نسبية السعادة في حياة الإنسان - أتقان فن الحياة
نسبيَّة السعادة في حياة الإنسان
الدكتور: محمد علي الهاشمي
السعادة شعور عميق بالطمأنينة والرضا والقناعة، يغمر النفس الإنسانية، ويفيض على وجه الإنسان، فإذا هو مفترّ الثَّغر، مشرق القسمات، متألق العينين، يرنوا إلى الدنيا فيراها جميلة شائقة، وينظر إلى الناس فيراهم أعزّة أحباباً.
بيد أن عمق هذا الشعور وأثره في النفس الإنسانية، يتفاوت تبعاً لسعة أفق الإنسان وعلمه وغناه.
فالإنسان الذي لم يكن له حظٌّ من العلم، تراه يقنع بالصغير من المنصب، ويرضى بالخشن من العيش، ويطرب للرخيص السمج من ألوان اللهو والمرح.
فإذا ما زكا فكره، واستنار عقله بأشعة المعرفة، تيقَّظ فيه الطموح، وتطلّع إلى المنصب الرفيع، و إلى الرافه الخفض من العيش، وسَمَا ذوقه ورقَّت مشاعره، فلم يعد يطرب للنكتة الباردة، ولا يسعد باللهو الُمْبَتَذل الرخيص.
لقد اتسع حوض لذته ـ كما يقول الغربيون ـ وأصبح لا يملأه إلا الكثير، وقد كان ـ وهو جاهل ـ كالطفل يملأ حوض لذته القليل، وكبرت نفسه وبعدت غايته، فأصبح يرى أن ما يجتنيه من قطوف اللذّات ناقص مهما كان... وهذا ما ينغص على المتعلم سعادته، ويجعله عرضة للشقاء والألم، كما يقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله      وأخو الجهالة في الشَّقاوة ينعمُ
لقد أصبح أقدر على تذوق اللذة، وأكثر إحساساً بالألم ، فإذا ما ابتسمت له الأيام ، ورقَّت حواشي الدهر، وطُوِّعت له الأماني، كان أسعد حالاً من الجاهل، أما إذا تجهَّمت له الأيام، وشَمُسَتَ عليه المقاصد، كان أشقى من الجاهل وأتعس.
ونجد هذا التفاوت في نسبة السعادة بين الفقير والغني أيضاً.
فقد يكون الفقير الذي لم يدخل إلى يده إلا قليل من المال سعيداً مرحاً هانئاً في عيشه، يرى السعادة في قليل من معطيات الحياة ووسائل رفاهيتها، حتى إنك لو سألته عن رغبته في المزيد من المتاع لأجابك بالنفي، قانعاً مكتفياً بما هو فيه.
ولكنه إنْ درَّتْ عليه أخلاف الرزق، واتَّسعت خزائنه للملايين، استيقظ فيه الجشع وضاقت الدنيا بعينه على سَعَتها، وقلَّ المالُ في يده على وفرته، وإذا هو يطلب المزيد منه، فإذا لم يتوافر له المزيد كان في شقاء وحرمان وضيق، وقد يركب المخاطر ويقطع الفلوات في سبيل الحصول على هذا المزيد، إذا ضاقت به دياره، أو خُيِّل إليه ضيقها، وما هي بضيِّقة، ولكن صحَّ فيه قول الشاعر :
لَعَمْرُكَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها       ولكنَّ أخلاقَ الرجالِ تضيقُ
وهكذا كلما زادت معارف الإنسان، واتَّسع نطاق مرئياته وتجاربه، وازداد إحساسه بالجِدَة والسَّعة والرخاء، تطلبت نفسه مزيداً من عناصر السعادة ومقوماتها، وكانت قبل ذلك تقنع منها بالقليل، كما يقول أبو ذؤيب الهذلي :
والنفس راغبةٌ إذا رغَّبتها    وإذا تُرَدُّ إلى قليل ٍتقنعُ
وكلما أوغل الإنسان في بيداء الحياة، وجرى وراء متعها وحظوظها، كانت سعادته أعسر منالاً، وأندر وجوداً، بل إنَّ الفقير قد يكون في كثير من الحالات أسعد حالاً من صاحب الملايين الشَّره إلى المال والمتاع واللذة، على خشونة عيش الفقير وضيق عالمه ونضوب موارده، ذلك أن السعادة نسبيةٌ نفسيةٌ في آن، فما يُترع نفسّ الفقير بالسعادة لا يملأ حيزاً صغيراً من نفس هذا الغني اللاهث وراء الدنيا ولا يرضيه.
وملاك أمر الإنسان العاقل في هذه المسألة أمور ثلاثة:
أولاً: الاعتدال في الإقبال على الدنيا، بحيث يبقى متماسكاً أمام بريقها الخُلّب، ومتاعها القليل، وحياتها الفانية، وبحيث لا يزايله شعور الإنسان المؤمن بأنَّ هذه الحياة ليست كل شيء، بل هي بعض الشيء الذي يكدح إليه الإنسان :{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولعبٌ وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون }[سورة العنكبوت:64]. {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا }[سورة العنكبوت:77].
ومتى استقرت فضيلة الاعتدال في النفس الإنسانية، برزت إلى جانبها القناعة، فإذا شمسُ السعادة تشرق على النفس الإنسانية، فتغمرها بالبهجة والرضا والطمأنينة.
ثانياً: أن يدرك حقيقة رسالته في الحياة، وهي أن يعمر الحياة بالمثل العليا، من إيمان بالله، وتواصٍ بالحق، وتعامل بالحب والإيثار.
فليس الإنسان حيواناً يعيش ليأكل ويشرب ويستمتع بلذائذ الحياة، فهذا شأن الكفرة والعصاة الشاردين عن هدي الله وطاعته الذين قال الله فيهم : {والذين كفروا يتمتَّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنارُ مثوى لهم }[سورة محمد:12] . وإنما هو إلى جانب استمتاعه الماديِّ إنسانٌ يحبُّ الخير لغيره كما يحبه لنفسه، ويشعر بالسموِّ كلما أدخل السرور على قلوب البؤساء والضعفاء وذوي الحاجات، ويحسّ الراحة تسري في كيانه كلما أدّى شيئاً من رسالته الإنسانية في الحياة، وفي ذلك كله سعادٌة له أيُّ سعادة.
ثالثاً: أن يَرُوضَ نفسه على التفاؤل والبِشر والابتسام والتسامح، فالله تعالى خلق الحياة جميلة باسمة مشرقة خيّرة، والإنسان أحد أبناء الحياة، طبعه الله أيضاً على التفاؤل بالخير والابتسام للحياة، ولو لم يرتكس الإنسان في حمأة الطمع والشر والأنانية لما كان نشازاً في نغمات موكب الحياة، ولكان في أغلب حالاته مبتسماً متفائلاً، مستبشراً راضياً سعيداً.
إن السعادة نسبية في حياة الإنسان، والحياةُ فنٌّ إذا أتقنه الإنسان كان جديراً بجني السعادة، وإنَّ جَنَاها لَدَانٍ منه قريبٌ.
"ومضات الخاطر"
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين