علم التوحيد

الشَّيخ علي الطنطاوي قاضي دمشق

لقد علَّمت في الكلية الشرعية في دمشق، والكلية الشرعية في بيروت، والكلية الشرعية في بغداد، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، وكلّها قد أُنشئ على غرار معاهد الأزهر وكلياته ، وكلّها يتبع مناهج قريبة من مناهجه ، فكنتُ أعجب من القائمين عليها كيف يُهمِلُون (علم التوحيد) ، ويسمّون باسمه، ويقيمون مقامه (شيئاً) هو أبعد عن التوحيد من الأرض عن السّماء ، مع أن التوحيد من الدّين؛ بمقام الرُّوح من الجسد، وأنَّه أول أغراض الرّسل جميعاً ، وأعظم مقاصد القرآن، ولأجله بُعِثَ الأنبياء، وشُرِعَت الدِّيانات.
والذي يُقرَأ اليوم على أنَّه توحيد مما اشتملت عليه العقيدة النّسفية وأمثالها - ولا أستثني من ذلك رسالة الشيخ محمد عبده - لا يكاد يُقوِّي عقيدةً، ولا يُثَبِّتُ إيماناً، ولا يبعثُ في النَّفس خشية الله، ودوام مراقبته، ولا يدفع إلى إخلاص في عبادة، ولا يُذيق صاحبه حلاوة الإيمان، يخاطب العقل بالمنطق، وكان مِن حقِّه أنْ يخاطب القلب بالشُّعور، وربّما انتهى إلى جدل عقيم لا يلِدُ فائدة، ولا يُنتِج نفعاً، وأعجبُ ما فيه رواية شُبَه أقوام انقرضوا، وتلقين الطالب ضلالاتهم (وكفرياتهم) التي لم يبقَ اليوم أحد على ظهر الأرض يَعرِفُها أو يقول بها.
ولقد كان المسلمون الأوَّلون، وهم أئمّة الدِّين، وصفوة المؤمنين، لا يَعرِفُون من علم التوحيد، إلا الآيات التي أنزلها الله في القرآن، أقبلوا عليها تلاوة خاشعة، وعلماً وفهماً، فأعطاهم الله بها إيماناً ثابتاً ظهر في كلِّ حركة من حركاتهم، وسكنة من سكناتهم، وكانوا يعلمون أنَّ للإيمان شُعَباً تجمع مطالب الخير والحقّ كلّها، فكانوا متمسّكين بشُعَبه جميعاً1().
منها تنزيه الله عن الشريك، وإخلاص العبادة والدّعاء له، وابتغاء الخير منه، والاستعانة (فيما وراء الأسباب) به وحده، إلى ما يبدو أنَّه أيسر أعمال الخير ؛ وهو إماطة الأذى عن الطريق.
وكانوا لا يأتون المحرَّمات، لأنَّه (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن، وكيف يزني وهو (مؤمن) بأنَّ الله مطَّلع عليه، وناظر إليه؟
هل يستطيع أن يزني مَن يعلم أنَّ أباه أو أستاذه قائم في شُبّاك ينظرُ إليه، وكانوا أهل نظافة وطهارة في ثيابهم، وأجسادهم ومساكنهم، وألسنتهم لا يُدنّسونَها بالخنا، وأعمالهم لا يُوسِّخُونها بالغشّ والرياء والفسوق والعصيان، لأن (النظافة من الإيمان).
وكان في عصرهم مخالفون من كلِّ نِحلة ومذهب، فما ضرَّهم في إيمانهم ومناظرتهم لخصومهم أنَّهم لم يدرسوا علم الكلام، ولم يعرفوا منطق أرسطو ، ولم يقرؤوا النّسفيّة، ولا ما يُشبه النسفية، وما احتاجوا أن يسلكوا في جدال هؤلاء المخالفين والرّدّ عليهم غير مسلك القرآن الكريم.
ومرَّ على ذلك القرن الأول، وهو خير القرون، وشيء من الثاني، ثم تجمَّعت في الأُمّة طائفة المتكلِّمين من المعتزلة، وقد أجمعت كلمة العلماء في عصر نشأتهم على إنكار بدعتهم، وتقبيح نِحلتهم على ما كان لهم من إخلاص في نيّة الذّبّ عن الإسلام، وثباتٍ في مواقف الدِّفاع، وبصر بصناعة الجدل، وما كان لهم من سَعةِ علمٍ، وحدَّة نظر، وروعة بيان.
واتفق أنَّ إماماً من أئمَّتِهم، ولساناً من لُسُنِهِم، ترك الاعتزال، ورجع إلى الجماعة، ولكنَّه حمل معه تفكيره وأسلوبه وطريقتَه، وهو أبو الحسن الأشعري، فلم تتحوَّل هذه الطريقة حتى تصير سلفية قرآنيّة، ولكن تحوَّلت طريقة السَّلَف به فصارت منطقية عقلية، واختفى بذلك التّوحيد الذي كان مصدره ومردّه إلى آيات القرآن لا يُعرف غيرها، ولا يُعتمَد إلا عليها، ونشأ علم الكلام الذي يَعتمِد على منطق أرسطو.
والغريب أنَّ هذا العلم الذي نُسمّيه خطأ بـ (علم التوحيد) ، وندرس في مدارس الدّين ، ونشغل به الطّلاب، ونأخذه على أنَّه طاعة من الطَّاعات، وقربة من القربات قد كرهَهُ علماءُ الملَّة ، وأئمَّة الإسلام، ولما وصل المصري الذي أرسله ابن العاص إلى عمر بن الخطاب وجدَهُ يتكلَّم في شيء يُشبِه علم الكلام اليوم بسؤاله عن معنى الاستواء وأمثال ذلك مِن المتشابه ؛ ضربَه ونفاه ، وأمر النَّاس بمقاطعته، مع أنَّ ما ضربَه لأجله هو ما تمتَلِئ به كتب علم الكلام الذي نسميه بـ " علم التوحيد " .
ومالكٌ لما سُئِلَ عن ذلك ؛ عدَّ السؤال بدعة، وجوابه مشهور معروف.
ونهى أبو حنيفة ابنَه عن مناظرة رجلٍ كان يناظره في القَدَر ، وأمره ألا يعود، ومنع أصحابَه من الصَّلاة خلف رجل كان يتكلَّم في خلق القرآن ، وآخر كان يردّ عليه، فقيل له : الأول يُنكِر قِدَم القرآن، فما بال الآخر؟ قال: يُنازِع في الدِّين، والنّزاع في الدّين بدعة ، ورُوي عنه النَّهي عن الصلاة خلف أصحاب الكلام.
وقال الشافعي: حُكمِي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنَّعام ، ويطافُ بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء مَن ترك الكتاب والسّنّة، وأقبل على كلام أهل البدعة .
ونُقِلَ عنه أنَّه قال: (لأن يلقى العبدُ اللهَ بكلٍّ ذنب خلا الشّرك ؛ خيرٌ له من أنْ يَلقَاه بعلم الكلام ) .
وقال: ( إذا سمعتم الرّجل يقول : الاسم هو المسمّى أو غير المسمّى ؛ فاشهدوا أنَّه من أهل الكلام).
وقال أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة، وقال: لا يصلح صاحب الكلام أبداً.
وقد يقول قائل: إن هذا كلّه فيمن جاء بما يُخالف نصوص القرآن وظواهره من المعتزلة وأشباههم ، فما يقولُ هذا القائل فيما رُوِي عن جماعة نَعدُّهم اليوم من أكابر علماء أهل السّنّة والجماعة، مارسوا علم الكلام حتى صاروا الأئمّة فيه، وصرنا نأخذ عنهم أكثر ما تُملأ به كتبنا التي ندرسها في معاهدنا وكلياتها، ثم ندِموا واستغفروا، وتابوا وأنابوا، أوَّلهم الأشعري ذكر في كتاب: " الإبانة "، وهو آخر كتاب ألَّفه: أنَّه رجع في عقائده إلى مذهب أحمد بن حنبل([2) .
ورجع الغزالي إلى مذهب السَّلف، ذكر ذلك في كتابه: " إلجام العوام "، وأعرض عن تلك الطُّرق جملة حتى مات والبخاري على صدره([3).
والرازي قال:ولقد تأمّلت الطّرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطّرق طريق القرآن.
اقرأ في الآيات:[الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] {طه:5}. [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ] {فاطر:10}. واقرأ في النفي:[ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] {الشُّورى:11}. [وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ] {البقرة:255}. إلى أن قال: ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل علمي.
وهو القائل:
نهاية إقدام العقول عقال=وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نَستَفِد من بحثنا طول عمرنا=سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
والشهرستاني يقول في الفلاسفة والمتكلِّمين:
لعمري لقد طُفتُ المعاهد كلَّها=وسيَّرتُ طرقي بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كف حائر=على ذقن أو قارعاً سنَّ نادم
وأبوا لمعالي الجويني قال: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغُ بي إلى ما بلغ ؛ ما اشتغلتُ به ، وقال عند موته: لقد خُضتُ البحر الخِضَمّ، وخليت أهلَ الإسلام وعلومهم، ودخلتُ في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويلُ لابن الجويني.
إلى أن قال: وهأنذا أموتُ على عقيدة عجائز أهل نيسابور.
وقال الخسروشاهي وهو من أجلِّ تلاميذ الفخر الرّازي لبعض الفضلاء: ما تعتقد؟
قال: ما يَعتَقِدُه المسلمون. قال: وأنت منشرحُ الصّدر لذلك ، مستيقن به؟
قال: نعم، قال: احمد الله على هذه النّعمة ، فإنِّي والله ما أدري ما أعتقد. وبكى حتى اخضلَّت لحيتُه.
وقال الخونجي عند موته: ما عرفتُ شيئاً مما حصَّلتُه سوى أنَّ الممكن مفتَقِرٌ إلى المرجِّح. ثم قال: الافتقارُ وصفٌ سلبيٌّ، أموتُ وما عرفتُ شيئاً.
وقال آخر: أضطَجِعُ على فراشي ، وأضعُ الملحفة على وجهي، وأقابلُ بين حجَج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ، ولم يترجَّح عندي شيء منها.
فأين بعد هؤلاء ؟ وهؤلاء هم أعلام الكلام في الإسلام؟.
هذا هو علم الكلام الذي نشتغل به اليوم، نشتغل بالصّفات وهل هي عين الماهية أو شيء زائد عنها ؟ والأعراض وهل تبقى زمانين ؟ والطّفرة والاستطاعة وخلق القرآن ، وأشياء أخر قرأتُها من قديم ونسيتُها ولله الحمد.
وليس بعض مَن يُسمّون أنفسهم بالسلفيِّين على خيرٍ من هذه الحال، فهم يَشتغلون بالمتشابه الذي ضرب عليه إمام السَّلف الصَّالح عمر بن الخطاب t، ولا دأب لهم إلا الكلام في اليد والوجه والاستواء، يُنكرون التَّأويل وهو من سنن العرب في كلامها، والقرآن أُنزِل بلسان العرب، ولا يَعرفون كيف يَخرجون مما أَدخَلُوا نفوسهم فيه من هذه المضايق، فيقع الجهلة منهم بالتَّجسيم وهم لا يَدرون، ويأتون على ادِّعائهم السلفيّة بما لم يَعرفْهُ السَّلف من مثل قوله: الله بائن من خلقه، وإلزامهم صِغار الطَّلبة والمبتدئين بحفظ ذلك واعتقاده.
فهل هذا هو التوحيد الذي بَعثَ الله به محمداً؟ هل هذا هو الطَّريق الذي سلكه النبي rفي الدَّعوة إلى الله؟ أمبتدعون نحن أم متَّبِعون؟ ومُصلِحُون نحن أم مفسدون؟.
إني أرجو من أستاذنا وصديقنا الأديب المصلِح السيد الخضر، شيخ الإسلام، علماً ومنصباً أن يأمر بتعديل المناهج ، وإلغاء هذه الكتب جملة واحدة، وأن يَجعل علم التّوحيد مقصوراً على إفهام الطّلاب آيات التوحيد في القرآن، على إفهامها ولم أَقُل على تفسيرها، لئلا يدخل من باب التفسير شيء مما في تفسير الفخر وأمثاله ، وأن يتولَّى ذلك مدرّس حاضر القلب، قوي الإيمان، من المسلمين الصادقين، والعلماء العاملين، يعلِّم بفِعَاله أكثر مما يعلِّم بمقاله، ويُصلح بصلاح نفسه أكثر مما يُصلح بنجاح درسه، وأن يكون المنهج منهج الرسول rفي تلقين التَّوحيد لمن كان يَفِد عليه من الكبار، يُقيمون اليوم أو الأيام، ويَسمعون الحديث أو الأحاديث، فينصرفون وهم مؤمنون، وهم عارفون بالإسلام، وهم دُعاة إلى الله، وما تعلَّموا منطق أرسطو، ولا ناقشوا في رؤية الله في الآخرة، ولا لقنوا أنّه بائن من خلقه؟!.
وأن يتفرغ بعد ذلك بعض كبار الطَّلبة لدراسة علم الكلام الذي ينبغي أن يُوضع من جديد، العلم الذي يَرُدّ على الخصوم الأحياء من الشيوعيين ، والقوميين الملحدِين ، والقاديانية ، والأحمدية ، والبهائية ، والتيجانية، يدرّس مقالاتهم المعادية للإسلام، ويُبيِّن ضعفها وفسادها، ولا يشتغل إلا بالشُّبَه الذَّائعة المنتشرة ، وإلا كان عوناً للعدوّ علينا، ومذيعاً لضلالاتهم فينا، وينبغي أن تعيّن الطوائف التي يجب الرّدّ عليها في مطلع كلّ سنة مدرسة ، وأن يترك الرّدّ على الجَهمِيّة، والمعطِّلَة والمشبِّهَة ، وما لا أذكره الآن من ألقاب المخالفين إلى الأبد!
وبذلك نكون قد دعونا إلى الإيمان، ودافعنا عن الإسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
1 ـ أحسن مرجع في هذا المعنى مقالات الأستاذ الكبير محب الدِّين الخطيب في الفتح.
2 ـ التعليم والإرشاد للحلبي ص 170 ، طبع مصر 1906
3 ـ شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص5 ، طبع مصر 1323
يرى الموقع أنه من المفيد مطالعة المقالة التالية
 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين