الرجاء والخوف ـ 8 ـ

الشيخ مجد مكي

ما زلنا نتابع الحديث عن سعة مغفرة الله عزَّ وجل، ونورد في هذه الحلقة من سلسلة الرجاء هذا الحديث القدسي العظيم الذي يبعث الأمل في القلوب والرجاء في النفوس.

روى الترمذي (3540)، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: يا ابنَ آدم: إنَّك ما دعوتَني ورجَوْتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي.
يا ابنَ آدم: إنك لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ـ أي: السحاب ـ ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.
 يا ابنَ آدم: إنك لو أتيتني بقُراب الله خطايا ـ أي: ما يقارب ملأها ـ ثم لقيتني لا تشرك بك شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة»
وفي هذا الحديث القدسي نداءان من الغفور الرحيم لعباده:
النداء الأول: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك..) وفي هذا النداء بيان لسببين من أسباب المغفرة ، وهما: الدعاء والرجاء، دعاؤك إيَّاه بالمغفرة والتَّجاوز عما فرط منك مع رجائك الإجابة منه، وعدم القنوط إن تأخَّرت الإجابة.
و(ما) في قوله: «ما دعوتني» مصدرية ظرفية. والتقدير: مدَّة دوام دعائك، فيستفاد من هذا التقدير ضرورة المداومة على الدعاء والإلحاح، وأنت ترجو من الله الحصول على المطلوب، فكن له راجياً يكن لك معطياً.
ومعنى قوله: «ولا أبالي» أي: لا تهمُّني كثرة ذنوبك، ولا يعظم عليَّ مغفرتها: [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] {الزُّمر:53} إلا الشرِّك به:[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48}.
والنداء الثاني: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني...) والمراد بالاستغفار: التوبة النَّصوح.
 وفي هذا النداء الربَّاني يفتح الله عزَّ وجل لعباده باب الرجاء فتحاً كبيراً، فَيُصَوِّر له كَثْرةَ ذنوبه كثرةً فاحشة بحيث إنَّها بلغت وعمَّت ما بينه وبين سَحَاب السماء، ثم تاب إلى الله توبةً صادقة، فإنَّ الله يغفر له هذه الذنوب الكثيرة ولا يبالي سبحانه بكَثْرتها.
والمغفرة: وقاية شرِّ الذنوب مع سَتْرها، فالمغفرة من الله تقي صاحبها من شرِّ الذنوب، وذلك بسَتْر الله لها.
والتوبة: العودةُ والرجوع إلى الله عزَّ وجل، ولتكون توبةً صادقةً ينبغي أن تستوفي شروطها وهي ثلاثة: الإقلاع عن الذنب في الحاضر، والندم على ما فرط منه في الماضي، والعزم على ألا يعود في المستقبل.
ومن سَعَة مغفرته سبحانه أنه يغفر لبني آدم خطاياهم المتواصلة في الليل والنهار، من كبائر أوصغائر، أو فرطات أو تقصيرات، إذا هم استغفروه.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجل أنه قال:« يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم» رواه مسلم(4674).
وأفاد هذا الحديث ـ وهو مشاهَدٌ من أنفسنا ـ أنَّ هذه الآثام والذنوب كثيرة مستمرة لا تنقطع، ليل نهار، ولكنَّ عفو الله تعالى ومغفرته أعظم وأوسع، ولذلك تمدَّح الله عزَّ وجل بقوله عقبه:«وأنا أغفر الذنوب جميعاً». ينظر: (من صحاح الأحاديث القدسية) ص29.
***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين