المعين على تدبر الكتاب المبين تفسير سورة الحجرات 1

 
المعين على تدبُّر الكتاب المبين
سورة الـحُجُرات
- 1 -
يُطلُّ علينا شهر رمضان ، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، ويقبل المسلمون في هذا الشهر على كتاب الله ويُجدِّدون الصِّلة به ، وحَريٌّ بهم أن يكثروا من تلاوته ، ويتدبَّروا آياته، وأحببت أن أقدِّم للإخوة الكرام تفسير بعض السور من تفسيري :" المعين على تدبر الكتاب المبين "مع زيادة وتعديل؛ ليطَّلعوا على منهجي في التفسير ، ويقبلوا على الازدياد من علم تدبر القرآن الذي هو أشرف العلوم في أفضل الأيام والشهور .
 قال الحسن البصري: ما أنزل اللهُ آيةً إلا وهو يُحِبُّ أَنْ يُعلم فيما أُنزلتْ وما أراد بها.
وقال مجاهد بن جَبْر: أَحَبُّ الخلق إلى الله أعلمُهم بما أَنزل.
وقال ابنُ الجوزي: لما كان القرآن العزيز أشرفَ العلوم، كان الفهمُ لمعانيه أوفى الفهوم، لأنَّ شرفَ العلم بشرف المعلوم.
وقد اخترت في بداية هذه الحلقات القرآنية أن أقدِّم نماذج من تفسير سورة الحجرات التي رسمت معالم المجتمع المسلم ، وبنت العلاقات الإنسانية ، ودعت إلى تحقيق الأخوة الإيمانية وصيانتها مما يضعفها أو يهدمها،وهذه السورة هي أول السور القصار، وقد خاطب الله سبحانه فيها المؤمنين خمس مرات ، وخاطب الناس عامَّة مؤمنهم وكافرهم مرة واحدة .
وقد جمعت هذه السورة من الآداب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يأت في غيرها ، كما جمعت من الآداب بين المسلم وأخيه المسلم ما لم يأت في غيرها أيضاً، وعالجت نحو ثلاثة عشر عيباً كانت بين العرب في الجاهلية حتى نقلت هؤلاء الأجلاف من حضيض الفوضى إلى مصافِّ أرقى الأمم أدباً وترابطاً ونظاماً .ولهذا تعدُّ هذه السورة سِجِلٌّ ثمينٌ لمكارم الأخلاق.
وكان سبب نزولها عندما جاء وفد بني تميم إلى المدينة المنورة ، للمفاخرة والسعي في أسرى وسرايا بني العنبر ، وأعلنوا إسلامهم وبايعوا على السمع والطاعة ، ورغبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمِّر عليهم أحدهم ، فرغب أبو بكر أن يكون القعقاع ، ورغب عمر أن يكون الأقرع ، وتجادلا في ذلك بصوت مرتفع في المجلس ، فنزل قوله تعالى :
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الحجرات:1}
والمعنى :يا أيُّها الذين صدَّقوا الله واتَّبعوا رسوله لا تُقدِّموا قولاً أو فعلاً أمام أمر الله ورسوله ولا نَهْيهما، لا في خاصَّة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم، ولا تَسْبقُوا إلى أمر من عند أنفسكم حتى تعلموا حكمَ الله فيه، على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تقْضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالله أعلم بمصلحتكم، وما كانت أنظاركم ببالغةٍ من العلم شيئاً ممَّا علمه الله، واتَّقوا الله وتجنّبوا سخطه في تضييع حقِّه بمخالفة أمره، إنَّ الله سميعٌ لأقوالكم ، عليمٌ بنيَّاتكمُ وبأفعالكم ، وسيجازيكم عليها.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ] {الحجرات:2}
يا أيُّها الذين صدَّقوا بأركان الإيمان، وعملوا بشريعة الإسلام، لا تجعلوا كلامكم مرتفعاً على كلام النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عند مُخاطبتكم له، وبَجِّلوه وفخِّموه، واجعلوا أصواتكم أخْفض من صوته، ولا تُنادوه كما ينادي بعضُكم بعضاً، فتقولوا: ـ يا محمد ـ، بل قولوا: ـ يا نبيَّ الله، يا رسول الله ـ؛ولا تخالفوا هذه الآداب خشية أن يَبطُل ثواب أعمالكم، وأنتم لا تعلمون بذلك أدنى علم؛ لأنَّ رفع الصوت والجهر استخفافاً، قد يؤدِّي إلى الكفر المُحبط إذا ضُمَّ إليه قصد الإهانة، وعدم المبالاة.
ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كأبي بكر وعمر وغيرهما ، رضي الله عنهم :
[إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] {الحجرات:3} .
والمعنى : إنَّ الذين يخْفِضون أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويلينونها إجلالاً وتعظيماً له، أولئك الفضلاء ذَوُو المنزلة الرفيعة - الموصوفون بخفض الأصوات ولين الكلام - الذين اختبر الله قلوبَهم التي هي منبع إراداتهم، فانتهى الامتحان للنتيجة التي قُرِّرت لهم، وهي التقوى، فهم قوم أثبتوا أن تقوى الله تعمر قلوبهم، إذ امتثلوا ما أمرهم الله تعالى به، وانتهوا عمَّا نهاهم الله عنه. لهم من الله ستر لذنوبهم وعفو عنها، وثوابٌ ضخم لا مثيل له ، وهو الجنة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين