وصية الإمام أبي حنيفة ليوسف السمتي يوم تخرجه - وصية إلى الشباب المسلم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
وصية الإمام أبي حنيفة ليوسف السَّمْتي يوم تخرُّجه
أخي يا طالب العلم!
من النعم العظمى أن يكون لنا موجّه ومرشد بمثابة الأب الرحيم, والمعلم الأمين، والناصح الحميم، ومن كان شيخه وناصحه! إماماً كأبي حنيفة فأَنْعِم به وبنصحه. فاقرأ بتأنٍّ وتدبّر وعاهِدْ أن تكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
في يوم تخرجك أرادها (موقع رابطة علماء سورية)خير هدية لك.
هذه وصية الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه لتلميذه يوسف بن خلاد السَّمْتي البصري.
وصىَّ بها حين استأذنه الخروج إلى وطنه البصرة. فقال: لا، حتى أتقدَّم إليك بالوصية فيما تحتاج إليه في معاشرة الناس، ومراتب أهل العلم، وتأديب النفس، وسياسة الرعيَّة، ورياضة الخاصَّة والعامَّة، وتفقُّد أمر العامَّة.. حتَّى إذا خرجتَ بعلمك كان معك آلةٌ تصلحُ لك وتَزِيْنُك ولا تَشِينُك.
واعلم أنَّك متى أسأت عِشرة الناس صاروا لك أعداءً؛ ولو كانوا أمهاتٍ وآباءً، ومتى أحْسنت عشرة الناس من أقوام ليسوا لك أقرباءَ صاروا لك أقرباء. ثم قال لي:
اصبر يوماً حتى أُفرِّغ لك نفسي، وأجمع لك هِمَّتي، وأعرِّفك من الأمر ما تحمدُني؛ وتجعل نفسك عليه، ولا توفيق إلا بالله.
فلما مضى الميعاد؛ قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أكشف لك عمّا عزمت عليه..
كأني بك وقد دخلت بصرة؛ وأقبلت على المناقضة مع مخالفيك، ورفعت نفسك عليهم، وتطاولت بعلمك لديهم، وانقبضت عن معاشرتهم ومخالطتهم، وهجرتهم فهجروك، وشتمتهم فشتموك، وضلّلتهم فضلّلوك، وبدَّعتهم فبدّعوك، واتصل ذلك الشَّين بنا وبك، واحتجت إلى الهرب؛ والانتقال عنهم، وليس هذا برأي  فإنَّه ليس بعاقل مَن لم يدار مَن ليس له من مداراته بُدٌّ، حتى يجعل الله تعالى له مخرجاً. قال السَّمتيُّ: ولقد كنت مُزْمعاً على ما قال!
ثم قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا دخلت البصرة واستقبلك الناس، وزاروك وعرفوا حقك؛ فأنزل كلّ رجل منهم منزلته، وأكرم أهل الشرف، وعظِّم أهل العلم، ووقِّر الشيوخ، ولاطف الأحداث، وتقرَّب من العامة، ودارِ الفجار، واصحب الأخيار، ولا تتهاون بالسلطان، ولا تحقِرَنَّ أحداً يقصدُك، ولا تقصِّرنَّ في إقامة مودتك إياهم، ولا تُخرجنَّ سرَّك إلى أحد، ولا تثـِقَنَّ بصحبة أحدٍ حتى تمتحنه، ولا تُخادم خسيساً، [أي لاتخذه خادماً] ولا وضيعاً، ولا تقولنَّ من الكلام ما يُنكر عليك في ظاهره.
وإياك والانبساطَ إلى السفهاء، ولا تجيبنّ دعوةً، ولا تقبلنَّ هدية [لعله في حال تولي القضاء؛ كما قال له الإمامَ مرة: كأني بك قاضياً]، وعليك بالمداراة، والصبر والاحتمال وحسن الخلق، وسَعة الصدر.
واستَجِدَّ ثيابَك، وأكثِر استعمال الطيب، وقرِّبْ مَجْلسَك [أي اجعله عامّاً أو كثيراً]، وليكن ذلك في أوقات معلومة.
واجعل لنفسك خلوة تَرُمُّ بها حوائجك، وابحث عن أخبار حَشَمك، وتَقدَّم في تقويمهم وتأديبهم، واستعمل في ذلك الرفق، ولا تكثر العَتْبَ فيهونَ العَذْلُ. ولا تلِ تأديبهم بنفسكَ، فإنَّه أبقى لِمائك، وأهْيبُ لك.
وحافظ على صلواتك، وابذل طعامك؛ فإنه ما ساد بخيلٌ قطُّ، وليكن لك بطانة تعرِّفُك أخبار الناس، فمتى عَرَفت بفساد بادرت إلى صلاح، ومتى عرفت بصلاح فازدد رغبة وعناية في ذلك، واعمد في زيارة مَن يزورك ومن لا يزورك، والإحسان إلى من أحسن إليك أو أساء.
وخذ العفو وأْمر بالمعروف، وتغافل عمّا لا يعنيك، واترك كلّ من يؤذيك، وبادر في إقامة الحقوق.
ومن مرض من إخوانك فعُده بنفسك، وتعاهَدْه برُسُلك. ومن غاب منهم فتفقَّد أحواله. ومن قعد منهم عنك فلا تقعد أنت عنه.
وصِلْ من جفاك، وأكرمْ من أتاك، واعفُ عمَّن أساء إليك. ومن تكلَّم منهم بالقبيح فيك فتكلَّم فيه بالحسن الجميل. ومن مات قضيت له حقَّه، ومن كانت له فرحة هنّيته بها. ومن كان له مصيبة عزَّيتَه عنها. ومن أصابه همٌّ فتوجَّعْ له به. ومن استنهضك لأمر من أموره نهضتَ له، ومن استغاثك فأغثه، ومن استنصرك فانصره. وأظهِر التودد إلى الناس ما استطعت. وأفشِ السلام؛ ولو على قوم لئام.
ومتى جمعك وغيرَك مجلسٌ أو ضمَّك وإياهم مسجد؛ وجرت المسائل، وخاضوا فيها بخلاف ما عندك لم تُبْدِ لهم منك خلافاً. فإن سُئلت عنها أجبت بما يعرفه القوم، ثم تقول: (وفيها قول آخر.. كذا، وحُجَّته كذا). فإذا سمعوا منك عرفوا قدرك ومقدارَك؟ وإن قالوا: هذا قول مَن؟ فقل: (قول بعض الفقهاء).
وإن استقروا على ذلك، وألفوه، وعرفوا مقدارك وعظّموا محلك فأعطِ كل من يختلف إليك نوعاً من العلم ينظرون فيه، ويأخذ كل منهم بحظِّ شيء من ذلك. وخذهم بجَليّ العلم دون دقيقه.
وآنسهم ومازحهم أحياناً  وحادثهم؛ فإنها تجلب المودةَ وتستديم به مواظبةَ العلم، وأطعمهم أحياناً، واقض حوائجهم، واعرف مقدارهم، وتغافل عن زلاتهم، وارفق بهم وسامحهم. ولا تُبدِ لأحد منهم ضِيْق صدر أو ضجراً، وكن كواحد منهم. وارض منهم ما ترضى لنفسك. وعامل الناس معاملتك لنفسك. واستعن على نفسك بالصيانة لها، والمراقبة لأحوالها. ولا تضْجر لمن لا يضجر عليك. ودع الشَّغَب، واستمع لمن يستمع منك، ولا تكلِّف الناس ما لا يكلِّفونك، وارض لهم ما رَضُوا لنفسهم، وقدِّم حسن النية، واستعمل الصدق واطرح الكِبر جانباً. وإياك والغدرَ وإن غدروا بك، وأدِّ الأمانة وإن خانوك. وتمسَّك بالوفاء، واعتصم بالتقوى.
وعاشر أهل الأديان حسَب معاشرتهم لك، فإنك إنْ تَمَسَّك بوصيتي هذه رجوت أن تَسلم وتعيش سالماً إن شاء الله تعالى.
ثم إنه ليحزنني مفارقتك، وتؤنسني معرفتك؛ فواصلني بكتبك، وعرفني بحوائجك، وكن لي كابن فإنّي لك كأب.
قال يوسف بن خالد السَّمْتيُّ:
ثم أخرج إليَّ دنانير وكسوة وزاداً وخرج معي، وحمَّل ذلك حمَّالاً، وجمع أصحابه حتى شيَّعوني، وركب معهم حتى بلغنا إلى شط الفرات، ثم ودعوني وودعتهم.
وكانت منَّةُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى بوصيته إليَّ وبِرِّه أعظم من كل مِنَّة تقدَّمت عليَّ.
وقدِمْتُ البصرة، فاستعملت ما قال، فما مرَّت عليَّ أيام يسيرة حتى صاروا كلهم لي أصدقاء، وانتقضت المجالس، وظهر بالبصرة مذهبُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، كما ظهر بالكوفة، وسقط مذهب الحسن وابن سيرين رضي الله عنهما، فما زالت كتب أبي حنيفة تجيئُني إلى أن مات رحمه الله تعالى.
فهنيئاً لك من معلِّم صالح وأستاذ صالح.. فمن لنا مثله رضي الله عنه وعن جميع المسلمين.
[طبعت هذه الوصية الذهبية بذيل كتاب: "تعليم المتعلم طريق التعلم" للزرنوجي، تحقيق الشيخ عبد الجليل العطا، دار النعمان ـ دمشق، ط1/1418هـ ـ 1998م].
المصدر: المنتدى الإسلامي ـ بيروت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين