وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ : بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ

د. محمود نديم نحاس

وتسألني وهل هناك من يئد البنات اليوم؟ فأقول لك: إن وأد البنات كان عادة عند العرب قبل الإسلام، وكانوا يعملون ذلك خوف العار أو الفقر. وكان ذلك يتم بصورة فردية، ولم نسمع بعملية وأد جماعية تمت في ذلك التاريخ الجاهلي.
 
لقد ذكر القرآن الكريم تلك الفعلة الشنيعة في معرض الحديث عن أهوال يوم القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل, يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار, والأرض والسماء, والأنعام والوحوش, كما يشمل بني الإنسان، وأوضاع الأمور، حيث ينكشف كل مستور, ويُعلم كل مجهول، وتقف كل نفس أمام ما أحضرت من الرصيد في موقف الفصل والحساب. وفي ذلك المشهد الذي يخلع النفس يذكر ربنا سبحانه وتعالى أن الموؤودة ستُسأل عن وأدها! فكيف بوائدها؟
 
إن ذكر ذلك الفعل في سياق الهول الهائج من الأحداث العظيمة يشير إلى أن الوأد أمر عظيم عند الله، وأن من قام به لن يفلت من العقاب! كيف لا وقد قام بإزهاق نفس بغير ذنب؟ فالكائن الإنساني الذي يحمل نفخة من روح الله العلي القدير له تقدير خاص عند رب العالمين، وله كرامته التي يجب أن تُصان ولا يُسمح لأحد بالاعتداء عليها. ومن ثمَّ يأتي ذكر جهنم ليزداد لهيبها ووهجها وحرارتها، كما تقرّب الجنة وتظهر لأهلها الموعودين بها، وعندها تعلم النفوس حقيقة ما أحضرت، يوم لا تملك أن تغير منه شيئاً، لا زيادة ولا نقصاناً. فيأتي التذكير في ختام السورة ليبين أن الاستقامة متاحة الآن لمن أراد، وليوضح للناس جميعا أن الإنسان مسؤول عما يعمل فليواجه العقاب أو الثواب.
 
لم يأتِ في بالي وأنا أشاهد المجزرة المروعة في مدينة الحولة السورية إلا هذه المشاهد القرآنية التي تصف أهوال يوم القيامة! فكيف لمن نفّذ تلك المجزرة أن ينجو من عذاب رب العالمين؟ بل إن الخواطر ترد ليسأل الإنسان نفسه: هل أنا شريك في تلك المجزرة؟ فأنا شاهد عليها ولكني لم أفعل شيئاً لوقفها أو لعدم تكرارها في مكان آخر؟ وإذا كانت الموؤودة ستسأل فكيف بالألوف الذين أزهقت أرواحهم وهم يقولون ما قاله ابن آدم لأخيه (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ. إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
 
لكن سرعان ما يتذكر الإنسان وعد الله بنصر المستضعفين وبإهلاك الظالمين ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ. ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾. وفي الحديث (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾).
 
تذكّرنا هذه المجازر الشنيعة بما حصل لأصحاب الأخدود الذين ابتلوا بأعداء طغاة أشرار، أرادوهم الارتداد عن دينهم، فأبوا وتمنعوا. فشقوا لهم شقا في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبّوهم فيه فماتوا حرقا، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرعهم بطريقة بشعة. لكن الله سبحانه بعد أن ذكر قصتهم في القرآن ذكر بطشه الشديد في مقابل بطش الأقزام المتطاولين على رقاب العباد.
 
وأختم بما ختمت به مقالاً سابقاً عن فظائع الهوتو والتوتسي فقلت: لاحقاً ظهرت أفلام تحكي المأساة. فكم أنفق المخرجون من أموال ليمثّلوا الوقائع؟ لكن مآسي اليوم تصورها كاميرات الجوالات، وترسلها إلى اليوتيوب أولاً بأول، لتسهِّل عمل المخرجين الذين سيوضحون للأجيال القادمة كيف تُقتل النساء في الشوارع، وكيف يُعذَّب الأطفال بلا رحمة، وكيف يتم قطع أعضائهم التناسلية في مشهد مأساوي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين