خصائص التشريع الاسلامي في الصوم2 - التشريع الاسلامي
سبق للموقع أن نشر القسم الأول من هذا البحث الممتع الذي كتبه الأستاذ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه«الأركان الأربعة» حول خصائص التشريع الإسلامي في الصوم ذكر فيه الحكمة في تخصيص رمضان بالصوم والجو العالمي وما له من تأثير في النفوس والمجتمع والفضائل وما لها من تأثير وقوة وفي هذا القسم الذي ننشره اليوم يتحدث عن العناية بروح الصوم وحقيقة ومقاصده والجمع بين السلب والإيجاب وتفريط المسلمين في مقاصد الصوم وجناية العادات على العبادات ثم يتكلم عن دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم.
العناية بروح الصوم،وحقيقته، ومقاصده، والجمع بين "السلب" و "الإيجاب"

وقد يتساءل الرجل الذي لم يعرف دخائل النفس الإنسانية والأنماطالبشرية المختلفة: إن رمضان لا يصومه إلا المسلمون، ولا يدعوهم إلى ذلك إلاالإيمان والاحتساب، فلماذا قيده لسان النبوة بصفة الإيمان والاحتساب، فهو من قبيلتحصيل الحاصل ؟ ولكن الذي توسعت دراسته للحياة، وتعمقت معرفته للدوافع النفسية،والعوامل الخلفية والاجتماعية، وقف خاشعاً أمام هذه الحكمة، والعلم الدقيق العميق، وشهد بأنه" وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى".وقد جاء تفسير الإيمان والاحتساب في حديث آخر، بأن يكون الإنسان راجياًللثواب، مصدقاً لما وعد الله على هذا العمل بالمغفرة والرضا...
ثم إن التشريعالإسلامي لم يكتف بصورة الصوم، بل اعتنى بحقيقته وروحه كذلك، فلم يحرم الأكلوالشرب والصلات الجنسية في الصوم فحسب، بل حرم كل ما ينافي مقاصد الصوم وغاياته،وكل ما يضيع حكمته وفوائده الروحية والخلقية، فأحاط الصوم بسياج من التقوى والأدبوعفة اللسان والنفس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان يوم صوم أحدكمفلا يرفث، ولا يصخب، وإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل إني صائم" وقال: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامهوشرابه"وذكر أن الصوم الذي يخلو من روح التقوى والعفاف وصورة مجردة منالحقيقة، وجسم بلا روح، فقال:"كم من صائم ليس له من صيامهإلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامة إلا السهر"وعن أبي عبيدة رفعه،قال"الصوم جنة ما لم يخرقها".وليس الصومالإسلامي مجموعة من أمور سلبية فقط، فلا أكل ولا شرب، ولا غيبة ولا نميمة، ولارفث ولا فسوق ولا جدال، بل هو مجموع أمور إيجابية كذلك، فهو زمن العبادة والتلاوةوالذكر والتسبيح، والبر والمواساة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تقربفيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمنأدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهرالمواساة"وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمقال"من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أن لا ينقص منأجر الصائم شيء"وألهم الله الأمة للمحافظة على صلاة التراويح، التيثبت أصلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تركها بعد ثلاثة أيام، لئلا تفرض علىأمته فرضاً فتشق عليها، روى ابن شهاب قال: أخبرني عروة أن عائشة رضي الله عنهاأخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبحالناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليهوسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، حتى خرجلصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقيل على الناس فتشهد، ثم قال"أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكمفتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر علىذلك.وقد قام بها الصحابة - رضي الله عنهم - وعضت عليها الأمة بالنواجذ فيأعصارها وأمصارها، حتى أصبحت شعاراً لأهل السنة، الصالحين من الأمة، وكانللتراويح فضل كبير في شيوع حفظ القرآن في الأمة، ومحافظتها عليه، وبقائه فيالصدور، وفضل كبير في توفيق العامة والجماهير لقيام الليل والعبادة
وبذلك كلهأصبح شهر رمضان مهرجاناً للعبادة، وموسماً للتلاوة، وربيع الأبرار والمتقين،وعيد العباد والصالحين، تتجلى فيه عناية هذه الأمة بإقامة أحكام دينها وغرامهابالعبادة، وإخباتها إلى الله، ورقة القلوب، والتنافس في البر والمواساة في أروعمظاهره، لا تبلغه، ولا تبلغ عشر معشاره أمة من الأمم، أو طائفة من طوائف بني آدم، "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"
تفريط المسلمين فيمقاصد الصوم، وجناية العادات على العبادات:
ولكن المسلمين قد جنوا فيكثير من الأحيان على أنفسهم وعلى مقاصد الصوم وفوائده بالعادات التي يبتدعونها،وبجهلهم وإسرافهم في الإفطار والطعام، الإسراف الذي يفقد الصوم الشيء الكثير منفائدته وقوته الإصلاحية والتربوية.
الصيانة من التحريفوالغلو:كان رمضان مظنة للغلو والتعمق في الدين، فقد يفهم كثير منالناس أن موضوعه وغايته قهر النفس، وترويضها على ترك الشهوات والرغبات، وإجهادهاإلى أقصى حد ممكن، فكلما أمعن الإنسان في إجهادها وقهرها، وكلما طالت الفترة فيالأكل والشرب والتمتع، وطالت مدة الجو والظمأ، وكلما أظهر الصبر والاحتمال، كانأقرب إلى الله وأحب إليه، وأبعد عن المترفهين المترفين والمتنعمين المتمتعين،وأدخل في غمار المتقين الصابرين. وهذا الفهم الخاطئ السطحي هو الذي زين لكثير منالمتدينين والمتقشفين في الأمم السابقة، والديانات القديمة الغلو في العبادات عامة، وفي الصوم خاصة، فأطالوا مدة الإمساك عن الطعام والشراب، وأخروا الفطور،وعجلوا السحور، أو تحرجوا عن التسحر مطلقاً، ورأوه عجزاً في الدين، وضعفاً فيالصائمين، أو وصلوا الصوم بالصوم، والليل بالنهار، وقلدهم في ذلك غلاة المسلمين، والطوائف المبتدعة المتشددة، فكان كل ذلك تحريفاً في الدين، وجهاداً في غيرجهاد، ورهبانية ابتدعوها، وباباً واسعاً لفساد شامل، وتحدياً لقول الله تعالى" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقوله"وما جعلعليكم في الدين من حرج" وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددواوقاربوا"لذلك كله سدت الشريعة الإلهية الأخيرة الخالدة هذا الباب،فحثت على السحور أولاً، ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحبه، وجعلهسنة للمسلمين، فقد روى أنس بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم"تسحروا فإن في السحور بركة"وعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال"فصل ما بين صيامناوصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وحذر عن تأخير الفطر، وجعل التأخير فيه آيةللفساد، والوقوع في الفتن، وشعاراً لغلاة أهل الكتاب، فعن سهل بن سعد، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" وعن أبيهريرة رضي الله عنه رفعه، قال  "لا يزال الدين ظاهراً ما جلالناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون"وكذلك كان من سنته وسنةأصحابه تأخير السحور، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: "تسحرنا مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان بنيهما ؟ قال: خمسون آية"وعن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنبلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، قال: ولم يكن بينهماإلا أن ينزل هذا ويرقى هذا"وقد بسط شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلويالكلام، في هذا الموضوع فذكر عناية الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية، بهذاالجانب الإصلاحي في علم جم وفقه دقيق، قال:
" إن من المقاصد المهمة في بابالصوم سد ذرائع التعمق، ورد ما أحدثه فيه المتعمقون، فإن هذه الطاعة كان شائعة فياليهود والنصارى ومتحنثي العرب، ولما رأوا أن أصل الصوم هو قهر النفس تعمقواوابتدعوا أشياء فيها زيادة القهر، وفي ذلك تحريق دين الله. وهو إما بزيادة الكمأو الكيف، فمن الكم قوله صلى الله عليه وسلم"لا يتقدمنأحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم يوماً، فليصم ذلكاليوم"، ونهيه عن صوم يوم الفطر ويوم الشك، وذلك لأنه ليس بين هذه وبينرمضان فصل، فلعله إن أخذ ذلك المتعمقون سنة، فيدركه منهم الطبقة الأخرى، وهلمجرا، يكون تحريفاً، وأصل التعمق أن يؤخذ موضع الاحتياط لازماً، ومنه يومالشك. ومن الكيف، النهي عن الوصال، والترغيب في السحور، والأمر بتأخيرهوتقديم الفطر، فكل ذلك تشدد وتعمق من صنع الجاهلية". والصوم كله خضوع للأمروالإلهي، فلا أكل ولا شرب، ولا متعة بما حظر على الصائم بعد تبين الخيط الأبيض منالخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس مهما جمحت النفس، وطغت شهوة الطعام والشراب، ولا إمساك عن الطعام والشراب وما حظر في النهار، عبد غروب الشمس، مهما جمحتطبيعة الزهد والنسك، فليس الحكم للنفس والشهوة والعادة، إنما الحكم لله، ولاتجلد مع الله، ولا مصارعة مع الدين، وكلما كان الصائم متجرداً عن هواه، منقاداًللحكم، متسلماً لقضاء الله تعالى وشريعته، كان أصدق في العبودية، وأبعد منالأنانية، وقد أحسن العارف الكبير، والمصلح العظيم، الإمام أحمد بن عبد الأحدالسرهندي، في الإشارة إلى هذه النكتة، إذ قال في إحدى رسائله:"يتجلى فيتأخير التسحر وتعجيل الإفطار، عجز الصائم وحاجته، وهو ملائم للعبودية محقق لغرضها ".
الاعتكاف:والاعتكاف في رمضان متمم لفوائده ومقاصده، متدارك لما فات الصائم منجمعية القلب، وهدوء النفس، واجتماع الهم، والانقطاع إلى الله تعالى بالقلبوالقالب، وحقيقته الفرار إلى الله، والاطراح على عتبة عبوديته، والارتماء فيأحضان رحمته.يقول شيخ الإسلام الدهلوي رحمه الله عليه: " ولما كانالاعتكاف في المسجد سبباً لجمع الخاطر، وصفاء القلب، والتفرغ للطاعة، والتشبهبالملائكة، والتعرض لوجدان ليلة القدر اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في العشرالأواخر، وسنه للمحسنين من أمته".لذلك داوم عليه صلى الله عليه وسلم، وحافظعليه المسلمون في كل جيل، وفي كل عصر ومصر وأصبح من السنن المأثورة ومن شعائررمضان، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها:"أن النبي صلى اللهعليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكفأزواجه، من بعده". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلىالله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكفعشرين يوماً".
دور الإسلام الإصلاحيفي تشريع الصوم:
قام الإسلامي بنفس الدور الإصلاحي الذي قام به في جميعالعبادات والفرائض والمناسك، وكان إصلاحاً جذرياً، في مفهوم الصوم وآدابه وأحكامهووضعه، جعله أعظم يسراً وسهولة وقرباً إلى الفطرة السليمة، وأضمن بالفوائدالروحية والاجتماعية، وأعمق تأثيراً في النفس والمجتمع. فمن إصلاحاته الكثيرةالمتنوعة هو التحويل في مفهوم الصوم، فقد كان رمزاً للحداد والحزن، وتذكاراًللكوارث والمآسي في الديانة اليهودية - كما أسلفنا - فحوله الإسلام من هذا المفهومالقاتم الذي يغلب عليه التشاؤم، إلى مفهوم منشط مشرق تغلب عليه روح التفاؤل،وجعله عبادة عامة، يتمتع فيها الصائم بالنشاط والفرح، ويستبشر بما وعده اللهتعالى وثوابه الجزيل، ورضاه، ووردت الآيات، والأحاديث المبشرة بالثواب،المتضمنة بالفرح الطبعي تثير في الصائم هذا الشعور وهذه الثقة، فقد جاء في حديثقدسي"إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"وورد في هذاالحديث"للصائم فرحتان: فرحة عند فطوره، وفرحة عند لقاءربه"وقد أحط الصائم بجو من السمو، والخطوة، والمكانة عند الله تعالى،فقال"لخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك" وذلك جويخالف جو الحداد والمآتم والحزن والتشاؤم. وقد كان الصوم عند اليهود مرادفاًلتذليل النفس والعقوبة، وقد شاع هذا التعبير في أسفارهم وصحفهم، فقد جاء فياللوايين أو سفر الأحبار:
" ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع فيعاشر الشهر، تذللون نفوسكم وكل عمل لا تعملون، الوطني والغريب النازل في وسطكم،لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم، أمام الرب تطهرون ".
وجاء في موضع آخر." وكلم الرب موسى قائلاً، أما العاشر من هذا الشهرالسابع، فهو يوم الكفارة، محفلاً مقدساً، يكون لكم، تذللون نفوسكم وتقربونوقوداً للرب، عملاً ما لا تعلمون في هذا اليوم عينه، لأنه يوم كفارة للتكفير عنكمأما الرب إلهكم ".وجاء في سفر العدد: " وفي عاشر هذا الشهر السابع، يكونلكم محفل مقدس، وتذللون أنفسكم، عملاً ما لا تعلمون" أما الشريعة الإسلاميةفلم تعتبر الصوم إيلاماً للنفس، ولا عقوبة من الله، ولم ترد في القرآن ولا فيالسنة كلمة تدل على ذلك، بل اعتبرته عبارة، يتقرب بها العبد إلى الله، ولم تشرعمن الأحكام الغليظة المجحفة، ومن القيود القاسية العنيفة ما تجعله مرادفاً لتعذيبالنفس وإرهاقها، وحملها على ما لا طاقة له به، بل سنت التسحر، واستحبت تأخيرهإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وسنت تعجيل الفطور، وأباحتالنوم والراحة من الليل والنهار، والاشتغال بالصناعة والتجارة، والأعمال المفيدةالمباحة، خلافاً لليهودية التي فرضت الإضراب عن العمل، والانقطاع إلىالعبادة.
وكان الصوم في كثير من الديانات القديمة - ولا يزال - مختصاً بطبقة دونطبقة، فكان في الديانة البرهمية فريضة على البراهمة في أكثر الأحيان، وعند المجوسعلى العلماء والكهنوت "دستور" وعند اليونان بالإناث دون الذكور.
أما الإسلام فقدعمم وأطلق، فنزل:" فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وبجانب هذا التخصيص - الذي عرفت به الديانات القديمة - لم يستثن المعذورين، أماالإسلام فقد استثنى أصحاب العذر، وقال الله تعالى" فمن كانمنكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر"وقال"وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين".
وقد كان في بعضالديانات جوع أربعين يوماً، لا يتناول فيها الصائم غذاءاً، وبالعكس من ذلك توسعتبعض الديانات توسعاً زائداً، فاقتصرت على تحريم تناول اللحوم، وأباحت الفواكهوالمشروبات، أما الإسلام فقد جاء تشريعه وسطاً بين الشدة والرقابة، وبين الإرهاقوالإطلاق، فجاء صومه صوماً متزناً عادلاً، ليس فيه تعذيب أبدان، ولا إزهاق أرواح، وليس فيه كذلك إرخاء عنان، ولا تسريح في روح وريحان.
وكان اليهود يقتصرون علىما يأكلونه عند الفطر، ثم لا يعودون إلى أكل أو تمتع، أما العرب فكانوا لا يأكلونولا يتمتعون بالمباحات إذا ناموا، أما الإسلام فقد ألغي هذه القيود كلها، ونزلالقرآن"وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيطالأسود من الفجر" وكذلك عفي عن الخطأ والنسيان، وكذلك لا يفسد الصوم أفعالاضطرارية: كالقيء والرعاف، والاحتلام خلافاً لبعض الديانات. وكان الصوم فيأكثر الديانات القديمة مضبوطاً بالشهور الشمسية، وكان ذلك يحتاجإلى العلومالرياضية والفلكية، وإلى وضع التقاويم، ثم كانت تلك الأيام مستقرة دائمة في فصولخاصة، لا تجور ولا تنتقل.
أما الصوم الإسلامي فهو مضبوط بالشهور القمرية،ومربوط بالهلال فقد جاء في القرآن"يسألونك عن الأهلة قل هيمواقيت للناس والحج"، وقال النبي"لا تصوموا قبلرمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دون غيابة، فأكملوا ثلاثينيوماً"، وجاء في حديث آخر: "لاتصوموا حتى ترواالهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له"فاستطاع المسلمونفي مشارق الأرض ومغاربها، وفي البوادي وقلل الجبال وفي الدور الممعن في البداوةوالأمية، وفي أمكنة منقطعة موغلة في الغابات والآجام أن يبدأوا الصوم ويختموه منغير مشقة وتكلف وبحث علمي عميق، وكانت فائدته كذلك أن رمضان يدور في فصول مختلفة،من شتاء وصيف، فلا يكلف المسلمون بالصوم في حر لافح، وفي قيظ شديد، ولا في بردقارس وشتاء كالح، دائماً وفي كل سنة، فيتمتعون بتغير الفصول واختلاف الطقوس،ويتعودون كل ذلك، وهم في كل ذلك صابرون محتسبون، أو شاكرون حامدون".
ومن عرفأوضاع الصوم ومناهجه في الأمم القديمة، والديانات المعاصرة درس تاريخها وفلسفتها،وشاهد أحوال الصائمين فيها على قلتهم وتشتت أحوالهم وقارن ذلك بالصوم الإسلاميووضعه ومنهجه، وفقهه وآدابه، وأكرمه الله بالدخول في هذه الأمة المسلمة، والعملبالشريعة الإسلامية السمحة نطق لسانه بالحمد والثناء، والشكر على نعمة الإسلام،وكان حقيقاً بأن يقول وهو صائم.
"وَقَالُواْ الْحَمْدُلِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَااللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ"
إن صوم رمضانلهيئته الاجتماعية وشيوعه في المجتمع الإسلامي عرضة لأن يتغلب عليه التقليد وإتباعالعادة، وأن لا يصومه كثير من الناس، إلا مسايرة للمجتمع والبيئة، وتفادياً منالطعن والملام، وأن يشار إليهم بالبنان، ولا يرافقه الإيمان والقصد، والتفكير فيعظم شأنه وموقعه من الله وأجره وثوابه، أو يصومه بعض الناس لغايات مادية، أومقاصد صحية واقتصادية، فكان من حكمة البنوة الباهرة، وفقه الرسالة العميق أناشترط النبي صلى الله عليه وسلم للصوم المقبول عند الله الإيمان والاحتساب، فقال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم منذنبه".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين