من خصائص التفكير الإسلامي للدكتور عبد اللطيف الشيرازي - بين الفكر الإنساني والفكر الإسلامي
من خصائص التفكير الإسلامي
بقلم الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ
عرف تاريخ الفكر الإنساني نوعاً فذّاً من التفكير فيه كل مقومات الفكر العلمي الدقيق، وله من الخصائص ما يعد بها بحق التفكير الأمثل بين مختلف أنواع التفكير الإنساني في القديم والحديث، ألا وهو التفكير الإسلامي، ولا نقول هذا تعصباً أو ادعاء وإنما نقوله بعد نظر عميق وتمحيص متجرد، وباستطاعتنا أن نشفع هذا القول بما يثبته من الأدلة والبراهين.
وأفضل طريقة للبحث في هذا الأمر الهام أن نستعرض بإيجاز وسرعة بعض الخصائص العامة للتفكير الإسلامي لتظهر من خلال ذلك أوَّليته في الإعجاب والتقدير وأفضليته في الاتباع والأسوة . فمن أول خصائص التفكير الإسلامي في نظرنا:
1 ـ صفة العموم: فالتفكير الإسلامي يضع أُسساً عامة وقوانين مطَّردة منتظمة تدخل تحتها الجزئيات ولا تشذُّ عنها الحوادث والأفراد.
وصفة العموم هذه هي أبرز صفات التفكير العلمي الصحيح القائم على الاطّراد والانتظام، فليس بقانون علمي ذلك الذي يوضع لحادثة أو جملة حوادث ثم تشذ عنه بقيتها وتنفرد.
وهذه الصفة تظهر بشكل جلي واضح في الكليات العامة والمبادئ الأساسية التي نُثرت في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة وتبعهما في ذلك علماء الإسلام وفقهاؤه عندما استنتجوا القواعد الأصولية ووضعوا القواعد الفقهية العامة لتضبط الحوادث الجزئية المتفرعة بنظام واحد وسلك متين لا ينقطع.
 ولا حاجة في هذا المجال للإتيان ببعض الأمثلة على هذه الصفة فما عرفه الناس مما ذاع واشتهر من هذه القواعد العامة أمثال: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:179} ، وقوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] {البقرة:275} . وقوله عز وجل: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا] {الإسراء:16}.
وقول الرسول الكريم e :«لا ضرر ولا ضرار»، وقوله : «الخراج بالضمان». وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» وكثير من هذه الأمثلة أكبر شاهد على صفة العموم هذه . ولكن هذا لا يعني أن التفكير الإسلامي لا يراعي الأحوال الخاصَّة والصفات الفردية والفروق بين حادثة وحادثة أو فرد وفرد وإنما يضع لمثل هذه الفروق ـ إذا وجدت ـ ما ينسجم مع تفرُّدها واختصاصها وما يلطف من نتائج هذه الخصوصية... فهو بهذا ليس قالباً صلباً جامداً لا يتسع لنمط آخر بل هو من المرونة والليونة بحيث يتسع لكثير من الأنماط دون خروج عن حدود القاعدة الأساسية العامة.
2 ـ صفة الشمول: والصفة الأخرى من صفات التفكير الإسلامي هي صفة الشمول، ونعني بها عدم انحصار التفكير الإسلامي بجانب معيَّن من جوانب الحياة أو العلم، بل إنه يشمل ويستغرق كل فن وكل علم ويطرق كل جانب من جوانب الحياة كما يعلم الدارسون للإسلام ، فإن التفكير الإسلامي لا يترك شاردة ولا واردة كبيرة أو صغيرة من أحوال الحياة وجوانبها إلا ويبحث فيها ويتعرَّض لها بما فيه الكفاية من البحث والتنقيب ليخلص إلى الحقيقة الناصعة في موضوعها. فالذي يتصفح ميراثنا الفكري الثر يندهش لذلك الشمول الواسع المنساح الذي يبتدئ من العقيدة بمفاهيمها الغيبيَّة ويمرُّ بالفقه والمعاملات الاجتماعية، ثم يعرج على الأخلاق بكلِّ جزئياتها وتفصيلاتها، والذي يشمل حياة الإنسان قبل أن يولد حتى بعد أن يموت ويتعرض لكل أنماط حياته من الفكر والعقيدة والدين والفقه والفن والأخلاق والرياضة إلى آخر ما هنالك من الجوانب.
وهذا لا يعني أيضاً أن التفكير الإسلامي يضيع جهوده في الأشياء القشورية التافهة ويسفح وقته سدى في المجالات الضارة أو التي لا فائدة منها فهو لذلك يضع حدوداً للعلوم النافعة أو العلوم الضارة أو غير المجدية ، حتى هذه الأخيرة فإنه يدرسها دراسة عامة لمعرفة ضررها وحدود عدم جدواها، كالسحر والكهانة وغيرها، ومما يتصل بفكرة الشمول هذه أن التفكير الإسلامي لا يدرس الحوادث دراسة مجتزأة ومقتطعة أو متفرقة ، بل يدرسها في إطارها العام وفي موقعها الصحيح ويربط بينها وبين أسبابها ونتائجها وأشباهها ونظائرها وأضدادها ونواقضها وسوابقها ولواحقها مما يمكننا أن نطلق على ذلك ميزة فرعية نسميها ميزة (الربط).
3 ـ الموضوعيَّة : ونعني بها دراسة الحوادث والتفكير فيها بعقل موضوعي مُجرَّد ومُنزَّه عن الهوى والغرض الشخصي والآراء الذاتية الخاصَّة وإعطائها قيمتها الحقيقية دون نظر إلى المُلابسات الشخصيَّة وذيولها، ودون تأثر برغبة أو برهبة، والحكم عليها بدافع الإخلاص للحقيقة ومراقبة الله عزَّ وجل وابتغاء مرضاته في الفعل والترك وبدافع الإنصاف لوجه الله وحده. وفي هذه الميزة أمثلة كثيرة واضحة في التاريخ كقصة الإمام ابن حنبل في فتنة القرآن، وقصص كثيرة عن القضاة في الحكم على أُولي الجاه والسلطان لمن كان له الحق ولو كان ضعيفا.
4 ـ الدقة والعمق : وهذا يتجلَّى بعدم الاكتفاء بالنظرة السطحية العارضة العابرة، بل لا بدَّ في مقاييس التفكير الإسلامي من التعمُّق في الحادثة والقضية والغوص إلى أعماقها والتدقيق في مظاهرها وملابساتها واستكناه حقيقتها وتمحيص أشكالها.
 إن التفكير الإسلامي يرمي بذلك إلى التخلص من التسرّع في الأحكام وإلقاء الكلام على عواهنه، وإلى إعطاء الرأي المنزه عن الأخطاء الاعتباطية القادحة. ولقد كانت وسائله لذلك وسائل علمية محضة لا أثر فيها للدجل والظن والكهانة والرجم بالغيب فهي تعتمد أولاً على أساس النظر والفرض والتجربة. وتتجلى هذه الخطوات في طريقتين أساسيتين:
أ ـ الاستقراء: وهو استخراج القوانين والأحكام عن طريق النظر إلى الجزئيات واستقصائها ومقارنتها وإظهار الناظم لها الجامع لإفرادها.
ب ـ الاستنتاج: وهو يتمثل بوضع الفكرة العامة أولاً أو ما نسميها بالفرضية، ثم القيام بتمحيص هذه القاعدة على ضوء الحوادث والتجارب والحصيلة التطبيقية.
ولقد كانت هاتان الطريقتان هما الطريقتين الفضليين في كل مصادر الفكر الإسلامي في الكتاب وفي السنة وفي مباحث علماء الفقه والتوحيد والمنطق والعربية وغيرها.
5 ـ الواقعية والعملية: أي أن غاية التفكير الإسلامي وهدفه ليس ترفاً عقلياً ولا تفُّكها ثقافياً ولا اجْتراراً فلسفياً وإنما غايته إغناء الواقع الإنساني ورفده بالأفكار والحلول التي تساعده على حل مشكلاته وتحسين وضعه وخدمة الإنسان أنى كان، ولا يقال هنا: إن الحقيقة إنما تقصد لذاتها لا لنتائجها النفعية والعملية. لا يقال هذا هنا لأن الحقيقة أيضاً لا بدَّ أن تفيد الواقع الإنساني وتمده بالنسغ النافع وإلا كانت حقيقة ميتة قبل أن تولد في هذا تهويم وهرطقة يجب تنزيه أعمالنا عنها.
إن هذه الصفة العملية تبعد عن التفكير الإسلامي الخيالية والجموح الفكري وتنزهه مما أصاب التفكير البيزنطي والهندي والغربي الحديث في بعض جوانبه من بُعْد عن الحياة وشطط عن واقعها حتى أصبح غاية لذاته بدل أن يكون وسيلة لخدمة الإنسان ودلالته وهدايته . وقد يكون الاشتغال بعلم من العلوم مفيداً في ظرف وغير مفيد في ظرف آخر تبعاً لتطور البشرية وتوفر وسائل العلم لديها ودرجة النضج الفكري والعلمي الذي وصلت إليها. والمثال على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من أمر الأهلة عندما سأل الناس الرسول e عن أمر ظهورها واكتمالها ثم هزالها وغيابها وأرادوا لذلك تعليلاً لم يكونوا قد تأهلوا بعد لتلقيه فكان جواب الله تعالى لهم لفتاً لأنظارهم إلى القيمة العملية لذلك فقال: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ ...] {البقرة:189} .
6ـ الانفتاح والامتصاص: وهذا يعني أن التفكير الإسلامي ليس تفكيراً منغلقاً على نفسه، محصوراً في قوقعته، لا يسمح بتسرُّب الثقافات ونتاج العقول الأخرى إليه، بل بالعكس، فإنه يُرحِّب بها، ويفسح لها مكاناً في بنائه،ويعتبر ذلك دليل الثقة بنفسه،وبقدرته على امتصاص تلك الثقافات،وبخاصة ما يفيد منها وينسجم مع تركيب التفكير الإسلامي فيتمثلها ويسيغها حتى تصبح جزءاً منه لا يتجزأ،ولا يزال شعاره الخالد يتردد : «الحكمة ضالة المؤمن» وهي آية تسامحه وترحيبه بالحكمة من أي وعاء خرجت.
 إن التفكير الإسلامي يؤمن بأن الحضارة الإنسانية لا يمكن أن يستأثر بها فكر دون فكر ولا عصر،دون عصر بل هي نتاج جميع الأفكار والعصور. كلٌّ يضع لبنة ويحسن بناءها ويمشي ، فهو لذلك أكثر أنواع التفكير إيماناً بالتلاقح الفكري الخِصْب بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى الذوبان والتبعية والالتحاق والاستسلام للثقافات الواردة الوافدة.
وفي هذا المجال يحسن أن نذكر بفخر حركة الترجمة ونقل العلوم المختلفة إلى اللغة العربية لغة الثقافة الإسلامية وذلك في العصور الإسلامية الأولى الزاهرة.
 ولا يفوتنا أن نذكر حديث الرسول e عن دوره المكمِّل في الأخلاق والدين والمتمِّم لما سبقه من الجهود في هذه الميادين . وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق» ، وقوله: « إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبِنَة فيه فجعل الناس يطوفون به ويُعجبون له ويقولون : هلاَّ وَضَعْت هذه اللبنة فأنا هذه اللبنة،وأنا خاتم النبيين».
7 ـ التَّطوُّر والتَّجديد: التفكير الإسلامي تفكير حي متجدِّد متطور يؤمن بالحركية وضرورة التكيف مع البيئات المختلفة والعصور المتتالية،وهو لذلك لا يضع مبادئه العامة الخالدة والمحددة إلا في نطاق ضيق وفي الأمور التي تتصل بطبيعة الحياة الخالدة وفطرة الإنسان التي لا تتبدل فيها. وهو يوسع أطره العامة بقدر ما يمكن لتستوعب وتنسجم إلى أبعد مدى مع كلِّ الأحداث الطارئة والأحوال المستجدة.وقد وضع في أصوله ومبادئه وسائل للتوليد والابتكار والإبداع والتجديد كالقياس والاستحسان والاستصحاب وغيرها بحيث ينفي عنه حالة الجمود والركود والقولبة التي وقعت فيها أنواع كثيرة من التفكير والفلسفات.
ويجب أن أستدرك هنا ملاحظة هامة،وهي أن صفة التطور والتجدُّد هذه لا يمكن أن تؤدي إلى تغيير مقاييسه العامة وتحريف مبادئه الكلية وقَلْب مفاهيمه الأصيلة الخالدة.
هذه بعض الميزاتالتي يمكن ذكرها للتفكير الإسلامي في هذا المجال،وقد يكون بعضها شائعاً،وقد تكون قاصرة،وقد يكون شرحها غير واف بالغرض ولكنها محاولة على كل حال،أرجو أن يسعفني الله بالوقت والجهد لاستكمالها والتعمق فيها.
مجلة «حضارة الإسلام»
العدد الرابع من السنة الرابعة
133ـ1963
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين