في معنى الحضارة

للأستاذ: البهي الخولي

 

هذه سلسلة من الكلمات قد تطول إلى أشهر، وأريد لذلك أن نستأنس لتلك السلسلة بما يمهد لها في الذهن والضمير... فهي ليست من أحاديث الواقع التي نرددها في صور مختلفة من التقرير...  والشكوى... والتمني...
نعم ليست من أحاديث التقرير التي نجيد بها عرض موضوعات تقليدية من تراثنا المجيد لا نبض فيها ولا جديد إلا أناقة الصيغة أو استبدال أسلوب بأسلوب...
وليست من أحاديث الشكوى أو الألم لما نعاني من هوان وضيعة، فإن ما نزل بنا قد برم منا، وملَّ مقامه فينا، وكأنما غدت الشكوى ضرباً من "الروتين"، لا يمثل ألماً ولا ينزع عن عرق جياش بالضيق.
وليست من قبيل تمنّي الإصلاح أو ترجّيه ، فإنا لم نتفق بعد على معنى الإصلاح... هل نأخذ له من الغرب... أو نأخذ من كتلة الشرق... أو نرجع فيه إلى تراثنا وعروقنا الجيّاشة بأمجاد الماضي؟
والاختلاف على مفهوم الإصلاح آية الاختلاف على فهم الحاضر الذي يراد إصلاحه... وهو مع ذلك خلاف تمثل وجهات نظره لوناً من التطير وعداء كل منها لغيرها عداء لا يقبل التقارب أو المعايشة في صدق... فالتراث - في نظر بعضهم - عوامل تخلف ورجعية يجب أن تبيد كشرط حتم للبناء والإصلاح... أو هو في أحسن ما يقال (مفاهيم) أدت دورها في عصر ما ولم تعد قابلة للحياة في غيره... وأصحاب التراث ينظرون إلى اليمين وإلى اليسار فلا يجدون إلا ماديَّة قاتمة، وجحوداً لشأن خالق الكون، بين منكر له جهرة، ومعترف به اعترافاً هو والجحود سيان...
واختلافنا في فهم الواقع وفهم ما يصلحه يدعونا أن نطرح للبحث قضية ذلك الواقع نفسه... هل هو واقع صالح للبقاء ولا ينقصه إلا علاج وتدارك ما به من نقص وعلة، أو أن هذا الواقع لا يصلح أن يكون واقعاً بتة،  وبناؤنا عليه يقوم على غير أساس؟ وأن علينا أن نلتمس في جد وصدق مواصفات  أخرى لتخطيط جديد نستهدي فيه العقل والفطرة، ونتحرى المواءمة مع كل حقيقة في الكون ظاهرة وباطنه؟
وفي تلك "المواصفات" هل نأخذ من الغرب علومه، وأوضاعه في الحضارة؟
إن الغرب كله يتَّسم بـ "الأنانية" ، وهي عماد حضارته، وهي التي دعته أن يأخذ ما بأيدينا بالعدوان والبغي، دون أن يكفه أو يزجره عن ذلك ما له من علم بالطبيعة وطاقاتها، بل إن ذلك العلم هو الذي أمده بالعدد التي مكنت له في أنفسنا وثرواتنا، فإذا طلبنا ما لهم من صناعة وعلم، فإنما نطلبه لندرأ البغي عنا فحسب، ومن قصر الرأي أن يرجو راج أو يسعى لأن يكون واقعنا مثل واقعهم في النظر إلى معنى الحياة والغاية منها... وبعبارة أخرى: النظر إلى معنى الإنسان، ومفهوم فضائله، ومكانه في الكون ومهمته فيه فإن الغرب نفسه ضجر من المفهوم الحي لتلك الحقائق، بل ضجر وشقي لممارسة المفهوم الأناني لتلك الحقائق في استباحة كل لذة حسيّة ممكنة، و ليس للغرب فضل أو فضيلة في ذلك الضجر، فإنما هو أثر عميق يثور في فطرة كلِّ آدمي حين لا يتَّسق في نظرته للكون مع أصول فطرته... والعجب أنهم - مع ضجرهم أو سأمهم هذا ـ يعالجونه بمزيد من الإغراق في الشهوات والتبجح بالتحلل والإباحة، يغرونه ويمهدون له بمزيد من البغي والسلب وجرائم التفرقة التي لا يقرون فيها لملون بحق من حقوق الحياة.
فإذا كان الواقع كله عندنا وعند غيرنا على ما قدمنا، فمحاولة علاجه بترقيع بعضه من بعض ليست سوى توطين أو تمكين للداء ليستشري في مواطن أخرى، وإذا فلا معنى من تغيير الواقع كله على "مواصفات كما قلنا جديدة، على نطاق العالم كافَّة، أو على نطاق الإنسانية بأسرها".
ومن المعروف أن هذا الواقع هو علم، وفن، وصناعة،  وفلسفة، وتشريع واقتصاد وسياسة، وآداب عامة، وعرف في معنى الفضيلة، والحياء، و العفة، والعرض، والشرف، و السلوك الخاص، فإذا دعمت الضرورة لتغييره فليس كما نغير ثوباً بثوب، لا يكلفنا الأمر إلا أن ننضي عنا هذا لنرتدي غيره... فإن هذا الواقع ليس سوى ثمرة لنظرة خاطئة في الحياة وفي معنى الإنسان!!
وتلك النظرة نفسها إنما هي ثمرة لوضع عقلي خاطئ ننظر منه إلى الكون، والكون هو وطننا العام، إذا توطنت منه أبداننا أشياء معدودة لكل بدن، فإن لنا من الحواس ومدارك العقل ما يذرع أقطاره في السموات والأرض، ويذهب في آماده الظاهرة والباطنة إلى آفاق تروع الأفئدة، وتميد لها الرؤوس وما كشف الإنسان من تلك الآفاق حقيقة أو مدى إلا وتوطنه بعقله وأقبل عليه بحثاً وتبيناً لما يتضمنه...
 فالكون بالنسبة لنا وطن فكري لا حسّي فحسب، فإذا كان وضع العقل منه خاطئاً فمعناه أن تبدو منه بعض الحقائق دون بعض...  وتوطن أي بيت خاص لا يكتب للإنسان فيه الاستقرار والانتفاع بكافة مزاياه إلا إذا أحصى وعرف كل ما يتضمن من حجر، ونوافذ، ومرافق، وأجهزة للحياة والنور، وما يلحق به من مرافق تتم بها الرفاهة و المنفعة، وهو بعد لا يحجب الإنسان عن الكون الكبير. فأولى أن تحس فطرة العقل قلقاً إذا كانت بوضع تحتجب فيه عنها بعض أو أهم حقائق وطنها الخطير... وإذا عرفنا أن فطرة العقل ليست أمراً حسياً، وإذا عرفنا إلى ذلك أن توطن الكون بالنسبة لها هو توطن حقائقه المعنوية تبينا ومعرفة..وإذا عرفنا فوق هذا أن تلك المعرفة هي الزاد أو الرحيق الذي يصلح ويتم به أمر تلك الفطرة ـ عرفنا مدى القلق الذي يعتريها إذا لم تكن بوضع صحيح تحتل به كل مواطنها من الكون، وتتزود بكل ما لها من ثقافة في تلك الموطن.
إن الإنسان خلق ليحيا في الكون، والإنسان هو بدنه، ومعايير عقله وخاصياته... وإنا نحس إلى الآن أن الكون مصدر معارفنا، ومنافعنا، وقوام أمرنا كله، فهو ـ إذاً ـ قد فطر على سنن المواءمة حساً وروحاً لمصالحنا.. أو أننا فطرنا على المواءمة لسنته أو أن مشيئة العليم الحكيم اقتضت المواءمة بين سننا وسننه، فلم ينلنا أي ضرر ـ يوماً ما ـ بسبب الاتصال به اتصال حسّ أو عقل، فإذا كان ضرر فهو منا بفساد التقدير وعدم الاكتراث لسنن الفطرة.
فإذا تكلمنا عن تغيير الواقع فلسنا نعني تغييرأنماط الحياة الظاهرة في فنها وصناعتها، وتشريعها ونحوه، إنما نريد التغيير الذي يبدلنا بواقع نظرنا نمطاً يقيم العقل على بحث معاييره وخصائص الموائمة لحقائق الكون... وبتلك المواءمة يزول القلق ويتزوّد الفكر زاده الثقافي الجامع الذي ينشئ لحضارة الإنسان أنماطها في التشريع والفن، ومفاهيمها الصادقة لحقائق الحياء، والعرض، وكرامة السلوك الخاص... ويجعل للحياة غايتها العليا ومعناها السامي الذي يسعد به الفكر، كما يجعل للإنسان رسالة حكيمة يكرم بها سعيه ويشرف قدره بين الكائنات...
وإذ يرجع تقويم تلك الحضارة إلى حقائق الكون التي لم يبتدعها إنسان، ولم يزيفها بشر، وإلى معايير العقل في كل آدمي... فقد رجع إلى الأصل الجامع الذي لا يرده أحد، ولا يشذ عنه عقل سوي...
الحضارة بين الحس والروح:
والحضارة ظاهر ومعنى (أو حسي وروح) وقد تحوّل إليها الإنسان بادئ بدء ببواعث أقرب إلى الحس راغبة في الاستقرار والأمن (قال في لسان العرب: الحضر خلاف البدو... والحاضر خلاف البادي... والحضارة: الإقامة في الحضر... والحضر والحاضرة هي المدن، والقرى، والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار، ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار).
ووضع الإنسان للغته ابتداء كان يشمل ثمرة تفاعله مع الكون، أو مع الواقع الطبيعي والاجتماعي المحيط به، سواء كانت تجارب هذا التفاعل حسيّة أو نفسيّة أو عقليّة... ولغتنا العربية بوصفها من أقدم اللغات، وقد وضعت ابتداء في البادية من قوم لهم صفاء الفطرة وذكاء القريحة... لغتنا بهذا الوصف تعتبر من أصدق اللغات تعبيراً عن فوالح الإنسان الأولى وتجاربه عامّة، إذ كان يدرج بين البادية والحضر خلال تطوره من الأولى إلى الثانية... ولذا نرى صاحب" لسان العرب " يذكر أن الحضر سمي بذلك لأن أهله حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار... وذكر القرار، أو الاستقرار في هذا الصدد يتضمن (لفتة) خافية للنفس أبان ذلك التدرج أو التردد بين البدو والحضر، إذ كانت تلحظ الفارق بين مشاعر الإقامة في البدو، والإقامة في الحضر وهو فارق لا يرجع أساساً إلى رسوم الظاهر والشكل، إنما يرجع إلى ما هو أبعد في خفايا الفطرة... يعود إلى فارق القلق والطمأنينة، بين ما تعانيه النفس في البداوة، وما تسكن إليه نسبياً في الحضر... وقد يكون هذا الفارق ماثلاً في نمط الحل والتَّرحال، والظعن والإقامة الذي تعانيه البداوة طلباً للرعي ومساقط الغيث، بمضاهاته بنمط الاستقرار الذي يحظى به الحضر بتوفر أسباب المعيشة بينهم، ولكنا نعني فارقاً أعمق من معاناة كسب القوت أو يسره... فارقاً يشير إلى حال القلق الدائم على الدم والمال في البداوة، والأمن عليهما في الحضر... إذ البداوة ـ مع  حيات الحِلّ والتَّرحال الراتبة ـ لا تفتأ تشن الحروب فيما بينها، إصابة لثأر أو طلباً لنهب حيث كان، وكان ذلك متصلاً معهوداً بينهم، حتى لكأنه عادة يمارسونها مع من نأى أو دنا من الأباعد والأقارب على ما يقول القطامي:
وأحياناً على بكر أخينا=إذا لم نجد إلا أخانا
أي: أن الحرب ديدننا المتصل، لا نكف عن الإغارة على غيرنا، فإذا لم نجد أغرنا على من قرب من أبناء عمومتنا... ومهما يكن من ألف البادية لذلك فإنه يعارض فطرة الحرص على النفس والمال في طبيعة الإنسان فلا جرم كان ذلك ملحوظاً ـ في خفاء ـ حين ملاحظتهم ميزات الحضر إبان ترددهم عليه واستعدادهم للتطور، ولا جرم ـ أيضاً ـ ضمنوا لفتهم تلك اللفتات النفسية الدقيقة، سجلوا بتلك التسمية ما كانت تحسه سرائرهم من ميزات الطمأنينة والاستقرار التي ليست للبادية.
ولسنا نقصد أي بحث لغوي، إنما نعرض (وثيقة) تتضمّن لقطات لحركات النفس العربية وهي تودع للغتها انفعالاتها الأولى بظروف ترددها بين البدو والحضر.
وقد كتب في دقائق البدو والحضر كثير، ولكن أوفاها وأفضلها ما كتبه مفكرنا الخطير عبد الرحمن بن خلدون... فالبدو ـ مثلاً ـ مرحلة في عمر الإنسانية سابقة للحضر... ومجتمع البادية ساذج في معيشته وأوضاعه لقلة مطالبه واكتفائه بالضرورات، ومجتمع الحضر كثير المطالب متشابك الضرورات بحكم ما تتطلبه عمارة الدور والأرض من صناعات متباينة، وما يترتب على ذلك من معاملات وأوضاع تنظيمية شتى... عرضوا لذلك ونحوه ،ولكن الذي يعنينا هو ذلك الحافز العميق الذي نلحظه من ورائه، والذي حفز الإنسان ـ وما زال يحفزه ـ إلى الحضارة، وهو حافز الفطرة الذي تنم عنه اللغة، حافز الحرص على المحافظة على الذات وما لها من مقومات الحياة... ولكن هل هذا الحافز وحده هو كل ما تضمّنته الفطرة من حوافز وضرورات؟ وهل ذلك المفهوم للحضارة قد تضمن كل ما لها من مقومات وخصائص؟
إن اللغة قالت: إن الحضارة هي الإقامة في الحضر ، واتّسع ذلك المفهوم بالتبعية أو اللزوم، فشمل مظاهر نشاط الإنسان في عمارة الأرض والمدن بمختلف الصناعات... وزاد التفاعل مع الواقع ـ حسياً وعقلياً ـ فكان ما أسفرت عنه الجهود من كشوف علمية لمخبآت الطبيعة، وقوانينها، وأضيف ذلك ومظاهر استعماله وآثاره إلى سابقه في مفهوم الحضارة، ومقوماتها... وصحب ذلك كله ضروب من المعاملات، ونظم الحكم والتشريع، والقضاء، و السياسة ونحوها فكانت ـ بحكم اللزوم ـ أيضاً خاصيّة للإقامة في الحضر أضيفت لمفهوم الحضارة... ولكن هل انتهى إلى ذلك الحد مفهوم الحضارة؟ وبعبارة أخرى هل انتهت خواطر الفطرة الداعية للتحضر فانتهى مفهوم الحضارة إلى ما انتهى إليه؟..
إننا نريد أن ننبه إلى الرابطة الوثيقة بين حوافز الفطرة، وبين ما تدعو إليه في ظاهر الحياة من تفاعلات... نريد أن نبه إلى الرابطة المنطقية الحتمية التي تجعل حضارة الإنسان أثراً ضرورياً لما تنطوي عليه فطرته من تطلعات وحوافز...وعلى هذا نسأل:  هل هذا الحافزوحده ـ حافز المحافظة على الذات ـ هو كل ما للفطرة من ميزة الحياة الباطنة؟ أو ثمة حوافز وتطلعات أخرى؟
بين انفعال الحس وانفعال الروح:
منذ أن وعى الإنسان نفسه يحس اتجاهه إلى الكون وآفاقه بوجدان غامض فيه تعجب باعث على السؤال: ما هذا؟! وهو وجدان لا تكلف فيه، كما أنه ليس من تخيل أحد، أو إيهامه، بل هو حركة يجدها كل فرد في ضميره منذ يعي نفسه ـ كما قلنا ـ ومع تقدمه في عمر الطفولة يعظم التعجب، وتعمق الروعة، ويزداد التساؤل: ما هذا؟! وتبدأ عجائب الكون تلفته إلى ذاتها: الشمس بظواهر شروقها وغروبها ولألائها الباهر، وتنقلها العجيب في القبة الكونيّة كل يوم من الشرق إلى الغرب، والقمر بأشكاله المتباينة التي يغيرها مع كل ليلة، ويطالعنا بها من عليائه على مدى الشهر... والكواكب التي تغطي فضاء الكون ليلاً بزينتها البديعة العميقة، و تأخذ باللب في خشوع ورقة إلى غورها السحيق، والإنسان يلبي ذلك كله في تطلع ظاهر، وتعجب ملحّ في السؤال ما هذا ؟ ومن أوجده؟...
وقد يكون هذا التساؤل في ذهن رجل بدوي، أو طفل حضري أو قروي، وقد يتلقى عنه إجابة صحيحة، أو غير صحيحة، وقد لا يتلقى عنه إجابة ما، ولكنه في كل ذلك يظل على حاله في التطلع إلى تلك الآيات دهشاً متطلباً المعرفة.
نعم قد يخفت التنبه وإحساس الروعة ـ عادة ـ لدى الأكثرين بتقدم المرء في العمر، وازدحام تبعات العيش وشواغله على وعيه مع تنوعها وتواليها، ولكن ليس معنى هذا أن تلك الحال كانت ظاهرة أو خاصية تصحب الطفولة ثم تغيض أو تزول حين يبلغ أشده، ويواجه منطق عيشه ودواعيه المتراكمة، فإنه في غمرة تلك الدواعي قد تتاح له خلوة بنفسه فيرى تلك الآيات أكثر إثارة ووضوحاً من ذي قبل.
فنحن ـ إذاً ـ بإزاء طرفين: الكون، والإنسان... الكون له آياته وحقائقه... والإنسان ـ من دون كائنات الطبيعة ـ ينفعل بتلك الآيات والحقائق انفعالاً تنبثق به في النفس وجدانات التعجب والتساؤل، وينبعث به العقل في محاولة الفهم... 
وقد قلنا: إن ذلك ليس عن تخييل مفتعل، أو وهم، إنما هو عن واقع مُحَسّ عتيد هو " الكون "، وكذلك ليس عن خاصية  مؤقتة تصحب الطفولة الغضة ثم تنتهي، بل هي عن فطرة ذات وعي أو حس، تواجه حقائق الكون فتنفعل أو تتأثر لها في تعجب ودهشة فتتحرك مستشرقة متسائلة: من خلق هذا؟! ويتدخل العقل لمعرفة المسؤول عنه... قلنا هذا، وهو يضعنا بإزاء موازنة بينه وبين تجربة القلق التي دعت الإنسان إلى التحضر آنفاً...
أ ـ فاضطراب الأمن ـ بالعوامل التي تحكم بيئة البدو ـ عارض رغبة فطريّة في النفس  ـ هي غريزة المحافظة على الذات ـ فأثارت تلك المعارضة حركة في الضمير، أو قلقاً يتضمن الخوف على النفس، ونشدان الأمن بسكنى الحضر، وما تستدعيه من صناعات مختلفة.. وفي التجربة الثانية نجد المواجهة بين فطرة الإنسان وحقائق الكون قد أثارت في النفس حركة أو قلقاً، فيه تعجب واستشراف لمعرفة من خلق هذا؟!
ب ـ وبواعث القلق في التجربة الأولى حسية ظاهرة، هي عوامل اضطراب الأمن، وأهدافه ـ كذلك ـ حسية هي إحراز الأمن على المال والنفس أي البدن.
وفي التجربة الثانية نجد بواعث القلق هي "المواجهة " بين وعي الإنسان وحقائق الكون.. فهل هي بواعث حسية؟ ونجد أهداف القلق هي التطلع لمعرفة من خلق هذا... فهل هي أهداف حسية؟
إذا ذهبنا نعرف حقيقة ذلك ـ أي: البواعث والأهداف ـ ألفينا الإنسان قد أدرك شيئاً، في حقائق الكون، أحس له في نفسه أثراً مزيجاً من الدهشة و التعجب، فما عسى أن يكون ذلك الشيء؟
إنه ليس الضوء والحرارة، ولا الأصوات والمشمومات ونحوها من الأمور المحسَّة، فإن تلك المحسات ترد على حواسنا كل آن من نهار وليل بلا انقطاع... دون أن يحدث مثل ذلك الوجدان العميق الهادئ المتميز بالروعة والتعجب... نعم قد تحدث إثارة سطحية برائحة زكية أو كريهة... وبصوت حسن أو منكر... وبمنظر جميل أو قبيح ـ مثلاً ـ ولكن ذلك غير الوجدان الذي نعنيه المتميز بالعمق والتعجب، المتسائل: من خلق هذا؟
والمعروف أن الإنسان ينظر كل آن إلى السماء، وما لها من شمس وقمر وكواكب ونجوم، وكأنه لا ينظر إليها لاستيلاء شواغل العيش على إرادته، فلا تنشأ بنفسه روعة ما أو تساؤل من قبيل ما قدمنا... وهذا يدل على أن مجرد رؤية تلك الكائنات السماوية بالحواس أو بالنظر العادي لا يحدث في النفس الأثر الذي نقرر، وأن ثمة في تلك الكائنات، أشياء غير حسيّة لا ترى بالنظر العادي، إنما يتنبه لها وعي الإنسان إذا زالت عنه شواغله الحسية، فيبصرها فتحدث في الضمير خلجات التعجب التي قدمنا.
فبواعث القلق ـ إذاً ـ أمور معنوية غير حسية، تتم برؤية غير رؤية الحس... وكما يكون لرؤية الحس أثرها العميق في النفس الجياش بالتعجب والتساؤل... ونفس الإنسان كالغدير الهادئ الرهو، لا تتحرك هي، ولا تحدث فيه هو حركة ما إلا أن يحرك محرك، أو أن يلقى فيه بشيء يغير سكونه، فلا مجال ـ بته ـ لأن يقال: إن هذا التعجب والتساؤل يحدثان في النفس بغير شيء.
وإذاً، فبواعث هذا القلق روحيّة بحتة، لا تتصل من قريب أو بعيد بعوامل بيئة بدوية أو حضرية، ولا بغريزة ما من التي تتصل بالمحافظة على الذات... وليست هي من صنع  الحواس المعروفة، ولا هي صادرة من مادة المحسّات إنما هي رؤية لـ "معالم عقلية "، غير محسة في الكائنات، معان في الكائنات يتبيَّنُها وعي الإنسان إذا اتَّجهت إرادته إلى ذلك.
ولقد كنا نسأل منذ قليل: هل ثمت حوافز وتطلعات للفطرة غير حافز المحافظة على الذات... وقد قدمنا الآن الإجابة عن ذلك، فإذا كان لباطن المرء حركات دعته لسكنى الحضر طلباً للأمن، فثمة حركات انبعاث وتطلع للمعرفة لا تجد تحضرها بسكنى مدن أو ريف، إنما تجده بمقامها الأمين في آيات الكون وحقائقه.
الإنسان والكون:
ونخلص من ذلك بحقيقة تؤكد ما قدمنا من أن الكون كله: أرضه وسماءه، وما فيهما، وما بينهما من كائنات هو وطن الإنسان أينما كان، ويجب أن تقوم صلة التوطن بينهما على أسس فطرية بينة صادقة... فليست الأرض وحدها هي وطن البشرية، فإن الآفاق التي تحيط بنا، ولا تفتأ تتعرض لحواسنا ومداركنا بعمقها وروعتها وآياتها في الأرض والسماء تصنع الإطار الحق لمفهوم هذا  الوطن.. وإذا كنا نعيش على الأرض بأبداننا فإننا نحيا في هذا الإطار الكبير بحواسنا وعقولنا حياتنا الحافلة بأصدق المعاني... بل إننا لا نشغل من الأرض بأبداننا إلا حيّزاً ضئيلاً محدوداً، في الوقت الذي تشغل فيه حواسنا وعقولنا ما يبدو لها من الكون كله... فإذا عنينا بموقف الإنسان من الكون، فإنما نريد صلة التوطن التامّ، التوطن الحسّي الذي يشغل فيه البدن بالضرورة وضعه في الأرض، والتوطن الفكري الذي يلزم فيه الفكر مجال تدبره في آيات الكون.
ومن البيّن أننا لا ندعو إلى إلغاء المواطنة أو المواطن الخاصة فإنها أمور ضرورية لتنظيم معيشة الإنسان وعمارة الأرض، ولتنظيم قيام العلاقات الجامعة بين أفراده بعضهم وبعض...
 فلكل فرد وطنان: وطنه الخاص الذي ينسب إليه بحكم التنظيم والاستقرار المعاشي... ووطنه الفكري الكوني الذي يجول في ملكوته مع أفكار سواه من بني الإنسان، فلا تتعارض الأفكار ولا تتضارب أو تتحاسد وجهات النظر...
 لكل فرد وطنان على أن يؤدي لكل وطن حق توطنه: فإذا كان الفرد لا تتحقق نسبته لوطنه الخاص ولا يكتب له به الاستقرار والطمأنينة إلا إذا استقرت علاقته الاقتصادية والاجتماعية والوجدانية به على أساس من المعرفة والمعاطفة والارتباط الحيوي بكل مقوماته على أنه جزء من بنائه، إذا كان هذا شأن الفرد بالنسبة للوطن الخاص، فهو شأنه بالنسبة لوطنه الكوني، إذ لا يكتب للضمير فيه استقرار ما إلا أن يأخذ الفكر مكانه في رياض حقائقه...
إن بين ضمير الإنسان وحقائق الكون وشائج ألفة ومواءمة فطرية، فإذا أقبل الإنسان ينظر فيها بعقله، وحصل معانيها لنفسه، فقد حقق المواءمة بينه وبين الكون، وهو التجانس الذي يكتب له به استقرار الضمير ورضا الفكر، وبه يصحب الكون على بصيرة ومعاطفة، وتلك حقيقة التوطن الكوني وهي لب حقيقة الحضارة...
نحو الإسلام:
والإنسانية اليوم تجتاز مرحلة خطيرة من بلبلة الفكر، وقلق الضمير، ولا سيما في بيئات الغرب حيث يسود التوجس وعدم الثقة، ويستعلن الشباب الضيق وعدم المبالاة، وليس ذلك من قلة في الموارد، فإن الطبيعة لا تفتأ تجود بألوان من النعمة والثروة، ولا عن جهل بالطبيعة، فإن الإنسان لم يكن أعلم بها منه اليوم، بل لأن الصلة الفكرية بينه و بين الكون لا تحقق المواءمة الضرورية لاستقرار النفس... وإذاً، فلابد من علاج، أو من نهج يقيم علاقة الإنسان الحسية والفكرية بالكون على سوائها... نهج نستوحي فيه فطرة العقل، و حقائق الكون، لا نلوذ فيه بنحلة خاصّة، ولا مبدأ فيلسوف كائناً ما كان... ولسنا نجد في تقرير سنن الكون وعلاقتها بفطرة الإنسان: فطرته الفكرية، والنفسية، والعملية، في عمق وصدق ووفاء من الإسلام، وإننا نظلم الحقيقة ونسيء إلى أنفسنا أشد الإساءة إذ ننظر إلى الإسلام على أنه دين طائفة خاصة أو أمة بعينها... فالإسلام دين كوني، ينظم علاقة الإنسان كافة بالكون كله حسه ومعناه... أو ظاهره وباطنه... ينظم تلك العلاقة على أساس ما بين الإنسان والكون من مواءمة حسية، وروحية، وفكرية، وأن النظر الفطري الحكيم المتحرر من لوثة الهوى والطائفية جدير أن يضع بين يدي صاحبه الكثير من قواعد تلك العلاقة ما دام يستهدف فطرة العقل، ودلالات الكون السافرة له وأنه كلما أجال النظر فيما حوله من حقائق، كثرت لديه حصيلة الحق التي تقوم بها علاقة الإنسان بالكون على أوثق الروابط وأصدق الأسس، وأن كل ما يجتمع له بهذا النظر السليم من معارف، وحقائق، وأحكام، إنما يطابق في مادته ـ أو يقارب ـ ما نزل به القرآن الكريم من الله تعالى، ذلك أن القرآن الكريم لم يجيء بجديد يقحمه على استعدادات الناس النفسية والفكرية، إنما جاء ـ كما قلنا ـ ليقيم فطرة الإنسان على سوائها؛ لتقوم العلاقة بينه وبين الكون على أوثق الروابط، وأصدق الأسس، وذلك ما سنحاول بيانه يما تأتي من الكلمات وبالله التوفيق...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي جمادى الآخرة 1390العدد 66.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين