تقوى الله فوز وسعادة - تقوى الله خير زاد
صدر كتاب «لوامع الخطب في أموي حلب» في مجلدين، للعالم الفاضل الشيخ محمد زين العابدين الجذبة (1328ـ1426) رحمه الله تعالى، بعناية ابنه أحمد منير الجذبة، وقد قدم الكتاب فضيلة العالم الشيخ محمد أديب حسون، وفضيلة العلامة المحدث الشيخ محمد عوامة، وفضيلة المرشد الواعظ الشيخ محمد نبيه سالم.
وفيه ترجمة مفصلة للمؤلف، وقد اخترنا أحد خطبه الجامعة حول موضوع التقوى، لنربط بين القديم والجديد، حيث أوردنا خطبة تلميذه الدكتور محمود عكام، في التقوى  في جامع الأموي بحلب أيضاً.
ونرجو أن تحظى هذه الخطبة بالنفع والفائدة المرجوة ورحم الله شيخنا ومجيزنا العالم الفاضل المربي الخطيب المفوه الشيخ محمد زين العابدين الجذبة رحمه الله تعالى وأثابه رضاه.
تقوى الله فوزٌ وسعادةٌ
للعالم الفاضل الشيخ محمد زين العابدين جذبة
الحمد لله رب العالمين الحق المبين. الموصوف بصفات الجلال، المنعوت بنعوتِ الجمال، نوّر القلوب المؤمنة بنور الإيمان، وألزم عبادهُ كلمة التقوى أحمده على ما بطن من نعمه وظهر، وأشكرُ له على ما أعلن من مواهبه وما عم من جُوده ونشر، وأستمد منه صدق البصيرة فيما أدبنا به من علم وحكمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، أمر عباده بالتقوى وأنّعم على المتَّقين بالفوز العظيم، والعاقبة الحسنى فقال في محكم كتابه:[إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ] {القلم:34}.وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أرشد العقلاء إلى أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له سبحانه، فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله تُوزنُ الأخلاق والأقوال والأعمال.
أيها المؤمنون:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».
وصيَّةٌ عظمى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بما يُصلح دينها ودُنياها، جمع فيها بين تقوى الله تعالى، وحُسن الخلق، فتقوى الله يصلح ما بين العبد وربه، كما أن حُسن الخلق يُصلح ما بين العبد وخلق الله، فتقوى الله تُوجب للعبد محبة الله، وحُسن الخلق يدعو الخلق إلى محبَّته.
إن حق الله تعالى على عباده أن يتَّقوه حقَّ تقاته، وذلك بأن يجعلوا بينهم وبين ما يخشونه من ربهم، من غضب وسخط وعقابٍ وقاية لهم. فيَهرعوا إلى طاعته امتثالاً لما أمر به وأرشد إليه، ويتباعدوا عمَّا نهى عنه وحذَّر منه؛ عن عقيدة وإيمانٍ وصدقٍ وإخلاص، فهم يتَّقونَ المعصية بالطَّاعة، والرّياء بالإخلاص، والكذب بالصِّدق.
تقوى الله تعالى خيرُ زادِ الآخرةِ والأُولى، وأنجعُ سبيلٍ وأسلمُ مخرج، تكفل الله تعالى لأهلها بالنَّجاة مما يحذرون والرّزق من حيث لا يحتسبون.
قال الله تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3) ]] {الطَّلاق: }.
تقوى الله تعالى؛ تُولي العبدَ الحفْظَ والرِّعاية منه سُبحانه، فلا يكلؤُه إلى غيره، ويَجدُه أمامَه أينما توجَّه؛ ومن كان الله حافظه وراعيه فممن يخافُ ولمن يحذر.
قال تعالى:[ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] {آل عمران:120}.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كُنْتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: « يا غلام إنِّي أُعلِّمُك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجْتَمَعَتْ على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفعت الأقلامُ وجفتْ الصحف».
كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عُمَّاله:« أما بعد؛ فإني أُوصيكَ بتقوى الله ولُزوم طاعته، والتَّمسُّك بأمرِهِ، والمُعاهدة على ما حمَّلَك اللهُ من دينه، واستحفظك من كتابه، فإنَّ بتقوى الله نجا أولياءُ الله من سخطه، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نُضِّرت وجوهُهُم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، ومن كرب يوم القيامة».
التقوى هي علامة الإيمان الكامل، وعصمة لأهل طاعة الله، أضافها الله تعالى إلى اسمه العظيم بقوله:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {الحشر:18}.اتقاءً لغضبه وتحذيراً لنا من نفسه:[ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ] {آل عمران:28}. واتقاء عقابه الدنيوي والأخُروي:[ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] {المائدة:96}.
كما أضاف التقوى إلى عقابه بذكر مكانه، فقال سبحانه:[فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] {البقرة:24}.أو بذكر مكانه، فقال سبحانه وتعالى: [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}.
فالله أهلٌ لأنْ يُخشى ويُهاب، وأنْ يُجلَّ ويُعظَّم في صُدور عباده حتى يَعبُدوه ويطيعوه، لما يستحقه من الإجلال والإكرام وصفات الكبرياء والعظمة وقًوة البطش وشدة البأس.
قال تعالى:[ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ] {المدَّثر:56}.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«في هذه الآية: [ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ].قال الله عزَّ وجل: أنا أهل أن أُتَّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهلٌ أن أغفر له.
التقوى هي وصيَّةُ الله تعالى لجميع الأوَّلين منهم والآخرين، بأن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
قال الله تعالى:[ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا] {النساء:131}.
ولا شك أنه تعالى أعلم بصلاح العبد من كل أحدٍ، ورحمته ورأفته به أجل من كُلِّ رحمةٍ ورأفة، فلو كان في الدنيا خصلة هي أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظم في القدر، وأغرق في العبودية من هذه الخصلة، لكانت هي الأوْلى بالذِّكر، والأحرى بأن يُوصي بها عبادهُ، فلمَّا اقتُصر عليها، عُلم أنَّها جمعت كلَّ نُصحٍ وإرشادٍ وتنبيهٍ وسدادٍ وخيرٍ وإرفاد.
التقوى هي وصلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته في حلهم وترحالهم، وسِلمهم وحربهم:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاهُ في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً...».
جاء من حديث رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه، أنه قال: «وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوماً موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجلٌ: إنَّ هذه موعظة مودِّعٍ فماذا تعهدُ إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله».
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، فكان الصديقُ رضي الله عنه وأرضاه يقول في خُطبه: أمَّا بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وأن تخلطوا الرَّغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عزَّ وجل أثنى على زكريا عليه السلام، وأهل بيته فقال:[فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] {الأنبياء:90}.ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر دعاه فوصَّاه بوصيَّته، وأول ما قال له: « اتق الله يا عمر».
وكتب عمر إلى ابنه عبد الله:« أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عزَّ وجل فإنَّه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نُصب عينيك وجلاء قلبك».
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاءه فقال: أوصني؟ فقال: « سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض».
وكتب ابن السَّمَّاك إلى أخ له:« أما بعد: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، ورقيبك في علانيَّتك، فاجعل الله من بالك على كُلِّ حالٍ في ليلكَ ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنَّك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، وليكثر منه وجلك، والسلام».
التقوى فوز في الدنيا ونجاةٌ في الآخرة.
قال الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ]. {الأحزاب}..
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: « اتقوا الله ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمرِكم تدخلوا جنة ربكم».
التقوى خيرُ لباس يلبسه المرء في حياته، فمن اتقى الله تعالى كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً، ومنه خائفاً، وله مُراقباً ومن أن يُرى بما يكرِهُهُ عبادُ الله مستحيياً، فمن كان كذلك، ظهرت آثار الخير فيه فحسن سمتُه، ورئيت عليه بهجة الإيمان ونوره.
قال تعالى:[يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] {الأعراف:26}.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى      تقلب عرياناً ولو كان كاسيا
فخير خِصال العبد طاعة ربـــــــــه      ولا خير فيمن كان لله عاصيا
التقوى هو لفظ موجزٌ مُجمل، ينطوي على معان كثيرة، ومقاصد سامية جامعة لكل خير، ومبشرة بكل أمن وسلام.
قال صلى الله عليه وسلم:«من اتقى الله وقاه الله من كل شيء».
سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن التقوى؟ فقال للسائل: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال: ذاك التقوى.
ولما كانت التقوى أعظم الدُّعاة في الأصول والفروع فإنه ما من كتابٍ سماوي إلا أمر بها وحض عليها.
قال الخواص ـ رحمه الله تعالى ـ: « من تأمل وجد أن كل كتاب أنزل يقول: اتقِ الله سبحانه وتعالى ».
التقوى: تُزكِّي النفس البشرية، وتسمو بها وترفعها إلى معارج الكمال، وتُبعدها عما يحول بينها والغايات النبيلة، فمن لم يكن في قلبه تقوى الله لم ينفعه علمٌ ولا عملٌ، ذاك لأن التقوى هي روح العلم، فمن كان عالماً بلا تقوى كان علمه جسداً بلا روح، ومن كان عاملاً بلا تقوى كان عمله مباهاةً ورياء، ولهذا وصف الله تعالى المتقين وأثنى عليهم بما تحلوا به من الفضائل الإنسانية الكريمة كحسن مُعاشرة، وتهذيب نفس، فضلاً عما هم عليه من جمال الإيمان وصحة الاعتقاد.
قال الله تعالى:[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}.
فالآية الكريمة ضمَّت جميع الكمالات البشرية في خلال ثلاث:
صحَّة الاعتقاد بقوله تعالى: ?مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ?.
حُسْن المعاشرة مع العباد بقوله تعالى: [وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ] {البقرة:177}.
تهذيب النفس بقوله جلَّ شأنه:
? وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ?.
إذا كانت الأمة الإسلامية تُمْنى بأشدِّ الفتن، وتُصاب بأفدح الأضرار والمحن، وإذا كانت الموآمرات تُحاك عليها من الطغام الأوغاد، واللئام الأرجاس، فليس لها من دواء ناجع ينجي ويطفئ أوار الفتن ويستأصل شأفة الأضرار والمحن، إلا بالرجوع إلى الله تعالى بالتقوى، فالزمان لا يثبت على حال، ينور ذلك قول المولى تعالى في كتابه:[ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:140}. ففيه الغِنى والفقر، وفيه العزُّ والذل.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً ثابتاً، وهو تقوى الله عزَّ وجل فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمَّت النعمة عليه، وإن ابتلي حَمَلْته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أشبعه أو أجاعه فجميعها أشياء تزول وتتغير. فخذوا بحظكم ولا تفرِّطوا في جنب الله، فقد علَّمكم كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، واتقوه في عاجل أمركم و آجله، في السر والعلانية والمنشط والمكره.
قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا] {الطَّلاق:5}.
إن اتقيتم الله، توقيتم عقابه، وغضبه، ونلتم رحمته ورضوانه.
قال تعالى: [وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {البقرة:196}.
وقال تعالى:[ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.
إن اتقيتم الله؛ جعلكم في أمن من الخوف والحزن يوم القيامة.
قال الله تعالى:[أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَالَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] {يونس:62ـ63}.إن اتقيتم الله يكشف عنكم الكرب، ويجعل لكم من أمركم مرفقا، فتحفظكم عنايته من كيد أعدائكم.
قال تعالى:[ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] {آل عمران:120}.
إن اتقيتم الله؛ أيدكم بنصر مبين، وفتح قريب، فيفرق بين الحق والباطل، بإذلال الكفر وحزبه وإعزاز الإسلام وأهله، ويجعل الله في قلوبكم فرقاناً وفيصلاً فتميزوا الخبيث من الطيب، وتجدوا المخرج والنجاة من الشهوات.
قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا] {الأنفال:29}.
وقال تعالى:[ إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {الأعراف:128}.
وروى الحكيم في »نوادره« عن وائلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من اتقى الله أهاب الله منه كل شيء، ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء».
إن اتقيتم الله علَّمكم علمه، وجعل في قلوبكم نوراً يفهم به ما يلقى إليه قال تعالى:[ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {البقرة:282}.
قال عمر بن عبد العزيز: إنَّما قصَّر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا علماً لتنوء أبداننا عن حمله».
من اتقى الله؛ علِم أنه أسير القدرة، سليب القبضة، معترف بعجزه مُقرٌّ باضطراره، عالمٌ بافتقاره، فما قُدرِّ له لا بدَّ له منه، وأن طلبه لما لم يقدر له عناء لا يفيد إلا الحرص والشقاء والكد والتعب، فيجمل في الطلب، ويقنع بما قسم له، فيستريح من نكد الدنيا وهمومها، ويفوز بلذة الآخرة ونعيمها.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أيها الناس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم».
قيل لابن عبد العزيز لمَّا ولي الخلافة: زهدت في الدنيا، فقال:« إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى أعظم مناصب الدنيا، فلما نالت تاقت إلى مناصب الآخرة».
أيها المؤمن: راقب الله تعالى وحده، واحذر بأسه فهو الذي يضر وينفع، وهو الذي يهين ويعين ويرفع، وهو الذي له الخلق والأمر، وهو الذي يعلم السر والجهر، ولازم طريق شريعته ولا تدعها، واعمل بسنَّة نبيه واتبعها، وإن بقيت بها غريباً فريداً وصرت بطريقها مفارقاً وحيداً:« بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء».
اتق الله حيثما كنت، ولا تبالي بمن سلك سبيل الضلال، واعتصم بالكبير المتعال فإن الله تعالى يقول:[ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] {الرعد:11}.
اللهم يا من رفع السماء بقوته، ودَحَا الأرض بمشيئته، وخلق الخلائق بإرادته، واستوى على العرش بقدرته، نسألك اللهم برحمتك وقدرتك أن تخرج حُبَّ الدنيا من قلوبنا، وتوفقنا لطاعتك بالأعمال التي تقربنا بها إلى مرضاتك، وتُجنبنا معاصيك ربنا بدأت بالصنع وأنت أهله، فأنعم بالتوفيق فإنك أهله، واختم لنا برضوانك وعفوك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين