أمٌ بِأمَّـة

د: منير الغضبان

عضو رابطة العلماء السوريين

دعاني أخي الحبيب صفوان . وقال : تعال انظر خنساء إدلب وسورية . لقد فقدت ابنها الرابع ونظرت وبكيت ، ونظر

وبكى وانهمرت الدموع , فقال : إنها أمٌ بأمة
قلت أي والله . هذه قائدة أمة . هذه رائدة جيل , هذه صانعة أجيال . ما قرأناه في التاريخ عن الخنساء وأبناءها
الأربعة . ليس خبراً في كتاب . وليس حادثاً قبل أربعة عشر قرناً . إنه حي .أنظره الآن ..
إنها الخنساء حقاً بأبنائها الأربعة.
سندعو  العالم كله ليرى ويسمع . لقد فقدت أربعاً من قرة العين وأصرت على قولها : لا والله لن نحيد عن الطريق.
ولن نتراجع عنه . إنه طريق الجنة . إنها تتم رسالة الخنساء الخالدة التي ملأت الدنيا شعراً وبكاء على أخويها
معاوية وصخر وكل ديوانها ورثائها كان بهما . حين لم يكن عندها يوم آخر , ولم يكن عندها جنة , ولم يكن لديها
رسالة . كل ما كان لديها الذكر والفخر والحمية فأمتنا عزيزة كريمة في جاهليتها وإسلامها
أما وقد دخلت الإسلام وآمنت بالله ورسوله ، واليوم الآخر والجنة والنار فقد غدت إنساناً آخر . ويأتي المأفونون
ليقولوا : إنها خرافة . فماذا قالت وماذا قيل لها وعنها رضي الله عنها
لقد أوصت أولادها ليلة القادسية قائلة :
يا بني إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، و والله الذي لا إله غيره إنكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم
ولا فضحت أخوالكم ولا هجنت أحسابكم ، ولا غيرت نسبكم . وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب
الجزيل في حرب الكافرين . واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، يقول الله عز وجل
(( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )). فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله
سالمين .فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين . وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت
عن ساقها واضطربت لظى على ساقها . وجللت ناراً على أوراقها . فتيمموا وطيسها و جالدوا رئيسها
تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد
فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم . واندفعوا إلى لقاء العدو
 فقال أولهم :
 
يا أخوتي إن العجوز الناصحة ------ قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالةً ذات بيان واضحة   ------- فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تلقون عند الصائحة ------- من آل ساسان الكلاب النابحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة ------- وأنتم بين حياة صالحة
 
أو ميتةً تورث غنماً رابحة
فتقدم فقاتل حتى قتل
فحمل الثاني يردد :
 
إن العجوز ذات عزم وجلد ------- والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد -------- نصيحةً منها وبراً بالولد
فباكروا الحرب حماةً في العدد ------ إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد --------- في جنة الفردوس والعيش الرغد
ثم تقدم فقاتل حتى استشهد
فحمل الثالث وهو يقول :
والله لا نعصي العجوز حرفا ----- قد أمرتنا ضرباً وعطفا
فبادروا الحروب الضروس زحفا ----- حتى تلفوا آل كسرى لفا
إنا نرى التقصير منكم ضعفا ----- والقتل فيكم نجدة وزلفا
ثم تقدم وقاتل حتى قتل
فحمل الرابع وهو يرتجز :
لست للخنسا ولا للأخرم ------ ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم ---- ماض على الهول خضم خضرم
إما لفوز عاجل ومغنم ----------- أو لوفاة في السبيل الأكرم
ثم تقدم فقاتل حتى قتل
ولما بلغ الخبر إلى الخنساء ، وحمل لها أولادها الأربعة قتلى . قالت :
الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم ، وأرجوا من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
خنساؤنا اليوم نراها صوتاً وصورة ، أكرمها الله بأن زوجها سقط شهيداً على يدي الجزار الأكبر حافظ أسد سليل
وحليف آل ساسان والأعاجم وآل كسرى.وهاهم أبناؤها الأربعة يتساقطون الواحد تلو الآخر شهداء على يدي أكابر
مجرميها الجزار بشار ابن الجزار حافظ أسد
وهانحن نسمعها وابنها الشهيد الرابع بين يديها تمسح وجهه وتقول : الله يجمعني بهم في الفردوس الأعلى
وتفخر بهم أن ساروا على طريق أبيهم المجاهد ثم تحدد طريقها، لتسمع أمم الأرض كلها.
والله عن هالطريق ما حايدين إما النصر وإما جنة الفردوس.
بل تصر على أحبابها وأفلاذ أكبادها الأربعة قائلة في عالم الخلود
قد ربيتكم لمثل هذه المواقف . وسنحرق كبد آل الأسد كما حرقوا كبدنا ونحن واثقون من نصر الله
فلقد جمعت كل معاني خنسائنا الصحابية ..ببساطة الإيمان ومدرسة
الإيمان الواحدة . التي انتظمها جيل بعد جيل حتى برزت في قرننا الخامس عشر بهذه الأمة العظيمة
. وبمثيلاتها من الأمهات العظيمات بالآلاف وهم يرددون نفس الهتاف ويرددون النداء نفسه
النصر أو الشهادة في سبيل الله
هذه الخالدة العظيمة وبناتنا وأخواتنا الخالدات العظيمات وشبابنا الشهداء العظماء يؤكدون جميعاً
أن الأمة قد ولدت من جديد
قبل أربعين عاماً تماماً . في المركز الثقافي في التل . ألقيت محاضرة عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله
. وذكرت هذه القصة كاملة قصة الخنساء وأولادها الأربعة . وقصارى ما كنت آمل فيها أن يتفاعل هذا الجيل
ويفتخر بعظمائه وعظيماته , وأن نعيد نفخ روح العزة والكرامة في هذه الأمة ، وتفاعل الحاضرون وصفقوا
وهتفوا . واعتبرنا أن هذا الجيل لن يتكرر ، ويكفينا الفخر بهذه الأعصر الذهبية
لم يكن يدور بخلدي . حتى بعد أن حرمت من وطني وترابه خمسة وثلاثين عاما . أن أمثال هذه المحاضرات آنذاك
أنها ستلد أمة بعد أربعين عاما تحمل لواء الجهاد والاستشهاد ، في ثورة فاقت ثورات الأرض
كلها بالثبات والتضحية، يخرج نساؤها وأطفالها وشبابها وشيبها ليقولوا للظالم ( لا ) بملء فمهم
كما علمهم عمر رضي الله عنه بقوله : ( يعجبني الرجل إذا سيم خسفاً أن يقول بملء فيه لا )
وأن تعود الأمة التي وعد بها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام :
(( ولتأخذن على يد الظالم ، ولتقصرنه على الحق قصرا. ولتأطرنه على الحق أطرا ))
ويحسب الطغاة اليوم أنهم أكبر من أن تنالهم يد الله ، فيقتلون لا بأيديهم فهم أجبن من ذلك . يقتلون الأطفال
بأيديهم . نعم . لكن الرجال الأبطال والنساء العظيمات يقتلون بالصواريخ والطائرات والدبابات، وهم متحصنون
بها لكنهم يهزمون في كل مقتلة وبعد كل مجزرة , فيخرج لجهادهم من تخلف ويخرج لقتالهم من قصر.
أما الأمة كلها والشعب السوري كله الذي تربى على هذه الأخلاق منذ خمسة عشر قرناً يصرخ ويهتف
الشعب السوري ما بينذل ... لن نركع إلا لله ... الموت ولا المذلة .... بالملايين بالملايين على الجنة رايحين
لقد تعاقد شعبنا كله على الموت دون عزته وكرامته ودون دينه ومقدساته . وسيرى العالم جيل الصحابة
ينبعث من جديد
(( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ))
(( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ))
والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين