حول قوله تعالى :  [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...].

هذه الخطبة التي اخترناها لموقعنا من كلام فضيلة الشيخ : عبد الله سراج الدين في عدد من كتبه، وقد جمعت بين أقواله، وخرجت الأحاديث، ووضعت العناوين الفرعية الجانبية،  فنرجو أن تلقى هذه التأملات القرآنية لهذه الآية ـ التي تعد أجمع آية في الأمر بالخير وفي التحذير من الشر ـ قبولاً حسناً ونفعاً عاماً .

قال ـ رحمه الله تعالى ([1])ـ : (إن تفصيل الكلام على هذه الآية الكريمة يتطلَّب كتاباً مستقلاً ، ولكن لابدَّ من كلمة مجملة حول جانب من جوانبها فأقول :

إنَّ هذه الآية الكريمة جمعت مجامع الفلاح والصلاح والنجاح في الدين والدنيا ، والآخرة والأولى ، كما أنها قمعت وسدَّت ثغور الفساد والضلال والشرور.

قال ابن مسعود رضي الله عنه  :( أجمع آية في الخير ـ أي في الأمر بالخير ـ وأجمع آية في التحذير  من الشَّر هذه الآية : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...] {النحل:90}.

وقد قرأ الحسن البصري رضي الله عنه هذه الآية يوماً : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...] {النحل:90} ، الآية إلى تمامها ، ثم وقف فقال : إنَّ الله تعالى قد جمع لكم الخير كلَّه ، والشرَّ كلَّه في آيةٍ واحدة ، فوالله ما ترك العدل والإحسان شيئاً من طاعة الله عزَّ وجل إلاَّ جمعه ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله تعالى شيئاً إلا جَمَعَه . اهـ كما في  (الحلية).

[ وفي هذه الآية موعظة من ربِّ العالمين لعباده حتى يتَّعظوا ويتذكَّروا، فقال : [يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل:90} ،أي : من أجل أن تتذكَّروا وتتحقَّقوا بما جاء في الآية من أوامر، وتنتهوا عما فيها من النواهي ، وأما الأوامر فهي : العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ].

[ الأمر بالعدل المطلق ]

فجاءت الآية تُبيِّن أنَّ الله تعالى يأمر بالعدل المطلق ، والإطلاق يشمل ويعمُّ ، فيدخل تحت عمومه : العدل بالنسبة لموقف العبد مع ربه سبحانه ، والعدلُ بالنسبة لموقفه مع نفسه ، والعدل بالنسبة لموقفه مع مخلوقات الله تعالى .

[ العدل بالنسبة لموقف العبد مع ربِّه سبحانه ]

أمَّا الموقف الأول : فإنَّ العدل يوجب على العبد أن يكون موقفه مع الله تعالى ربِّ العالمين موقف المُوَحِّد اعتقاداً وعبادةً ، فإنَّ هذا رأس العدل ومصدر العدل ، وهو العدل فوق كلِّ عدل ، ولذلك قال حبر الامة وترجمان القرآن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ] {النحل:90}  :   ، الآية ، قال : (إنَّ الله تعالى يأمر بلا إله إلا الله ).

[ توحيد الله تعالى هو العدل القويم والشرك بالله ظلم عظيم ]

نعم لأنَّ كلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد ، وتوحيد الله تعالى هو العدل القويم ، والشِّرك بالله ظلمٌ عظيمٌ ، قال تعالى: [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13} ،وقال تعالى: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82}  ،جاء في الحديث أنَّ المراد بالظلم في هذه الآية هو الشِّرك.

فالتوحيد هو العدل ، والشِّرك هو الظلم ، فإنَّ اعتراف العاقل وإثباته الحقَّ لصاحب الحق هو عدل ، وأمَّا إنكاره الحق وإثباته لغير صاحبه فهو ظلم .

[ المُوحِّد يثبت الحق لمن له الحق ]

فإيمان الموحِّد وإثباته الإلهيَّة لله تعالى وحده هو العدل القويم ، لأنَّه إثبات الحقِّ لمن له الحق ، فإنَّ الله تعالى هو الربُّ الخالق البارئ المُصوِّر الرزاق المُدبِّر ، فإثبات الإلهية له وحده هو العدل ، لأنه اعترافٌ وإقرارٌ بالحقِّ لصاحبه .

[ المشرك يضع العبادة في غير موضعها ]

وأمَّا إثبات الإلهيَّة لغير الله تعالى فهو وضْعُ الشيء في غير موضعه المستحق له ، وهذا ليس من العدل بل هو الظلم العظيم ، وهذا ليس من الحكمة في شيء ، بل هو العبث والفساد والضلال ، فإنَّ الرب الذي هو يَخْلُقُ ويرزق ، ويُحيي ويميت ، هو الإله الذي يُعْبدُ حقاً ، وأما من لا يملك من ذلك شيئاً فإنه لا حظَّ له في الإلهيَّة ، قال تعالى: [أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {النحل:17}.

فإعطاء المشرك الإلهية لغير الله تعالى هو ظلمٌ عظيمٌ ، صَدَرَ عن ظالم لنفسه، وظالم في حكمه ، وظالم في أقواله وأفعاله ، فأيُّ ظلم أعظم من ذلك؟!!.

وأمَّا المُوحّد فهو العادل في توحيده ، والعادل في اعتقاده ، والعادل في عباداته  لربِّه ، والعادل في حُبِّه لربِّه ، وفي إرضائه وقُربه وتعظيمه لربِّه ، وحَمْدِهِ وتسبيحه وتكبيره ودعائه ربه.

[ توجُّه المُوحِّد إلى الله بكُلِّيَّته ]

فإنَّ المُوحِّد أيقن أنَّ الإلهَ واحدٌ لما ثبت بالدليل القطعي ، والذوق الفطريّ ، فتوجَّه المُوحِّد بكلِّيته إلى ذلك الإله الواحد في عبادته له ، وثنائه عليه ، وفي دعائه ، ومحبته له ، ورهبته منه ، ورغبته فيما عنده ، ومخافته منه ، ومراقبته له .

[ المشرك لا يستطيع العدل في محبَّة وطاعة إلهين على السَّواء ]

وأمَّا المشرك الذي جَعَل مع الله إلهاً آخر فهو على ظلمه العظيم في جعله مع الله إلهاً آخر ـ علاوة على ذلك ـ لو أنَّه طُولب أن يعدل بين الإلهين بأن يُحِبَّهما على السَّواء ، ويُعظِّمهما على حدٍّ سواء ، ويعبدهما على حدٍّ سواء ، ويحمدهما ويُثني عليهما على حدٍّ سواء ، وأن يدعوهما ويتضرَّع إليهما على حدٍّ سواء ، أو يخافهما ويرهبهما على حدٍّ سواء ، أو يرجوهما على حدٍّ سواء ، أو يراقبهما على حدٍّ سواء ، لو أنَّه طُولب بذلك لما استطاع ، بل لا بدَّ أن يميل إلى أحدهما أكثر من الآخر ، فهو ظالم في إشراكه ، وجعله مَنْ ليس بآله إلهاً ، وهو ظالمٌ في معاملته لهما ، وإلى هذا كلَّه يشير قوله تعالى مُنَبِّهاً للعقلاء: [وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] {النحل:51} ،أي : فإيَّاي فارهبون ، وأحبُّوني ، واحمدوني ، وادعوني ، وراقبوني ، فإنَّ ذلك مُستطاع لديكم ، فالحمد لله ربِّ العالمين ، [وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا] {الإسراء:111}  الله أكبرُ كبيراً ، والحمدُ لله كثيراً ، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلاً.

فالإشراك بالله تعالى ظلم عظيم ، ليس بمرضيٍّ شرعاً ، ولا مقبول عقلاً.

[ مثلُ من أشرك بالله تعالى ]

جاء في حديث الحارث الاشعري  الذي رواه الترمذي وغيره، وفيه :(قال يحيى بن زكريا عليهما السلام لبني إسرائيل وقد جمعهم في بيت المقدس وامتلأ بهم حتَّى جلسوا على الشُّرَف ، وذلك ليبلغهم ما أمرهم الله تعالى به ، فقال لهم : (إنَّ الله تعالى أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، فإنّ مَثَل ذلك ـ أي : مثل من أشرك بالله تعالى ـ كَمَثَل رجلٍ اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو وَرِق ـ أي : فضة ـ فقال له  ـ أي : قال الرجل المالك لعبده الذي اشتراه ـ : هذه داري وهذا عملي ، فاعمل وأدِّ إليَّ ، فكان هذا العبد يعمل ويُؤدِّي إلى غير سيِّده ، فأيُّكم يرضى أن يكون عبدهُ كذلك)الحديث.

فعبدٌ يعيش في دار مولاه ، ويأكل من رزقه ، ويرتع في رحابه ، ويتمتَّع بنعمه ، إذا عمل وأدَّى عمله لغير مولاه ، إنه لظالمٌ حقاً ، وليس بعادلٍ أصلاً.

[ عدل الإنسان مع نفسه ]

وأما عدل الإنسان مع نفسه فإنَّ للنفس على صاحبها حقاً ، وذلك بأن لا يُعرِّضها إلى ما يضرُّها في دينها ودنيها .

فلا يلقي بنفسه في المعاصي فيكون ظالمها غير عادل ، ومن ثَمَّ وصف الله تعالى المخالف لأوامره سبحانه أو المرتكب لما نهى عنه وصفه بأنَّه ظالم نفسه.

[ المخالف لأوامره سبحانه ظالم لنفسه ]

قال تعالى:[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}.

وقال تعالى: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] {آل عمران:135}.

وقال تعالى: [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ] {الزُّخرف:76}.

وقال تعالى: [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] {النحل:33}.

[ النَّهيُ عن تحميل النفس من العبادات فوق طاقتها ]

كما أنَّ من الحقِّ لنفسه عليه أن لا يُحمِّلها من العبادات النافلة فوق طاقتها حتَّى يقعد بها ، فقد قال صلى الله عليه وسلم  لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقوم الليل) ـ أي: كله ـ ؟ قلت : بلى يا رسول الله .

قال صلى الله عليه وسلم  : ( فلا تفعل ، صُمْ وأفطر ، ونَمْ وقُم ، فإنَّ لجسدك عليك حقاً ، وإنَّ لزوجك عليك حقاً ، وإنَّ لزوْرك ـ أي : ضيفك ـ عليك حقاً ) الحديث.

[ النَّهيُ عن حرمان النفس من الطيِّبات ]

كما أنَّ  من حقِّها عليه أن لا يحرمها طيِّبات ما أحلَّ الله تعالى له ، بأن يُحرِّم ذلك على نفسه ، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ] {المائدة:87}  :.

وقال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ] {الأعراف:32}.

[ سبب إمساك السلف عن بعض المباحات ]

وأمَّأ ما ورَدَ عن السَّلف الصالح رضي الله عنهم من إمساك النفس عن بعض المباحات والطيِّبات شراً ، فذلك من باب الحمية المؤقَّتة ، ومن القواعد الطبيَّة المقررَّة: الحمية رأس كل دواء ، وعوَّدوا كل جسم ما اعتاد. اهـ.

وليس ذلك من باب تحريم المباحات والطيِّبات كما يتوَّهمه بعض الجهلة ، فإنَّ أهل اله تعالى هم أشدُّ تمسكاً بشريعة الله تعالى .

[ العدل مع المخلوقات ]

وأمَّا العدل مع المخلوقات، فهو إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم ، وهذا بابٌ واسع تدخل فيه الأقوال ، قال تعالى: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] {الأنعام:152}  .فيشمل الحكم والقضاء ، والذم والثناء ، وتدخل فيه الأفعال : فتشمل البيع والشراء ، والأخذ والعطاء ، وجميع القضايا التجارية ، والمعاملات المالية.

ويدخل في ذلك حقوق الآباء والأمهات ، والأبناء ، والأقرباء ، والجيران ، وحقوق سائر بني الإنسان كما يدخل تحت ذلك حقوق الحيوان فيعامل بالرفق ، ولا يُحمَّل فوق طاقته ـ إلى آخر ما هنالك .

[ الإحسان المأمور في الآية الكريمة ]

وأمَّا الإحسان المأمور في الآية الكريمة فهو يشمل : إحسان المعاملة مع الخالق جلَّ وعلا ، ويشمل إحسان المعاملة مع المخلوقات.

[ إحسان المعاملة مع الله تعالى ]

أمَّا إحسان المعاملة مع الله تعالى : فهو إحسان عبادته ، والدوام على مراقبته ، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام حين سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم  وقال له :( فأخبرني عن الإحسان) ، فقال صلى الله عليه وسلم  :( الإحسان ، أن تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

وجاء رواية لمسلم : ( أن تخشى الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك) الحديث.

وذلك باستحضار العبد مقام القُرب ، وأنه أمام جَنَب حضرة الربِّ سبحانه ، مُشاهداً له كأنَّه يراه ، فإن لم يَسْتطع ذلك فَلْيراقب أنَّ الله تعالى يراه.

كما أنَّ من إحسان المعاملة مع الله تعالى : أن يكون المسلم في سائر أموره مع الله تعالى بالصِّدق والإخلاص له ، والإقبال عليه سبحانه.

[ الإحسان مع المخلوقات ]

وأمَّا الإحسان مع المخلوقات : فهو يشمل الإحسانَ بالقول ؛ قال تعالى: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] {البقرة:83} ، وإحسانَ الأعمال ، وهذا يتطلَّب الإحسان إليهم حَسَب ما يقتضيه الموقف معهم . قال الله تعالى: [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}  .

وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( إذا حكمتم فاعدلوا ، وإذا قتلتم فأحسنوا ، فإنَّ الله محسنٌ يُحبُّ المحسنين).

[ والإحسان مع خلق الله على مراتب ، فهناك إحسان واجبٌ مُحتَّمٌ على كل مؤمن وهناك إحسان هو رتبة كمال في حقِّ من تحقق به ، وفي هذا يقول سبحانه: [وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] {النساء:36}.

فلقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى هؤلاء . قال تعالى : { وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }، أي : أحسنوا بوالديكم إحساناً في تمام البر والطاعة .

{ وَبِذِي القُرْبَى } وهم الأرحام  ، بمواصلتهم وعيادتهم ومساعدتهم.

{ وَاليَتَامَى }  أن تُحسنوا إلى اليتامى ، وتتفقدوا أحوالهم ، وتُدخلوا السرور عليهم ، ومن الإحسان إلى اليتيم أن تمسح رأسه ملاطفاً له .

{ وَالمَسَاكِينِ } وهم : الفقراء .

{ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى } وهو الجار القريب رَحِماً منك .

{ وَالجَارِ الجُنُبِ }  وهو  الجار الذي لا قرابة بينك وبينه .

وذلك بأن تقدم له طعامأً إذا كان فقيراً ، وأن تساعده في شدَّته، وهكذا أن لا تعمل في بيتك عملاً يؤذيه ، وإنَّ أول خصمين يقفان بين يدي رب العالمين جاران اختلفا في أمر الدنيا .

{ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ }  أي : أحسن إلى صاحبك بالجْنب ، وهو الذي صاحبك بمجالسته إلى جَنْبك ، وأول ما يشمل هذا زوجتك ، كما أنك أيضاً صاحبها بالجنب .

ومن جملة الصاحب بالجنب الذي صحبته لأنه جانبك وهو من جالسك في مجلس ، أو رافقك في السفر ، فلا تضايقه في جلوسك أو بدخانك أو بغلظتك ، بل كن لطيفاً ، وجليساً مؤانساً .

{ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من العبيد المملوكين ـ حين كان هناك مماليك ـ ومن الإحسان إليه: أن تطعمه ممَّا تأكل ، وتُلبسه مثل ما تلبس .

وجاء في الحديث ، أن المعرور بن سويد قال : رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه  بالرَّبذَة ـ اسم بلدة ـ وعليه حُلَّة ، وعلى مملوك له ـ أي : عبد ـ حُلَّة ـ مثل حُلَّة أبي ذر ـ قال : فقلت كيف هذا يا أبا ذر ؟

قال : سابَبْتُ يوماً رجلاً ـ أي : مملوكي ـ فعيَّرته بأمه ، فراح العبد وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فدعاني صلى الله عليه وسلم  ،وقال : ( يا أبا ذر أعيَّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية ، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم).

فامتثل أبو ذر رضي الله عنه  أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  ووصيته بالمماليك .

وترى  هنا أنه سبحانه أوصى بالمماليك وأوصى بالأحرار ، وأوصى بالمساكين ، فمن بقي من الناس لم يوص الله به ؟ لأن الناس ما بين هذا وهذا] .

ومن جملة مراتب الإحسان : أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك  كما قال سبحانه: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34}.

[ الإحسان في كلِّ شيء ]

بل إنَّ من شريعة دين الإسلام الإحسان في كلِّ شيء، وإلى كلِّ شيء ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي يعلى شدَّاد بن أوس رضي الله عنه  عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم  أنه قال : (إنَّ الله كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة ، وَلْيُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَه وليُرحْ ذبيحته).

وهذا الحديث كما نقل العلامة المناوي وغيره عن السلف الصالح : أنه من قواعد الدِّين ودعائمه.

فالله تعالى كتب ـ أي : شَرَعَ ، فالكتابة تشريعية ـ الإحسان على كُلِّ شيء ، فتدخل : الأقوال ، والأفعال ، والأخلاق ، والمعاملة ، والمعاشرة ، والمجاورة ، وتشمل الإحسان إلى بني الإنسان ، وأنواع الحيوان .

[ وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم  على أعرابي يريد أن يذبح شاة فأضجعها وجعل يُحِدُّ شفرتَهُ ، فناداه صلى الله عليه وسلم  : ( أفلا قبل هذا ، أتريد أن تُمتها مَوْتَتَيْن ، هلاَّ أحْدَدْتَ شَفْرَتَكَ قبل أن تُضجِعَهَا)]

وقد أثبت سبحانه لأهل الإحسان معيَّته الخاصَّة ، قال تعالى: [إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128} ، وأثبت لهم محبته الخاصَّة ، فقال: [وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134}  .

وإنَّ تفصيل الكلام على بقية معاني الآية الكريمة له موضع آخر إن شاء الله تعالى ).

[ وقوله تعالى: [وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى] {النحل:90} ،أي : إعطاء ذوي القربى حقوقهم ، و من جملة ذلك : صلة الرَّحم ، بما تتضمن من حالٍ وقالٍ ،ومالٍ وعيادةٍ ، وزيارةٍ... وفي هذا يقول سبحانه: [وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ] {الإسراء:26} ، ولا يعني هذا في المال فقط ، بل بمواصلته وزيارته وعيادته وهكذا...

وقد نصَّ العلماء على أن صلة الرَّحم واجبة ، حتى ولو كان من هو من أرحامك مقاطعاً لك ، فيجب أن توصله ، وليست الصِّلة بالمكافأة ، كما جاء في الحديث : (ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن هو الذي يصل من قطعه) كما في البخاري.

أي : أن من واصلك من أرحامك فواصلته فذلك مكافأة ـ أي : مقابلة لمواصلته ـ ولكن المواصلة أن تصل من هجرك وقطعك .

واعلم أنَّ صلة الرحم تزيد في العمر ، وتزيد في الرزق ، وتزيد في الإيمان ، وتقرب من الرحمن ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم  : ( مَنْ سرَّهُ أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره) أي : يُؤَخَّر له في أجله ( فليصل رحمه).

[ النواهي الثلاث ]

وأما النواهي فهي: [وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ] {النحل:90}  .

والفحشاء : هو ما فحش من مشتهيات النفس الخبيثة ، وهذا لأن الإنسان فيه الدواعي والقوى الشهوانية البهيمية ، وفيه القوى السبُعية الغضبية ، وفيه القوى الوهمية الشيطانية، وفيه الاستعداد الملكوتي العلوي الربَّاني ، وإذا تغلبت الصفات الملكوتية العلوية صار الإنسان مؤمناً كاملاً ربانياً ، كما قال تعالى: [وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ] {آل عمران:79}.

وهذا الذي هو أهلٌ لأن يحلَّ: [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] {القمر:55}.

وأما الفحشاء فهي : إفراط النفس في الشهوات البهيمية على وَجْهٍ يُخرج عن حدِّ الشريعة والاعتدال، كالزنى مثلاً .

قوله تعالى: [وَالمُنْكَرِ] ،وهو ما تدفعه النفس بدافع السَّبُعيَّة الغضبيَّة ، فيتسلَّط على الناس بكلام مُؤْذٍ لهم ، كما هو شأن البهائم المؤذية ، فيسب ويشتم ويلعن ، ويأتي بمنكرات  الأفعال أيضاً .

ومن ذلك ما يحصل في المجالس من منكرات كالقهقهة المستغرقة ، ورفع الأصوات بالضحك ، وأخبر سبحانه عن قوم لوط: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنْكَرَ] {العنكبوت:29}  ،وكان من جملة منكراتهم أنهم يتضاحكون ويسخرون في مجالسهم ، ويخرجون من أدبارهم ما هو مُستقبح فعله .

كما نهى سبحانه عن منكرات الأحوال، وهو أن يقابل الإنسان أخاه بوجهٍ منكر عابس ، ومن واجب الإيمان أن يقابله بطلاقة وبشاشة ، أما التَّعالي والتَّغالي فهو شأنُ الحيوانات ، كما يمرُّ الذئب على الذئب فهو ذئب عليه .

فقوله تعالى [وَالبَغْيَ].وهو ما تدفع إليه القوة الشيطانيَّة’ الوهميَّة ، وهو  أن يقع في نفسه كِبْر وعُجْب ، فيبغي على غيره ، ويَسْطُو على غيره مُتجبِّراً متكبِّراً .

وقد يكون بَغْيُه على غيره في العِرض ، أو المال أو الدم ، وقد نهى الله عن ذلك كله.

*        *        *

 ([1] )  هدي القرآن الكريم إلى الحُجَّة والبرهان ص 252ـ259 ، وللشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ بحث مطوَّل حول هذه الآية أيضاً في كتابه : (محاضرات حول موقف سيدنا رسول الله مع العالم في الوعظ والتذكير) ص203 ـ 218. وقد أضفت بعض الزيادات من كلامه حول هذه الآية في كتابه المذكور بين معقوفين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 13/4/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين