الحرية وإنسانية الإنسان

 


د. عامر أبو سلامة

 

 

إنها كلمة ساحِرة، وفي نفس الوقت جذَّابة، ذات رونق أخَّاذ، وجرس هائل في جملة الجماليات، التي تكون في بطنِ معانيها، ودلالات مبانيها، وإشارات مراميها، بتحقُّق إنسانية الإنسان فيها؛ ليَرتفِع بعُشاقِها إلى مصافِّ الوالِهين، والباحثين عن استقرار النفس في ربوع بُرود الحيرة وصَحاري جفاف الأيام.
 
الحرية: هي الرِّئة التي يتنفَّس منها العالَم، فيكون الإبداع، ونِتاج الخير، وصناعة الروائع، والانطلاقة الرحبة، في مجالات الحياة على حقيقتها، وبشعبها كافة، فتُورِق أشجار العمل، وتتفتَّح أزاهير الأمل، ويَعشَوشِب العقل، في فُسحة السعادة، وتُورد خدود المستقبل؛ لتَحكي ولادة أجيال مِن رحم الحقيقة يَنطلقون، وفي بُعدِ الاستِشراف يُخطِّطون، يَقفون على أرض صلبة، ويتطلَّعون لغدٍ مُشرِق.
 
الحرية: أغنية المرء تَشدو في بستان روحه، وفي حنايا نفسه تُغرِّد، وفي صميم وجدانه تبحث عن عُشٍّ دافئ تنام في أحضانه، توّاقة إليه، تتلهَّف له، تظل خميصةَ وجدانه، وشارة عنوانه، وأداة شعاره.
 
الحرية: تَلازُم بين الروح والجسد، وحالة التقاءٍ بين الماضي والحاضر، الفصام النَّكِد يَهدُّها، حتى يُتلِف كل شيء فيها - والإكراه لا يُبنى عليه أمر- فلا إنسان بدونها، وحياة المرء لا تكون إلا بها، وجناية الظالِم عليها وعدوانه على سياجها جريمة كبيرة بكل مقاييس الأخلاق والقِيَم والسياسة والاجتماع؛ لأنها هبة الله - تعالى - للإنسان؛ ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10]، ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ [الكهف: 29].
 
الحرية: جناحا طائرٍ بهما يَبني، وبفَضلِهما يُبدِع، وبطبيعة خِلقتِهما يَصنع جمالاً يُلهِم الشعراء، ويَفتح مغاليق الأقلام، ويجعل المرء يسبَح في خيال المجد بانيًا صروح أمَّة تتعطَّش للعلياء، وتبحث عن مكونات حضارة صُنعت على عين أجيال بَنَتْ، وفي ظلالها تفجَّر الأمل جداول سارت بذِكرِها الركبان، وحمَلت للعالَمين الأمن والأمان، وأكبر مُصيبة على الطائر أن يُقصَّ جناحُه.
 
أُولئكَ آبائي فجِئْني بمِثلِهم     إذا جمعَتْنا يا جَريرُ المَجامِع
 
الحرية: صاحِبها مَن تحرَّر في داخله، وتربَّى على أصول معانيها، ومَن كان حرًّا، بمفهوم السلف، لا يَضيمه كيد كائد، ولا حقد حاقد، ولا سجن طاغوت، ولا تهديد مُتمرِّد، يتعلَّق بمعاني الروح وأخلاق رِبِّيِّين، ومعالِم صالِحين، ورياض متَّقين، وتُردِّد الأجيال كلمات واحد مِن هؤلاء الذين عاشوا الحرية استعلاءً على عُشّاق الأَسر، ومُحبِّي الظلام: "ما يفعل أعدائي بي، أنا جنَّتي وبُستاني في صدري، أينما رُحتُ فهي معي لا تُفارقني، أنا سِجني خَلوَة، وقَتلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة".
 
ومِن داخل سجنِه يَكتب رسائله القيمة، ويُسطر كلماته، ويَنشر عصارة فكرِه، بل ويَموت في السجن، بعدما صنَع تجديدًا، ربما كثير مِن أصوله كُتبَت في السجن، وهكذا هِمَم المرء وهو يُطاوِل الجوزاء، ورحم الله الإمام ابن تيمية.
 
وتَمضي قافلة الأيام، فيَكثُر الشرُّ، مع كثرة الاستبداد، وطغيان حكم الفرد، وتمدُّد الدكتاتوريات، وتتحوَّل الحياة إلى سجن كبير وصغير ومُتوسِّط، فتُكمَّم الأفواه، وتُجلَد الظهور، وتُحسَب الأنفاس وتُحبَس، وتغيب شمس الحرية، فيكون عندنا أدب متميِّز مِن نوع فريد، يَحق له أن يُدرس كما يُدرس الأدب بأقسامه الزمنية والعلمية، وتَجري حوله دراسات نقديَّة، حتى يُجلي عمودًا مِن أعمدة المعاصرة، إنه أدب السجون، يَحكي قصة ظُلمِ الظالمين، وإجرام بعض الحاكِمين، وقمع الأحرار، وتكسير الأقلام، وتعليق المُخالِفين بالرأي على أعمدة المشانق، فتكون: "البوابة السوداء"، "وأيام من حياتي"، "وحوار مع الشيوعيِّين في أقبيَة السجون"، "وتدمر شاهد ومشهود"، "والقوقعة".
 
ومِن ملامح الحقيقة في هذا الأدب: بروز ظاهرة الحرية - رغم كل ما يُحيط بها من معاني الحزن، ومعالِم الألم - بمعاني الرفعة الإيمانية، تظل كلماتنا عرائس مِن شمع، ما إن متْنا في سبيلها دبَّت فيها الروح، وكُتبَت لها الحياة.
 
وَللحُرِّيَّة الحَمراءِ بابٌ     بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يدقُّ
 
ويُطل علينا الإمام السرخْسي مِن القرن الخامس الهِجري، يدقُّ باب الحرية بكتاب مِن أنفس كتُب الحنفية، ومراجعهم المُعتمَدة، وقد أملاه في سجن منفيٍّ فيه في مدينة أوزجند - البلدة التي شهدت تلك المأساة.
 
وهنا لا نُقارن بين زمنَين، ولا نشبِّه مرحلةً بأخرى، ولكن نُذكي في النفس مشاعل النور في دروب الرجاء.
 
الحرية: مسؤولية وأمانة، تقوم بما لها مِن معاني الانطلاق، فُسحَة حرَكة، وظلال تمرُّد، فيَتملَّص باسمها مَن لا خلاق له، ويتذرَّع المُستبِد بهؤلاء المُتملِّصين، ويَبرز التوازن في لون الأمانة بكل أبعادها، وسائر انسحاباتها؛ لتؤكِّد أن الكلمة أمانة، بل هي جهاد، في بعض صور الأداء؛ ((سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه، فقتله)) والقلَم مسؤولية، والمواقِف تكليفيَّة، فلا عبث، ولا فوضى، ولا تمرُّد على القِيَم، بل الحرية، صيانة لكل هذه المعاني، وحماية لها، وبهذا يَنجَح الأمل.
 
أعظم معاني الحرية، عُبوديتُك لله - تعالى - وترك عِبادة مَن سواه.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين