كلمات في الوسطية ـ 4 ـ التوازين بين الدين والدنيا

التوازن بين الدين والدنيا

الشيخ مجد مكي

من أبرز مظاهر الوسطية والتوازن في رسالة الإسلام : التوازن بين الدين والدنيا وبين الروحية والمادية.
 فالإسلام وسط في النظرة إلى الحياة الدنيا بين الذين اعتبروا هذه الدنيا هي كل شيء : هي البداية والنهاية :[وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] {الأنعام:29} . وهذه النزعة المادية جديرةٌ بأن تولِّد الترف والطغيان والغرور والاستكبار ، والتكالب على متاع الدنيا.
فهذا صاحب الجنتين يفخر على صاحبه منتفخاً بثروته مختالاً بجنته ، قائلاً [لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا(36) ]. {الكهف}. .
فأرسل الله على جنته حُسْباناً من السماء ، وصواعق محسوبة مقدَّرة جزاء كفره، فأصبحت صعيداً زلقاً ، لا يجفُّ ترابها ، ولا ينبت مرعاها ، ولا تثبت القدم عليها ، وأصبح ماؤها غائراً في أعماق الأرض.
وهذا فرعون الذي قال :[ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {الزُّخرف:51} . وغير هؤلاء من الأمم التي أترفت في الحياة فقتلها الترف ، ودمَّرها التحلل ، وحقَّ عليها كلمة العذاب ، وحرمت نصر الله وعونه: [حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64) لَا تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ(65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ(66) ]. {المؤمنون}.
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ(11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13) ]. {الأنبياء}. .
وفي الطرف المقابل وجد آخرون نظروا إلى الدنيا نظرة احتقار وعداوةٍ ، فحرَّموا على أنفسهم طيِّباتِ الدنيا وزينتها ، ولم يقوموا بعمارتها ، واكتشاف ما أودع الله فيها.
وبين هاتين النزعتين قام الإسلام ، يدعو إلى التوسط والتوازن والاعتدال ، فصحَّح مفهوم الناس عن حقيقة الإنسان ، وعن حقيقة الحياة.
حقيقة الإنسان:
فالإنسانُ مخلوقٌ مزدوج الطبيعة ، يقوم كيانه على قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، وقد أشار القرآن إلى هذه الطبيعة المزدوجة في خلق آدم أبي البشر، فقال تعالى [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) ]. {ص}. وأشار القرآن إلى هذه الطبيعة أيضاً في خلق ذريِّة آدم حيث قال :[وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(9) ]. {السجدة}.
ومن حكمته سبحانه: أن خلق الإنسان على هذه الطبيعة ، فهو بعنصره الطيني قادرٌ على أن يسعى في الأرض ، ويمشي في مناكبها ، ويكشف عن مكنوناتها ، ويعمل على تعميرها ، ويُسخِّر قواها ـ بإذن الله ـ لمنفعته، وهو بعنصره الروحي مهيأ للتحليق في أُفق أعلى ، والتطلع إلى عالم أرقى ، وإلى حياة هي خيرٌ وأبقى.
وبهذا يُسخِّر المادة ولا تُسخِّره، ويستخدم ما على الأرض من خيراتٍ وثروات دون أن تستخدمه ونستعبده.
حقيقة الحياة الدنيا:
والحياة ليست سجناً عُوقب الإنسان به ، ولا عبئاً فُرض عليه ، إنما هي نعمة يجب أن تُشكر ، ورسالة يجب أن تؤدَّى ، ومزرعة لحياة هي خير وأبقى ، والقرآن الكريم يدعو إلى العمل للحياة ، والاستمتاع بطيباتها بجوار الحثِّ على الاستعداد للآخرة ، والتزوُّد ليوم الحساب ، يقول سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ(87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ(88) ]. {المائدة} .
ويقول تعالى :[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] {الملك:15} .
ويقول عزَّ وجل :[وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] {القصص:77} .
ويقول سبحانه: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]. {الأعراف}.
 ويذكر القرآن أنَّ السعادة والحياة الطيبة في الدنيا من مثوبة الله لعباده المؤمنين، فيقول :[فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:148} .
ويُعلِّم المؤمنين هذا الدعاء الجامع بين الحياتين وحَسَنتي الدارين :[ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {البقرة:201} .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل من طيبات هذه الحياة ، ولكن لم يجعلها شغل نفسه ، ومحور تفكيره ، وكان من دعائه فيما يرويه الترمذي(3424) عن ابن عمر : «اللهمَّ لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ، ولا مبلغ علمنا».
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أيضاً فيما يرويه مسلم(4897):« اللهمَّ أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير ، واجعل الموت راحةً لي من كل شر».
وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على توجيه أصحابه إلى التوازن بين دينهم ودنياهم ، ولما رأى في بعض أصحابه إفراطاً في التعبُّد على حساب جسمه وأهله قال له : « إنَّ لبدنك عليك حقاً ، وإن لزورك ـ لضيوفك ـ عليك حقاً ، وإنَّ لزوجك عليك حقاً ، فأعط كلّ ذي حق حقه»رواه البخاري (1838)من حديث عبد الله بن عمرو.
وقال للجماعة الذين التزم أحدُهم أن يصوم فلا يُفطر ، والتزم الثاني أن يقوم فلا ينام ، والتزم الثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج أبداً:« أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني»رواه البخاري (4675)، ومسلم (2487) من حديث أنس بن مالك.
وهكذا تعلَّم الصحابة : أن يوازنوا بين مطالب دنياهم وآخرتهم ، وأن يعملوا للدنيا ويعملوا للآخرة ، ولم يشعروا بالوحدة والانسجام والامتزاج ، كانوا يعتقدون أنهم في عبادتهم ومساجدهم ليسوا مقطوعين عن الدنيا ، كما أنهم في مزارعهم ومتاجرهم غير بعيدين عن الدين فأعمالهم عبادة إذا التزمت فيها حدود الله عز وجل وصحت فيها النية.
***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين