاسمه، المحاولين إطفاء نوره، والجنون فنون.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام للعلامة الشيخ محمد الغزالي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين