الجمع بين الثبات والمرونة في رسالة الإسلام

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي


يكاد الذين يكتبون عن الإسلام ورسالته وحضارته في عصرنا ، ينقسمون إلى فئتين متقابلتين:
فئة تبرز جانب المرونة و التطور ، في أحكام الإسلام وتعاليمه ، حتى تحسبها عجينة لينة قابلة لما شاء الناس من خلق وتشكيل ، بلا حدود ولا قيود.
وفي الشق الآخر فئة تبرز جانب الثبات والخلود ، في تشريعه وتوجيهه ، حتى يخيل إليك أنك أما صخرة صلدة ، لا تتحرك ولا تلين.


وهذا هو عيب كثير من البشر ، حيث ينظرون إلى القضايا من جانب واحد ، مغفلين بقية الجوانب ، على ما يكون لها من أهمية قصوى ، فيجنحون إلى الافراط أو التفريط.
وقليل من الكاتبين هو الذي سلم من غلو المفرطين ، وتقصير المفرطين ، وكانت رؤيته واضحة لهذا المنهج الالهي الفريد الذي قام على أساسه مجتمع رباني انساني ، وحضارة متكاملة متوازنة.
والحقيقة أن المجتمع المسلم قد اختص بظاهرة فذة ،  تعتبر من أبرز ما يميزه عن سائر المجتمعات الأخرى ، تلك هي ظاهرة التوازن ، وإن شئت قلت : ظاهرة الوسطية : التي يشير إليها قوله تعالى :[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143} .


وأن من أجلى مظاهر التوازن والوسطية التي يتميز بها نظام الإسلام ، وبالتالي يتميز بها مجتمعه عن غيره : التوازن بين الثبات والتطور ، أو الثبات والمرونة ، فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع ، واضعاً كلاً منهما في موضعه الصحيح... الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى ، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور.
وهذه الخصيصة البارزة لرسالة الإسلام ، لا توجد في شريعة سماوية ولا وضعية.
فالسماوية ـ عادة ـ تمثل الثبات : يلاحظ أن الشرائع السماوية قبل الإسلام كانت مرحلية ، لزمن موقوت ، ولقوم مخصوصين ، فلم تكن في حاجة إلى المرونة ، التي تؤهلها للعموم والخلود ، بخلاف الإسلام ، الذي بعث رسوله إلى الناس كافة ، وختم به النبيون ، بل الجمود أحياناً ، حتى سجل التاريخ على كثير من رجالاتها وقوفهم في وجه الحركات العلمية والتحريرية الكبرى ،  ورفضهم لكل جديد في ميدان الفكر أو التشريع أو التنظيم.


وأما الشرائع الوضعية ، فهي تمثل ـ عادة ـ المرونة المطلقة ، ولهذا نراها في تغير دائم ، ولا تكاد تستقر على حال ، حتى الدساتير التي هي أم القوانين ، كثيراً ما تلغي بجرة قلم ، من حاكم متغلب ، أو مجلس للثورة أو برلمان منتخب ، انتخاباً صحيحاً أو زائفاً ، حتى يصبح الناس ويمسوا وهم غير مطمئنين إلى ثبات أي مادة ، أو قاعدة قانونية ، كانت بالأمس موضع التجلة والاحترام.


ولكن الإسلام ، الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية ، أو دع الله فيه عنصر الثبات والخلود ، وعنصر المرونة والتطور ، معاً وهذا من روائع الاعجاز في هذا الدين ، وآية من آيات عمومه و خلوده ، و صلاحيته لكل زمان وكل مكان.


ونستطيع أن نحدد مجال الثبات ، ومجال المرونة ، في شريعة الإسلام ، ورسالته الشاملة الخالدة ، فنقول:
إنه الثبات على الأهداف والغايات والمرونة في الوسائل والأساليب.
الثبات على الأصول والكليات ، والمرونة في الفروع والجزئيات.
الثبات على القيم الدينية والأخلاقية ، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.


الثبات والتطور في الحياة والكون:
وربما سال سائل : لماذا كان هذا هو شأن الإسلام ؟ لماذا لم يودعه الله المرونة المطلقة أو الثبات المطلق؟
والجواب : أن الإسلام بهذا ، يتسق مع  طبيعة الحياة الانسانية خاصة ، ومع  طبيعة الكون الكبير عامة ، فقد جاء هذا الدين مسايراً لفطرة الانسان وفطرة الوجود.
أما طبيعة الحياة الانسانية نفسها ، ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقي الانسان وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور.
فالإنسان اليوم قد اتسعت مداركه ، وارتقت معارفه ، وازدادت قدرته على تسخير القوى الكونية من حوله ، والانتفاع بها ، حتى استطاع أن يصعد إلى القمر ويعيش فوق ظهره أياماً معدودة ، يكتشف مجاهيله ، ويحمل إلى أهل الأرض نماذج من ترابه وصخوره.


ولكن هل تغير جوهر إنسان اليوم ، عن جوهر إنسان ما قبل التاريخ؟ وما بعد التاريخ؟
هل تغير جوهر الإنسان المعاصر ، الذي صعد إلى كوكب القمر ، عن الانسان الذي لم يكن يعرف كيف يواري سوأة أخيه ، حتى علمه الغراب؟
كلا : إن جوهر الإنسان واحد ، إن تطورت معارفه ، وتضاعفت امكاناته.
فالإنسان منذ عهد أبيه الأول إلى اليوم ، يأكل ويشرب ويحب الخلود ، ويضعف عزمه أمام دوافع النفس من داخله ،  أو وساوس الشر من خارجه ، فيعصي ويغوي ، ثم يصحو ضميره ، ويشعر بالذنب فيرجع ويتوب ، ليبدأ صفحة بيضاء من جديد.


رأينا ذلك في قصة آدم أبي البشر ، وأكله من الشجرة التي نهى عنها بعد أن وسوس له الشيطان ، ودلاه بغرور ، وأوهمه أنها شجرة الخلد ، والملك الذي لا يبلى [وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى] {طه:122} .
ويوجد في بني الإنسان الشرير الذي يحسد أخاه فلا يتورع عن قتله طغياناً بلا ذنب جناه.
كما يوجد الإنسان الخير المهذب الذي لا يقترف الشر ولا يفكر فيه ، ولا يقابل السيئة ، وقد رأينا ذلك في قصة ابني آدم ، التي قصها الله علينا بالحق ، حين حسد أحدهما أخاه فقتله ، فأصبح من الخاسرين ، على حين أبى الآخر أن يبسط يده إليه بسوء قائلاً: [إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28} .
ولا زلنا نراها في ألوف وملايين من ذرية آدم ، يتمثل فيها (قابيل وهابيل) كما يسميان وستظل البشرية تراها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


وإذا نظرنا إلى الكون من حولنا ، و جدناه يحوي أشياء ثابتة ، تمضي ألوف السنين وألوف الألوف وهي هي : أرض وجبال ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، ونجوم مسخرات بأمر الله ، كل في فلك يسبحون.
وفيه أيضاً عناصر جزئية متغيرة ، جزر تنشأ ، وبحيرات تجف ، وأنهار تحفر ، وماء يطغى على اليابسة ، ويبس يزحف على الماء ، وأرض ميتة تحيا ، وصحاري قفر تخضر ، وبلاد تعمر ، و أمصار تخرب ، وزرع ينبت وينمو ، وآخر يذوي ويصبح هشيماً تذروه الرياح.
هذا هو شأن الإنسان وشأن الكون ثبات  وتغير في آن واحد ، ولكنه ثبات في الكليات والجوهر وتغير في الجزئيات والمظهر.


فإذا كان التطور قانوناً قائماً في الكون والحياة ، فالثبات قانون قائم فيها كذلك بلا مراء.
وإذا كان في الفلاسفة من قديم ، من قال بمبدأ الصيرورة والتغير باعتباره القانون الأزلي الذي يسود الكون كله ، فإن فيهم من نادى فضد ذلك ، واعتبر الثبات هو الأساس ، والأصل ا لكلي العام للكون كله.
والحق أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معاً ، في الكون و الحياة كما هو شاهد وملموس.
فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام ملائمة لفطرة الكون ، وفطرة الإنسان جامعة بين عنصر الثبات وعنصر المرونة.
وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتاً على أصوله وقيمه وغاياته متطوراً في معارفه وأساليبه وأدواته.


فبالثبات يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء ، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقص في الحقيقة وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة ، بالثبات يستقر التشريع وتتبادل ا لثقة وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة ، وأسس راسخة لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم وآخر ، وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن ، و تغير أوضاع الحياة دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.


ولكن ما هي مظاهر الثبات والمرونة في شريعة الإسلام؟ وما  دلائل ذلك ؟ هذا ما  نبينه في الصفحات التالية:
دلائل الثبات والمرونة في مصادر الإسلام وأحكامه:
إن للثبات و المرونة مظاهر ودلائل شتى ، نجدها في مصادر الإسلام ، وشريعته وتاريخه ، يتجلى هذا الثبات في : (المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع)  من كتاب الله ، وسنة رسوله ، فالقرآن هو الأصل والدستور ، والسنة هي الشرح النظري ، والبيان  العملي للقرآن وكلاهما مصدر إلهي معصوم ، لا يسع مسلماً أن يعرض عنه : [قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] {النور:54} . [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] {النور:51} .
وتتجلى  المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلفت فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ومقل ومكثر، مثل : الاجماع ، والقياس ، والاستحسان ، و المصالح المرسلة وأقوال الصحابة ، وشرع من قبلنا ، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد ، وطرائق الاستنباط.


وفي أحكام الشريعة ـ نريد بالشريعة هنا ما هو أعم من الجانب القانوني في رسالة الإسلام بل المراد : ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وغيرها ـ نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين :
ـ قسم بمثل الثبات والخلود.
ـ وقسم بمثل المرونة والتطور.


نجد الثبات يتمثل في العقائد الاساسية الخمس ، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهي التي ذكرها القرآن في غير موضع كقوله تعالى :[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] {البقرة:177} . وقوله :[ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا] {النساء:136} .
وفي الأركان العملية الخمسة من الشهادتين ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام ، وهي التي صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بني عليها.


وفي المحرمات اليقينية ، من السحر ، وقتل النفس ، والزنى ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والتولي يوم الزحف ، والغصب ، والسرقة ، والغيبة والنميمة ، وغيرها ، مما ثبت بقطعي القرآن و السنة ، وفي أمهات الفضائل من الصدق والأمانة ، والعفة والصبر ، والوفاء بالعهد ، والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق ، التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.


وفي شرائع الإسلام القطعية في شؤون الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص ، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة .
فهذه كلها أمور ثابتة ، تزول الجبال ولا تزول ، نزل بها القرآن الكريم ، وتواترت بها الأحاديث ، وأجمعت عليها الأمة ، فليس من حق مجمع من المجامع ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات ، ولا من حق خليفة من الخلفاء ، أو رئيس من الرؤساء ، أن يلغي أو يعطل شيئاً منها ، لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه ، أو كما قال الشاطبي : (كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا ، وبها قامت مصالحها في الخلق ، حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً ، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها).


ونجد في مقابل ذلك القسم الآخر ، الذي يتمثل فيه المرونة ، وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية ، وخصوصاً في مجال السياسة الشرعية .
يقول ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان):


الأحكام نوعان:
نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه التغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة ـ وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم ثم قال : وهذا باب واسع اشتبه فيه  على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً..)
الثبات والمرونة في هدي القرآن:
والذي يتدبر القرآن الكريم يجد في نصوصه المقدسة دلائل جمة ، على هذه الخصيصة البارزة ، من خصائص رسالة الإسلام وهي
:


الجمع بين الثبات والمرونة جمعاً متوازناً عادلاً.
وإذا كان بالمثال يتضح المقال ، فلا بأس أن نذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح ما قلناه.
أ ـ يتمثل الثبات في مثل قوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين :[ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38} .وفي قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم : [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159} . فلا يجوز لمجتمع لمجتمع أن يلغي الشورى من حياته  السياسية والاجتماعية ، ولا يجوز لحاكم أن يعطل مبدأ الشورى ، وأن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون.
وتتمثل المرونة ، في عدم تحديد شكل معين للشورى ، يلتزم به الناس في كل زمان وكل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال فيستطيع المؤمنون في كل عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم وتلائم موقعهم من التطور ، دون أي قيد يلزمهم بشكل جامد.


ب ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}  . وقوله تعالى :[وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ] {المائدة:49} . فأوجب التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله ، والحذر من اتباع الأهواء ، وكل هذا مما لا مجال للتساهل فيه ، فهو يمثل جانب الثبات قطعاً في مجال الحكم والقضاء . وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معين للقضاء والتقاضي ، و هل يكون من درجة أو أكثر ؟ وهل يسير على أسلوب القاضي المفرد أم على أسلوب المحكمة الجماعية؟ وهل يكون هناك محكمة للجنايات وأخرى للمدنيات؟


كل هذا متروك لاجتهاد أولي الأمر ، و أهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور ، وليس للشارع قصد فيه إلا إقامة العدل ، ورفع الظلم ، وتحقيق المصلحة، ودرء المفسدة.
لقد اهتم الشارع بالنص على المبدأ والهدف ، ولكنه لم يعتن بالنص على الوسيلة والأسلوب وذلك ليدع الفرصة ، ويفسح الطريق للإنسان كي يختار لنفسه الأسلوب المناسب ، والصورة الملائمة لزمنه وبيئته ، ووضعه وحالته.


ج ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ] {آل عمران:28} .
وتتمثل المرونة في الاستثناء من هذا الحكم عند الضرورة ، إذ قالت الآية : [إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] {آل عمران:28} .ومثله : [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] {النحل:106} .ونحوه :[لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ] {النساء:148} .
فهذه الاستثناءات وأمثالها في كتاب الله تعالى أعطت فسحة لمن تقهره الظروف الشخصية والاجتماعية فلا يقدر على الصمود والثبات على القاعدة الأصلية في السلوك ، ولكن الخطر كل الخطر ، أن تتحول الاستثناءات إلى قواعد ، وتصبح هي الأصل في التفكير أو السلوك ، كأن تتخذ التقية ـ التي هي رخصة ـ مبدءاً.
د ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} .
وتتمثل المرونة في قوله بعدها :[ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {المائدة:3} . فقرر بذلك مبدأ (رعاية الضرورات) ولكنه لم يطلق فيه العنان لمن أراد ، بل قيده بقوله : [غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ] {المائدة:3} . أي : غير مائل للحرام ، والتوسع فيه ، كقوله في الآيات الأخرى :[ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ] {البقرة:173} . أي : غير باغ على غيره ، ولا متعد قدر الضرورة ، وهذا مقيد لمبدأ الضرورة حتى لا يسترسل الناس في الحرام باسمها، ومن ذلك أخذ الفقهاء مبدأ : (ما ابيح للضرورة يقدر بقدرها) ويتمثل الثبات في قوله تعالى :[وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا] {الأعراف:56} . وقوله : [وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {البقرة:60} . وهذا مبدأ عام.
وتتمثل المرونة في استثناء الظروف الحربية ومقتضيات التنكيل بالعدو ، وإجباره على التسليم بأقل الخسائر الممكنة وذلك في قوله تعالى :[مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ] {الحشر:5} . وقد نزلت هذه الآية الكريمة في حصار النبي صلى الله عليه وسلم ليهود بني النضير وقطعه بعض نخيلهم ، فشنع اليهود بذلك وقالوا يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد وتهيب على من يصنعه ، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ فكانت الآية رداً عليهم بأن ذلك بإذن من الله وليخزي الفاسقين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي ذو القعدة 1396هـ العدد 143

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين