أسد بن الفرات بن سنان رحمة الله فاتح صقلية

 

 

يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في كتابه الماتع المفيد صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل : " ..... وأنا أدعو كل طالب علم هُمَامٍ وهَمَّام ، وأرجو منه أن يقرأ ترجمة الإمام (أسد بن الفرات) ففيها يقف على مآثر متنوعة له ولشيوخه ، في العلم ، والنبل ، والكياسة ، والأدب ، والجهاد ، والشجاعة ، والاستبسال ، والاستشهاد ، والتقوى ، والتواضع ، وتحمل المشاق في تحصيل العلم والمكارم ، فهي ترجمة نابضة حافزة ، لا يشبع من قرأها من قراءتها " [ص:118]

فهذه ترجمة لهذا العالم الجليل والفارس النبيل من كتاب "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"  للإمام العلامة الحافظ القاضي عياض بن موسى الأندلسي المالكي (476- 544)هـ  . مع بعض التصرف لعل الله أن ينفع بها قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة .

أصله ونسبه :

هو أبو عبد الله أسد بن الفرات بن سنان قاضي القيروان، تلميذ مالك بن أنس رحمه الله تعالى .

نيسابوري الأصل ولد بحران من ديار بكر سنة 142 هـ .  

رحل به والده وعمره عامان ، مع الجند العربي بقيادة ابن الأشعث ، ودخل معه مدينة القيروان بتونس سنة 146 هـ فانقطع لقراءة القرآن وعلومه .

كان أسد يقول : أنا أسد ، وهو خير الوحوش ، وأبي فرات وهو خير المياه ، وجدي سنان وهو خير السلاح .

قال أسد رحمه الله: رأت أمي كأنَّ حشيشاً نبيت على ظهري ، ترعاه البهائم فعبر لها بأنه علم يحمل عني والله تعالى أعلم.

ذكر أخباره في رحلته

في المدينة المنورة مع الإمام مالك بن أنس رحمه الله :

قال أسد: لما خرجت من المشرق وأتيت المدينة فقدمت مالكاً وكان إذا أصبح خرج آذنه ، فأدخل أهل المدينة ، ثم أهل مصر، ثم عامة الناس فكنت أدخل معهم .

فلما رأى مالك رغبتي في العلم، قال لآذنه: ادخل القروي -نسبة للقرويين-  مع المصريين. فلما كان بعد يومين أو ثلاثة قلت له: إن لي صاحبين وقد استوحشت أن أدخل قبلهما فأمر بإدخالهما معي .

وكان ابن القاسم وغيره يحملني أن اسأل مالكاً، فإذا أجابني قالوا لي قل له فإن كان كذا وكذا، فضاق علي يوماً وقال هذه سلسلة بنت سلسلة. إن كان كذا كان كذا. إن أردت هذا فعليك بالعراق .

فلما ودعته حين خروجي إلى العراق ، دخلت عليه وصاحبان لي، وهما حارث التميمي وغالب صهر أسد. فقلنا له: أوصنا. فقال لي أوصيك بتقوى الله العظيم والقرآن ومناصحة هذه الأمة خيراً. فراسة من مالك فيه. فولي أسد بعدها القضاء. وقال لصاحبي أوصيكما بتقوى الله والقرآن ونشر هذا العلم .

قال سليمان بن خالد: لما سمع أسد الموطأ عن مالك قال له: زدني سماعاً. قال حسبك ما للناس. وكان مالك إذا تكلم بمسألة كتبها أصحابه فرأى أسد أمراً يطول فرحل إلى العراق .

في الكوفة مع أئمة المذهب الحنفي أبو يوسف ومحمد ابن الحسن رحمهم الله تعالى :

قال أسد رحمه الله : لما أتيت الكوفة ، أتيت أبا يوسف القاضي ، فوجدته جالساً ومعه شاب وهو يملي عليه مسألة. فلما فرغ منها قال ليت شعري ما يقول فيها مالك ؟ قلت : كذا وكذا. فنظر إليّ ..! فلما كان في اليوم الثاني كان مثل ذلك ، وفي الثالث مثله فلما افترق الناس دعاني .

وقال : من أين أنت ومن أين أقبلت ؟ قال فأخبرته .

قال : وما تطلب ؟

قلت  : ما ينفعني الله به ، فعطف عليّ الشاب الجالس ، فقال : ضمه إليك ، لعل الله ينفعك به في الدنيا والآخرة فخرجت معه إلى داره ، فإذا هو محمد بن الحسن الشيباني . فلزمته حتى كنت من المناظرين من أصحابه .

قال أسد رحمه الله : قلت لمحمد من الحسن أنا غريب والسماع منك قليل. قال اسمع العراقيين بالنهار وجئني بالليل وحدك تبيت معي فأسمعك . فكان إذا رآني نعست نضح وجهي بالماء.

ورآني يوماً أشرب ماء السبيل فقال لي :  تشربه ؟ فقلت له : أنا ابن سبيل . فلما كان الليل بعث إليّ بثمانين ديناراً . وقال ما عرفت أنك ابن سبيل ، إلا الآن .

وفاة الإمام مالك بن أنس رحمه الله وأثرها على أهل العراق –الأحناف- :

قال محمد بن الحارث وأبو اسحاق الشيرازي ويحيى بن اسحاق : رحل أسد إلى العراق فتفقه بأصحاب أبي حنيفة. ثم نعي مالك بن أنس فارتجت العراق لموته.

قال أسد رحمه الله :  فبينما نحن مع محمد بن الحسن يوماً في الحلقة إذ أتاه رجل يتخطى الناس حتى سارَّ محمد بن الحسن الشيباني فسمعنا محمد يقول : ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) مصيبة ما أعظمها ! مات مالك بن أنس . مات أمير المؤمنين في الحديث ! قال : ثم فشا الخبر في المسجد وماج الناس حزناً لموت مالك بن أنس .

قال أسد رحمه الله : فوالله ما بالعراق حلقة إلا وذكر مالك فيها. كلهم يقول مالك .. مالك إنا لله وإنا إليه راجعون ، فلما رأيت شدة وجدهم واجتماعهم على ذلك ذكرته لمحمد بن الحسن ، وهو المنظور فيهم . وقلت له لأختبره : ما كثرة ذكركم لمالك ، على أنه يخالفكم كثيراً ..!؟ فالتفت إليّ وقال لي : اسكت. كان والله أمير المؤمنين في الآثار.

فكان أسد بعد موت مالك ، إذا حدث عن مالك اجتمع إليه الناس وانسدت عليه الطريق رغبة في حديث مالك ، وإذا حدث عن غيره لم يجئه إلا الخاصة .

فندم أسد على ما فاته وجمع أمره على الانتقال إلى مذهبه .  وقال أسد عند ذلك : إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه . فقرر الرحيل إلى مصر ...!

حيث تنزل نفسك عند السلطان أنزلوك :

فلما أراد العودة إلى إفريقية لم يكن عنده ما يتحمل به من المال على السفر ، فذكر ذلك لمحمد بن الحسن . فقال له : أذكر شأنك لولي العهد فلقيه ابن الحسن وذاكره أمره ، ثم قال لأسد : قف بالحاجب يوم كذا يدخلك عليه ، واعلم أنك حيث تنزل نفسك أنزلوك . فمضى أسد وأستأذن ، فأذن له فدخل حتى أنتهى إلى موضع أمر بالجلوس فيه ، ومضى الخادم الذي أدخله ، فجاء بمائدة مغطاة فجعلها بين يديه ، قال أسد : ففكرت وقلت ما أرى هذا إلا منقصة . وقلت للخادم : هذا الذي جئتني به منك أو من مولاك . قال : مولاي أمرني به . قلت: مولاك لا يرضى بهذا .! يأكل ضيفه دونه. يا غلام هذا برّ منك وجبت مكافأتك عليه. وكانت في جيبي أربعون درهماً لم يبق معي سواها فدفعتها إلى الخادم، وقلت له أرفع مائدتك. ففعل وعرّف مولاه. فبلغني أنه قال حر والذي لا إله إلا هو . ثم قال الخادم ادخل. فدخلت عليه. وهو على سرير ومعلمه على آخر، وسرير ثالث. قال فأمرني بالجلوس عليه، فجلست. وجعل يسألني وأجيبه ، فلما قرب انصرافي كتب رقعة وختمها ودفعها إليّ وقال قف بهذا إلى صاحب الديوان وتعود إليّ. فأخذت الرقعة وحضرتها. ولقيت محمداً من الغد فسألني، فأعلمته. فقال لي أوصل الساعة الرقعة. ففعلت. فدفع إليّ صاحب الديوان عشرة آلاف درهم، فأعلمت محمد بن الحسن فقال لي إن عدت إلى القوم صرت لهم خادماً، وفيما أخذت عون لك.

 

 

إلى مكة المكرمة مع محمد بن الحسن الشيباني الحنفي :

قال أسد : ورغب إليّ محمد بن الحسن أن أزامله إلى مكة للحج . فكأني كرهت هذا . فقال لي أصحابه : وددنا لو اشترينا هذا منه بعشرة آلاف درهم ، فزاملته. فكنت أسأله عما أريد ، وربما سألته وهو في الصلاة، فيمهد بالقراءة يعلمني أنه يصلي، فأقول: تشغل عني الصلاة وقد قطعت البلاد إليك. فيقطع ويجيبني.

أسد بن الفرات في مصر  مع تلاميذ الإمام مالك :

قال أبو اسحاق الشيرازي: لما قدم أسد مصر أتى إلى ابن وهب وقال هذه كتب أبي حنيفة ، وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك. فتورع ابن وهب وأبى.

فذهب إلى ابن القاسم فأجابه إلى ما طلب. وقال له : كنت اختم في اليوم والليلة ختمين فقد نزلت لك عن واحدة رغبة في إحياء العلم.

فأجابه فيما حفظ عن مالك بقوله . وفيما شك قال: أخال وأحسب وأظن به ، ومنها ما قال فيه ، سمعته يقول في مسالة كذا وكذا. ومسألتك مثله ، ومنه ما قال فيه باجتهاده على ًاصل قول مالك .

الأسدية :

قال أسد: فكنت أكتب الأسئلة بالليل في قنداق من أسئلة العراقيين على قياس قول مالك. وأغدو عليه بها، فأسأله عنها. فربما اختلفنا فتناظرنا على قياس قول مالك فيها. فارجع إلى قوله أو يرجع إلى قولي . فلما أردت الخروج إلى إفريقية دفع إليّ ابن القاسم سماعه من مالك . وقال لي : ربما أجبتك وأنا على شغل. ولكن أنظر في هذا الكتاب فما خالفه مما أجبتك فيه ، فأسقطه.

فكان يسأله كل يوم ، حتى دون عنه ستين كتاباً ، وتسمى تلك الكتب الأسدية .

طلاب مصر يطلبون الأسدية بالقضاء:

قال وطلب منه أهل مصر الأسدية ، فأبى أسد عليهم، فقدموه إلى القاضي ، فقال لهم: أي سبيل لكم عليه! رجل سأل رجلاً فأجابه وهو بين أظهركم فاسألوه كما سأله. فرغبوا إلى القاضي في سؤاله قضاء حاجتهم في نسخها، فسأله، فأجابه، فنسخوها، حتى فرغوا منها وأتى بها أسد إلى القيروان، فكتبها الناس.

قال ابن سحنون: وحصلت لأسد بتلك الكتب في القيروان رياسة.

ومنعها أسد من سحنون ، فتلطف سحنون حتى وصلت إليه . ثم ارتحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم . فقال لسحنون : فيها شيء لا بد من تغييره ، وأجاب عما كان يشك فيه ، واستدرك فيها أشياء كثيرة ، فكاشف ابن القاسم عن هذه الكتب مكاشفة فقيه يفهم ، فهذبها مع سحنون وأسقط منها ما كان يشك فيه من قول مالك ، وأجابه فيه على رأيه لأنه كان أملاها على أسد من حفظه.

وكتب إلى أسد أن أعارض كتبك على كتب سحنون فإني رجعت عن أشياء مما رويتها عني . فغضب أسد وقال: قل لابن القاسم أنا صيرتك ابن القاسم ، ارجع عما اتفقنا عليه إلى ما رجعت أنت الآن عنه. فترك أسد سماعها ، وذكر أن بعض أصحاب أسد دخل عليه وهو يبكي ، فسأله. فأخبره بالقصة.

وقال أعرض كتبي على كتبه وأنا ربيته ؟ فقال له هذا: وأنت الذي نوهت لابن القاسم، فقال له لا تفعل. لو رأيته لم تقل هذا. وذكر أن أسداً همّ بإصلاحها، فرده عن ذلك بعض أصحابه، وقال لا تضع قدرك تصلح كتبك من كتبه وأنت سمعتها قبله؟ فترك ذلك. وذكر أن ذلك بلغ ابن القاسم، فقال: اللهم لا تبارك في الأسدية.

قال الشيرازي : فهي مرفوضة إلى اليوم ، واقتصر الناس على التفقه في كتب سحنون ،  ونظر سحنون فيها نظراً آخر فهذبها ، وبوّبها ودونّها ، وألحق فيها من خلاف كبار أصحاب مالك ما أختار ذكره،  وذيّل أبوابها بالحديث والآثار ، إلا كتباً منها مفرقة ، بقيت على اصل اختلاطها في السماع ، فهذه هي كتب سحنون المدونة والمختلطة. وهي أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها ، عند المغاربة ، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوهم ، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم ونُسِيَتْ الأسدية فلا ذكر لها الآن وكان لمحمد بن عبد الحكم فيها اختصار، ولأبي زيد بن أبي الغمر فيها اختصار، وللبرقي فيها اختصار، وهو الذي كان صححها على ابن القاسم ، وكان عليها مدار أهل مصر.

مكانة أسد من العلم والفضل والسنة :

قال أبو العرب: كان أسد ثقة ، لم يرم ببدعة .

قال سلمان بن عمران: سمع أسد بن هشيم اثني عشر ألف حديث. وقال: سمعت من أبي زائدة عشرين ألف حديث.

وقال ربما رأيت أسداً يدق صدره ويقول: واحسرتا إن مت ليدخلن القبر مني علم عظيم. قال: وبسبب أسد ظهر العلم بإفريقية.

قال غيره. كان أسد أعلم العراقيين بالقيروان كافة. ومذهبه السنة لا يعرف غيرها. قال: ولما قدم أسد القيروان سمع منه علماؤها ووجوهها سحنون ابن سعيد وأمثاله من المدنيين، وأصحابه المعروفون به، كعمرو بن وهب وسليمان بن عمران وبني قادم ، وابن المنهال، وسائر الكوفيين سمعوا منه كتب أبي حنيفة.

وكان أسد إذا سرد أقوال العراقيين يقول له مشائخ المدنيين: أوقد القنديل الثاني يا أبا عبد الله . فيسرد أقوال المدنيين.

قال أسد: بعث إليّ ابن غانم يشاورني ، فأجبته. فقال بعدما خرجت : ما أحب أن أشاور في هذا البلد غير هذا الفتى .

وكان أسد إذا جاء باب ابن غانم فقرعه،  فقيل : من؟ قال: أسد الفقيه. فيقول ابن غانم: صدق .

قال عمران بن أبي محرز: جاءنا موت أسد فاستعظمه أبي ، وقال: اليوم مات العلم.  

ولاية أسد القضاء والإمارة :

ولي الأمير زيادة الله أسداً القضاء شريكاً لأبي محرز الكناني،  سنة ثلاث أو أربع ومائتين. فاشتركا في القضاء. وكان ما بينهما غير جميل ، فكان أسد أغزرهما علماً وفقهاً ، وأبو محرز أسدهما رأياً،  وأكثرهما صواباً . قام قاضياً إلى أن خرج إلى صقلية .

قال بعضهم : بعث الأمير إلى أبي محرز وأسد ، وهما قاضياه فأقبل أسد ، فإذا أبو محرز ينتظره مع بعض الرسل، فقال : كيف أصبحت أبا محرز؟ فلم يرد عليه شيئاً، وصار إلى الأمير، فأجلس أبا محرز عن يمينه وأسداً عن شماله، ثم دفع صكاً إلى أسد ليقرأه ، فلما قرأ : بسم الله الرحمان الرحيم .

قال له أبو محرز: أخطأت .

فقال أسد : أيها الأمير لقيته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام ، ولم أقرأ إلا كلمتين فقال لي أخطأت ، فنظر زيادة الله إليه ، فقال أبو محرز: ما سلّم علي ولو سلّم علي لرددت عليه ، وإنما قال : كيف أصبحت ؟ وأصبحت مغموماً فلو أخبرته لسررته .

ودخل رجل على الأمير زيادة الله وعنده أسد بن الفرات وأبا محرز فذكر الرجل للأمير أنه رأى كأن جبرائيل هبط من السماء، ومعه نور حتى وقف بين يديك وصافحك. وفي رواية وقبل يدك ، فابتسم زيادة الله ، وقال: هذا عدل يجريه الله على يدي . فقال أسد كذب الشيخ أيها الأمير ، فغضب ونظر إلى أبي محرز كالمحرك له، ليعلم ما بينهما. فقال أبو محرز: صدق أسد وكذب الشيخ. لأن جبريل لا ينزل بوحي إلا على نبي، وقد انقطع الوحي. وهذا وأمثاله يأتونكم بمثل هذا طلباً للدنيا ، فاتق الله . فسكت الأمير وخرجا  فجزى أسد أبا محرز خيراً فقال له: لله فعلت ذلك لا لك . وكانا على تباعدهما لا يستحل أحدهما من صاحبه ما لا يحل .

فاتح صقلية :

كان أسد بن الفرات رحمه الله مع علمه وفقهه أحد الأبطال الشجعان ، خرج سنة اثنتي عشرة والياً على جيش صقلية ، في عشرة آلاف رجل ، منهم تسعمائة فارس . وكان سبب غزوة صقلية أنهم كانوا معه في هدنة ، وكان في شرطهم أن من دخل إليهم من المسلمين وأراد أن يرد بعضهم رده ، فرجع إلى زيادة الله أن عندهم أسرى ، فجاء رسل طاغيتها ، فجمع زيادة الله العلماء وسألهم عن الأمر :

فقال أبو محرز: يستأنى -ننتظر- حتى يتبين.

وقال أسد: يسأل رسلهم عن ذلك ..!

فقال أبو محرز: كيف يقبل قولهم عليهم ..!

فقال أسد : بالرسل هادناهم وبهم نجعلهم ناقضين . قال الله تعالى : ) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلّم وأنت الأعلون ( . فنحن الأعلون . فسأل الرسل ، فاعترفوا أنهم في دينهم لا يحلُّ لهم ردهم . فأمر زيادة الله بالغزو إليها وتنصيب أسد بن الفرات على أمرة الجيش .

فقال أسد إذ ذاك لزيادة الله : من بعد القضاء ، والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة ؟

فقال : لا .. ولكني وليتك الإمارة وهي أشرف ، وأبقيت لك اسم القضاء. فأنت أمير، قاض .

فخرج إلى صقلية وظفر بكثير منها وتوفي وهو محاصر سرقوسة منها . وكان أيضاً قد غزا سردانية ، فأشرف على فتحها ، وحسده بعض من كان معه، فانهزم. وبلغ ذلك الأمير زيادة الله . فقال لأسد : بلغني كذا وكذا . فقل لي من فعل ذلك معك ، فرفض أن يجيبه .

لما خرج أسد إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية ، خرج معه وجوه أهل العلم والناس يشيعونه ، وأمر زيادة الله أن لا يبقى أحد من رجاله إلا شيعه . فلما نظر الناس حوله من كل جهة ، وقد صهلت الخيل وضربت الطبول وخفقت البنود ، وقف أسد وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والله يا معشر المسلمين ما ولي لي أب ، ولا جدّ ولا رأي أحد الناس من سلفي ، مثل هذا. ولا بلغت ما ترون إلا بالأقلام فاجتهدوا أنفسكم فيها ، وثابروا على تدوين العلم ، تنالوا به الدنيا والآخرة.

وحكى سليمان بن سالم أن أسداً لقي ملك صقلية في مائة وخمسين ألفاً. قال الرواي فرأيت أسداً وفي يده اللواء وهو يزمزم وأقبل على قراءة يس ، ثم حرض الناس ، وحمل وحملوا معه ، فهزم الله جموع النصارى، ورأيت أسداً وقد سالت الدماء على قناة اللواء .

حتى صار تحت إبطه، ولقد رد يده في بعض تلك الأيام فلم يستطع مما اجتمع من الدم تحت إبطه والله تعالى أعلم.

وفاته :

وكانت وفاة أسد في حصار سرقوسة ، من غزوة صقلية ، وهو أمير الجيش وقاضيه . سنة ثلاث عشر ومائتين. وقيل أربع عشرة،  وقيل سبع عشرة. وقبره ومسجده بصقلية.

وقد ذكره فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه رجال من التاريخ تحت عنوان الفقيه الأميرال في ترجمة ماتعة نافعة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين