الميزان الرباني ـ 2 ـ

الشيخ: مجد مكي

إننا أمام دعوات ومبادئ كثيرة مختلفة، هذه تجرُّنا إلى اليمين، وتلك إلى اليسار، وهذه تُشرِّق وأخرى تُغرِّب، فماذا يصنع الإنسان أمام المبادئ والأفكار والقيادات؟
إنَّ الناس إذا اختلفوا في طول قطعة قماش، أو ثقل مقدار من الطعام، يحتكمون إلى معيار اتفقوا عليه، كالمتر مثلاً في قياس الأبعاد، والأطوال، والكيلو غرام، أو الرطل في تقدير الموزونات، واللتر والقدم في تقدير المكيلات... فيرتفع الخلاف وينحسم النزاع.
وهذا ما يجب أن نصنعه أيضاً في الأمور المعنويَّة، لابد من ميزان نتفق عليه ونحتكم إليه، في أفكارنا و آرائنا و قيمنا.
ولكن من الذي يصنع هذا الميزان الدقيق الذي توزن به الأقوال والمذاهب، وتقاس به النِّحل والمعتقدات، ويُعرف به الرشد من الغي، والهدى من الضلال.
إنَّ هذا الميزان في أيدينا، وليس هو من وضع البشر، فالبشر أعجز من أن يضعوا مثل هذا الميزان، إنه ميزانٌ منزَّل من السماء إلى الأرض، من الخالق إلى الخلق:[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] {هود:1}.: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي).
بل إنَّ مهمة الرسل الأساسية أن يضعوا هذه الموازين والمعايير للبشر، ليتحكموا إليها إذا اختلفوا، ويرجعوا إليها إذا انحرفوا، وفي القرآن الكريم: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {البقرة:213}.:[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ] {الحديد:25}.
ولكن العجيب أننا لا نحتكم إلى هذا الميزان الرباني وهذا المعيار السماوي، إلى الإسلام الذي أكرمنا الله بن، ورضيه لنا ديناً، بل نبذناه وراء ظهورنا، وطفقنا نلتمس الفتوى والحكم من غيره، (ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله).
ولعل سائلاً يقول: أيلزمنا أن نحتكم في كل أفكارنا وآرائنا إلى الإسلام والقرآن؟
والجواب: نعم بمقتضى إسلامك إلى الله ورسوله فهذا معنى: (لا إله إلا الله محمد رسول الله ). فإنَّ رضاك بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن إماماَ، يقتضيك الاحتكام إلى الله ورسوله وكتابه، فيما تنازع الناس فيه وفيما يشكل عليك.ولا يصح بغير هذا إيمان أبداً:[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] {الأحزاب:36}.
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.
[وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ] {الشُّورى:10}.
[فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ] {النساء:59}.
ولعل قائلاً يقول: إننا نحتكم إلى هذا الميزان في شؤون الدين، في العقائد والعبادات، والأخلاق، أما في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي شؤون الحياة المتغيِّرة، فلماذا لا نحتكم إلى منطقنا البشري أو نقتبسها من تجارب غيرنا؟
والجواب:إنَّ تجزئة ما أنزل الله: إلى ديني وغير ديني، تجزئه مضللة، لا تقوم على أساس سليم. أتريدون طاعة الله إذاال: أقيموا الصلاة، لأن الصلاة من شؤون الدين، فإذا قال: وآتوا الزكاة، قلنا له: عفواً يا رب هذا من شؤون المال والدنيا، فدعنا نديرها وحدنا دون هدايتك ووحيك يا ربنا؟
وإذا قال الله تعالى:[ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ] {فصِّلت:6}. قلنا: سمعنا وأطعنا، فإذا قال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {المائدة:90}. قلنا له: سمعنا وعصينا، إنَّ تحريم الخمر يا رب خَطَر على نشاط السياحة، وحَجْر على حرية الفرد، فدعنا أحراراً في تناولها.
وإذا قال تعالى:[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ] {البقرة:281}. قلنا: يا لها من موعظة! فإذا قال قبلها بآيتين في نفس السورة:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ] {البقرة:278-279}. قلنا أما هذه فلا، فإنَّ عصرنا لا يستغني عن الربا، وعجلة الاقتصاد لا تدور إلا بالفوائد الربوية.
إذا قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ] {البقرة:183}. قلنا: سمعاً وطاعة، فإذا قال في نفس السورة ونفس السياق: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى] {البقرة:178}. قلنا هنا:لا سمع ولا طاعة، فأمر العقوبات لنا يا رب، وليس لك، فدعنا نقرر فيها ما نراه، فنحن أعلم بمصلحتنا منك؟
إنَّ كل ما أنزله الله دين، يجب أن يُرعى وينفَّذ، وإهمال بعضه ضار بمجموعه، وهو أشبه شيء بوصفة الطبيب الماهر للمريض، إنها مجموعة متكاملة من الأدوية ربما كان حذف دواء منها يجعل ضرر الأدوية الأخرى أكبر من نفعها. ولهذا حذَّر سبحانه من ترك بعض ما أنزله الله من كتاب وحكمته انخداعاً بتزيين أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة والمشركين [وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ] {المائدة:49}.
وقد ذمَّ الله المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم:[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ] {محمد:26}.
إذا رضينا بالإسلام ميزاناً ومقياساً لأفكارنا وقيمنا، وبالقرآن حكماً في كل شؤوننا، فما يقول الإسلام في هذه المذاهب والدعوات الحديثة، التي تحمل طابع التحرُّر والتقدم! هل يتَّسع صدر الإسلام لهذه المذاهب ويعقد معها عقد تعايش سلمي؟ أم يرفضها وينكرها؟ وهل يجوز للمسلم أن يعتنق أحد هذه المذاهب ويسترشد بها؟
يجب على كل مسلم أن يحدِّد موقفه، و على كلِّ عالم أن يبين حكم الله ورسوله بلا مواربة ولا مداهنة، ولن أناقش مضمون هذه المذاهب والدعوات وما تحتويه من أفكار ونظريات وقواعد.
إنَّ هذه المذاهب في حقيقتها أديان جديدة، تنكر الدين وتسخر مما جاء به من الغيبيات، إنها تعتبر الدين أمور رجعية بالية يجب التمرُّد عليها.
لقد كان دعاة هذه المذاهب والأفكار صُرحاء حين أطلقوا عليها اسم العقيدة، ولهذا يقولون: العقيدة الاشتراكية، والعقيدة القومية. والعقيدة تعبير لمفهوم الدين، ولو أردنا الصراحة لقلنا: الدين الاشتراكي، والدين البعثي، والدين القومي.
فالسؤال الأصلي يسقط إذا حوَّرناه بهذه الصورة: هل يجوز للفرد المسلم أو المجتمع المسلم أن يعتنق ديناً جديداً كالاشتراكية أو القومية العلمانية؟
إن الجواب معروف، وصدق الله العظيم:[مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] {الأحزاب:4}. وقال تعالى:[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] {آل عمران:85}.
إذا كان هذا هو موقف الإسلام من المذاهب والفلسفة الجديدة فما هو حكمه في القومية؟ وقبل الجواب، يجب أن نتفق على مفهوم كلمة (القومية) والمراد بها ومدلولها
(القومية) لفظة منسوبة إلى (القوم)، وقوم الرجل عشيرته الذين تربطهم به رابطة الدم والنسب، ولكن الإنسان والسلالات توزَّعت في الأرض وافترقت، فلم تكد تبقى أمة صافية العنصر خالصة النسب. وهذا ما جعل دعاة القومية يضطربون في وضع تعريف معيَّن لها، وفي بيان المقوِّمات الأساسية لها: هل هي الأرض؟ أم اللغة؟ أم التاريخ ؟ أم مجرَّد الإرادة... ودعاة القومية أغفلوا الرابطة الدينية واعتمدوا على الرابطة الطينية والعنصرية واللغوية والتاريخية.
إنَّ بيننا وبين الدعاة إلى القومية هُوَّة عميقة وفجوة واسعة، والخلاف بيننا وبينهم خلاف حقيقي جذري لا يمكن معه لقاء فكري بين طرفين.
1 ـ إنهم يعتبرون القومية عقيدةً يجب الإيمان بها، والدعوة لها والتعصب لها...عقيدة ينبثق عنها نظام الحكم ومناهج التربية ووسائل الإعلام.
2 ـ إنَّ النتيجة الحتمية لهذه العقيدة أن نجد القوميين عامة يجمعون على إعلاء الرابطة القومية على الرابطة الدينية، ولهذا ترى دعاة القومية العربية يفضلون العربي غير المسلم على المسلم غير العربي، بل إنهم ليجحدون رابطة الإيمان والإسلام.
القرآن يأمرنا أن ندوس كل رابطة إذا تعارضت مع عقيدة الإسلام:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {التوبة:23}.
ويقول سبحانه:[لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] {المجادلة:22}.
أرأيتم أوثق من علاقة الأب ببنيه، أو الابن بأبيه؟ إنها علاقة يحرص الإسلام على توثيق عراها، ويباركها، ولكنه لا يسمح أن تعلو على رابطة الإيمان فضلاً عن أن تعارضها.
هذا نوحٌ ينجيه الله من الطُّوفان، فيأبى أحد أبنائه أن يؤمن به ويركب معه سفينة النجاة، وذهب يعتصم بالجبل من الغرق، وأدركت عاطفة الأبوة نوحاً عليه السلام، فأراد أن يشفع له عند الله:[وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] {هود:45-46}.
كان الرد الإلهي على نوح رداً حاسماً صريحاً: [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ]. فليس أهل نوح من خرج من صلبه، وإنما أهله وشيعته هم المؤمنون الصالحون، فلا عَجَبَ أن يقول الله تعالى عن علاقة إبراهيم به بعد قرون بينهما لا يعلمها إلا الله: [وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الصَّفات:83-84}.
وإبراهيم يدعو أباه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقول في ختام دعوته في حب وإشفاق:[يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا] {مريم:45}.فماذا قال الأب؟:[قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا] {مريم:47}.وأنجز إبراهيم وعده واستغفر لأبيه ربه:[وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ] {الشعراء:86}.
ولكنه حين تبيَّن له عناد أبيه، وإصراره على كفره، أعلن مخاصمته، وبرئ إلى الله من شركه، مما سجَّله له القرآن الكريم في آيات بينات: [وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ] {التوبة:114}.
وجعل موقفه من أبيه وقومه أسوةً للأجيال المؤمنة:[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ] {الممتحنة:4}.
وإذا كان إبراهيم قد خَسِرَ علاقة أب في ذات الله، فإنَّ الله عوَّضه ألوف الملايين يعترفون له بالأبوة الروحيَّة، ويصلُّون كل يوم مرَّات كثيرات على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فالذي قطع صلة إبراهيم بأبيه المشرك وصله بالمؤمنين وجعلهم له أبناء بعد ألوف السنين:[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ] {آل عمران:68}. وقال جل شأنه:[ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ] {الحج:78}.
إن القرآن لا يعترف إلا بالإيمان رابطةً، ولا يقرُّ إلا الإخاء جامعاً بين المسلمين:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {الحجرات:10}.
أما القوميون فلا يعترفون بالدين، بل يقول شاعرهم:
سلام على كفر يوحِّد بيننا         وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
إنهم يريدون أن نسوِّي بين أبي لهب وأبي بكر، وبين أبي جهل وعمر بن الخطاب، لأنهم في الميزان القوميِّ سواء، ولكن القرآن الكريم يقول:[لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ] {الحشر:20}. ويقول:[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ] {السجدة:18}.
إنهم ينكرون علينا أن نهتم بقضية مسلمي كشمير، أو مسلمي الحبشة، أو مسلمي الاتحاد السوفيتي، ويبررون الغزو الروسي لأفغانستان، ويقفون في صفِّ الغزاة ضد المجاهدين الأبطال، الذين يدافعون عن العقيدة والأرض والعرض... ولا حرج عندهم أن يناصروا الوثنيين الهنود ضد المسلمين، ولا جناح عليهم أن يؤيِّدوا النصارى اليونانيين ضد المسلمين الأتراك، ولا بأس عليهم أن يقفوا مع الشيوعيين ضد الأقليات الإسلامية التي تبلغ عشرات الملايين.
3 ـ القوميون يعزلون الدين عن الدولة، وينادون بدولة علمانية لا دينية، ويحصرون الدين في نطاق ضيِّق لا يتجاوز علاقة الإنسان بربه، أما أن يتدخل الدين في توجيه المجتمع وتشريع الدولة، ونظام الحياة فهذه رجعية يحاربها القوميون جميعاً.
وما دفعهم إلى ذلك إلا أنهم طبقوا على الإسلام في الشرق، ما طُبِّق على المسيحيين في الغرب، وهذا خطأ جسيم، فالإسلام غير المسيحية في طبيعته وتاريخه، والقرآن غير الأناجيل، والمسجد غير الكنيسة، وعلماء الإسلام غير رجال الكهنوت.
فالقوميُّ الأصيل يسقط الدين من حسابه، ويضعه على الرف وفي مستودعات المستهلك.
4 ـ القوميون يفتتِّون الأمة الإسلامية التي أرادها الله أمة واحدة، كما قال تعالى:[وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] {المؤمنون:52}.[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143}. إلى أمم شتى متصارعة متضاربة، تتنازع على حدود أرضيه، وتتفاخر بعصبيات جاهلية، وتغيِّر الرابطة الإسلامية التي عبر القرآن عنها بالإيمان، وعن التفرق بالكفر، لأنه يؤدِّي إليه (سباب المسلم فسق، وقتاله كفر)، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض)، (إذا التقى المسلمان بسيفيهما ) ومنطق القومية يجيز للمسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً ويسفك بعضهم دماء بعض.
5 ـ الفكرة القومية فكرة جاهلية رجعية، أما إنِّها جاهلية فلأنها تقوم على إحياء العصبية التي برئ منها الإسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).
وأما إنها رجعية فلأنها ليست إلا امتداداً للشعور القبلي، وإذ دعانا لعصبية العشيرة وهذه رجعية بالإنسان إلى الوراء البعيد.
6 ـ ودعاة القومية لا يكتفون بعزل الدين عن الحياة، بل يقفون موقف المعادي للتيار الإسلامي...وهذه الخصومة نتيجة طبيعية للمقدِّمات التي ذكرناها، من إعلاء الرابطة القومية، والمناداة بدولة علمانية، وتمزيق الأمة الإسلامية، وهذه القوميات بذر بذرتها في بلادنا ونماها وتعهَّدها: التبشير والاستعمار، واختار تلاميذه لهدم الخلافة الإسلامية التي أذَّلت الغرب النصراني، وطرقت أبواب فيينا سنة 1683، ثم يهدم بهذه القوميات أي أصل في وحدة إسلامية جديدة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين