لقاء مع حكيم

 

التقيته قادما من الشام بأعوامه التي تربو على السبعين، قضى أكثر من أربعين سنة منها في مغالبة النظام ومحاورته ومبارزته وصولا الى أكبر مساحة ممكنة لمشروعه الفكري النهضوي الذي أنفق الكثير من المال والوقت والجهد والعرق والخوف والقلق من أجله ،كان بكامل أناقته الخارجية والفكرية والانفعالية التي عرف بها ،مع علمي بأن أقرب الناس اليه ممن كان يظن به خيرا قد طعنه في ظهره ، وباعه بكل سذاجة المغفلين ، وصفاقة غليظي الأكباد ،طلب مني بكل تواضع العظماء أن أعطيه جزءا من وقتي ،فأجبته ، وأنا أشعر بالتضاؤل الذي كاد أن يسحقني لما بيني وبينه من بون المنزلة على صعد كثيرة ، قائلا :أنا تحت أمرك في أي وقت .
جلسنا وكنت أتأمل في وجهه فأرى فيه كثيرا من الأمل والطموح، ما يكفي ليقيل عثرات المتدحرجين على سفوح اليأس ، والذين غلفهم ما يشبه الظلمات التي إذا أخرجت يدك فيها لم تكد تراها ! وشيئا آخر بدا لي كالفرح ، يطل بوجه مشرق كفيل بإزاحة كل جبال الترح المتراكبة جراء المحنة التي حطت رحالها من عقود، في ربوع الديار التي دعا لها الحبيب ، ولليمن ، بالبركة ،غفلنا فيها عما يدبر لنا لتصفية قضية فلسطين ، وقد قرأنا " البروتوكولات " ومما فيه : حتى يقر لنا قرارينبغي أن نسعى لإيجاد حزام من الأنظمة التي تعلن عن العداء لنا " إعلاميا " وتحمينا من كل شوكة يراد لها أن تؤلمنا واقعا ، قلت لذلك الشامخ محاولا بدء الحديث :ماأحوال الشام ؟
قال :ممتازة ! والحمد لله .
أدهشني بجوابه ! ولم أفهم أبعاده ، قلت :ممتازة ؟!
قال :نعم ممتازة ،ماذا تريد أفضل من ذلك .
قلت :والقتل ،والاعتقالات ،والتعذيب ،والتجويع ،والغلاء ،والدجل الإعلامي المفضوح ، والرقص على أنغام تأييد الظلم ، كل هذا وتقول ممتازة ؟ ! .
قال :هذه حالات مع كونها مؤلمة وكثيرة إلا أنها لا تقاس بالذي يحدث اليوم على مستوى الأمة وتاريخها . عجبا من عمق هذه القراءة الحصيفة لحركات التغيير وبناء المجتمعات ،ولولا قوة البصيرة لما تمكن هذا العملاق من تجاوز الواقع المدمى ، إلى أن يبصر المستقبل الذي نسدد اليوم أقساطه الباهظة ، وما العجب " فمن يخطب الحسناء لم يغلها المهر " ،وكما اصطبغت من قبل قوافي أمير الشعراء يوما بدم العذارى ، وتشربت من دخان القذائف الفاجرة تدك دمشق الغالية ، لتقرر مبدأ أقرته شرعة الحياة " وللحرية الحمراء باب   بكل يد مضرجة يدق !!
 قلت :لم أفهم ! أستزيد من هذا المنهل الثر الذي لم تعكره شوائب حركة الحياة ، ومبتغيات التسلق الرخيص
قال :حياة الأمم وتاريخها فيه الكثير مما يشرح كلامي ،وأنا أتحدث عن ولادة جديدة للشعب السوري ، وإلى جانب هذه الولادة يتضاءل كل ما تتحدث عنه .
قلت : ولكن الناس يعانون ! .
قال :الناس يعانون منذ أربعين سنة ، "القتل والاعتقال والتعذيب والملفات التي تصنع للمواليد قبل أن تحمل بهم أمهاتهم ، والابتزاز الوقح ، واالرشاوى التي أنهكت الحياة ، وكلفت الناس الكثير الذي يفوق طاقاتهم ، وكذا التجويع الممنهج ، كله كان ومايزال يحدث منذ وثب هؤلاء على الحكم وقضموه ، وجيشوا له كل العلق الذي يعيش على الدماء حتى الثمالة ! ،والآن كل مافي الأمر أن هذه المنكرات ، وهذا البؤس ، وتلك المذلة ، أصبحت أكثر وضوحا وتسارعا ، حتى بات الأعمى يراها ، والأصم يسمع ضجيجها ! .
قلت :سيدي هل لك أن تشرح لي- وسامحني- كيف تكون الأمور ممتازة ونحن على هذه الحال؟
ابتسم ،بعذوبة ،وتلألأت ابتسامته تحت شيبته الوقور ،قال لي : هل أنت مستعد للانصات لعجوز خرف مثلي ؟ مع كل وقاره يحمل بين جوانحه تألق القمر بدرا صافيا يضيء دون أن يلسع لسع الشمس عند الظهيرة في يوم صائف خليجي
قلت :أستغفر الله ،بل إنني موفق بالاجتماع بكم ، والاستماع إلى حديثكم .
قال :أولا- كلنا كنا قد رتبنا حياتنا على أن هذا النظام باق ، لا يمكن أن يزحزحه شيء ،حتى المعارضة التي كانت في الخارج كان بعضها قد بدأ بمساومة النظام ، وتقديم التنازلات له ،أما من في الداخل فقد تعايشوا مع النظام بكل عوراته ،وآمنوا أنه قدرهم وقدر أولادهم ،كأن شعار (للأبد ) من كثرة تكراره على الآذان تسلل إلى اللاوعي الجمعي السوري ، وصار إحساسا عميقا قبل أن يكون عقيدة وقناعة ، وكأن لسان حال الكثيرين يلهج بأنه " ليس في الإمكان أبدع من هذا النظام " ،والواقف على أحوال من في الخارج أيضا يجد أنهم قد رتبوا حياتهم على أساس بقاء النظام واستمراره إلى مدى غير منظور ،هذا مع كل مايعرف عن فساد النظام وإجرامه ،الآن عندما يصير زوال النظام إمكانا مطروحا ، ويزداد هذا الإمكان قوة يوما بعد يوم ، وعندما ينفجر الأمل الذي كان مخنوقا في الصدور ، ومكبوتا عن التطلع إلى حياة كريمة ، بعيدا عن مسح أحذية هذه الحثالة المنحطة التي عطلت الأمة أربعين عاما ،وامتصت دماءها ،وقتلت شبابها ،وخربت مؤسساتها ،ألا تكون الأمور ممتازة ؟
قلت : نعم ياسيدي ،ولكن ماالذي حدث حتى تحول هذا المستحيل إلى ممكن ؟
ابتسم وأغمض عينيه بخشوع وأشار بأصبعه إلى السماء قائلا :هو الله ، يا مؤانسي بهذا الحوار.
قلت :يقولون عما يجري " مؤامرة "! .
قال :هل بوعزيزي حرق نفسه تنفيذا لمؤامرة ؟
قلت :لا يمكن ، ومن يظن ذلك ما ترك من السقم الفكري ذرة !! أو هو من عصابة النظام وركائزه النخرة .
قال :طيب ، لو طلبت منك أن تخرج في مظاهرة كل يوم ،ولك مني ألف دولار على كل مظاهرة ،ألف دولار في سوريا مبلغ كبير ،وأنت تعرف أنك معرض لخطر إطلاق الرصاص الحي ،أو الاعتقال والتعذيب الذي يهون معه الموت ،هل تخرج ؟ومد يده إلى جيبه مازحا .
قلت :من المؤكد لا ،الحياة أغلى .
قال :لنتصور أن هناك فعلا من يخطط ، ويحيك المؤامرات لاسقاط النظام ،كيف يغري الناس بالخروج في مواجهة الشبيحة والأمن والجيش والدولة بكاملها ؟
قلت :لا أدري .
قال :طيب كيف استطاع هذا الذي يخطط لإسقاط النظام أن يصل إلى كل هؤلاء الناس من القامشلي ودير الزور شمالا إلى درعا جنوبا ؟ بل هل وصل هؤلاء الذين يخططون إلى أطفال درعا الذين نكل بهم أبشع تنكيل ، وقبضوهم هذه الألوف ؟!! ولم عامل جهاز الإذلال في درعا هؤلاء بوحشية ، وعامل وجهاء البلد بإذلال صب عليهم بما لاتطيقه الجبال ، أهو متآمر أيضا معهم لتفجير الوضع بهذا الفيضان !!
قلت :لا أدري.
قال :طيب ماالذي يهدف إليه هذا المتآمر ؟أقصد ماالغاية من إسقاط النظام ؟
قلت :يقولون إسقاط النظام الوحيد الممانع في وجه المحتل .
قال :بماذا يزعج النظام دولة الاحتلال !! ،ثلاثون سنة لم تطلقفيها طلقة واحدة على طول الجبهة ،وفي كل عدوان إسرائيلي كان النظام يحتفظ بحق الرد في الوقت المناسب ، حتى لم يبق ورق يسجل فيه حق الاحتفاظ ، ولم تعد الذاكرة تسع ، وحتى الآن لم يأت هذا الوقت المناسب.
قلت :وحماس ،وحزب الله .
قال :أوراق لعب بيد النظام يحركها كما يشاء أو يفيد منها كما يشاء .
قلت :حماس أوراق لعب ؟
قال :حماس لها فكرها ونهجها ورجالها مخلصون ، ولكنهم ضمن تركيبة فلسطينية ، ومع عدو إسرائيلي يجوز معهما أن يستعينا بالشيطان نفسه ليضمنوا استمرارهم في معركتهم .
قلت : وحزب الله ؟
قال :العود يحن على قشره .
قلت :لم أفهم .
قال :لحزب الله قصة طويلة ،ولكن أهم مافيها أنه أداة إيران ، وصنيعتها ، ورأس حربتها ، لتحقيق حلمها في الهلال الفارسي الشيعي المؤلف من سوريا والعراق ولبنان ،ومن غير النظام الحالي في سوريا يمكن أن يكون لهم عونا على ذلك!
قلت :إذن هي الطائفية .
قال :الطائفية هي عكازة النظام المنخورة التي يستند عليها قبل أن يقع ،ولكن السوريين أذكى من ذلك .
قلت :أقصد أن الطائفية هي التي تجمع حزب الله مع النظام .
قال :نعم ،ولكن حزب الله لا يهدف لمقاومة إسرائيل بقدر ما يهمه تحقيق الحلم الفارسي الشيعي.
قلت :ومن أخرج الإسرائيليين من لبنان ؟
قال :الشباب اللبنانيون من حزب الله وغيره ، ممن ضحوا بكل شيء من أجل إزعاج إسرائيل ،وهؤلاء كثير منهم لا يعون حقيقة مطامع حزب الله .
قلت :ولكن ألم يتم ذلك بتخطيط من قيادات حزب الله ؟
قال :عندما أمر ديغول بانسحاب الجيش الفرنسي من سوريا هل كان يعتبر نفسه مهزوما ؟ أم أنها مبادئ وحسابات سياسية تتغير من رئيس إلى آخر، ومن حزب إلى آخر ؟ ثم هل تريد لحزب الله ألا يكون لديه أي قناع يغطي به وجهه القبيح .
قلت: سيدي الآن فهمت أن الأمور ممتازة عندما أصبح تغيير النظام من الممكنات .
قال :ولنقل اليوم من المرجحات ،والنقطة الثانية ظهور الوجه الحقيقي لحزب الله وإيران ،فأنت تعرف أن كثيرين من العرب والسوريين ، ومنهم مثقفون وكتاب كبار وصلوا يوما إلى حد عشق حسن نصر الله وحزب الله ، وربما إيران ،لقد قارن البعض بين حسن نصر الله وجمال عبد الناصر يوم كان محبوب الملايين ، وما هذا الميل إلا لأن الناس يحبون من يقف في وجه عدو شرس حل بالمنطقة ، وأذاق أهلها والبلاد العربية جملة من الهزائم ، فإذا ما ظهر لهم أن أحدا تحدى هذا العدو فبالبداهة الفطرية يميلون إليه ، وقليل من أولئك الذين يقفون على بواطن الأمور !
قلت :نعم .
قال :الآن ظهرت حقيقتهم وحقيقة مايسمى بجيش المهدي في العراق ،مجرمون يقتلون الأبرياء العزل ، ويدافعون عن النظام المستبد الذي يقتل العشرات يوميا ،أرأيت كيف أن الأمور ممتازة ؟
قلت :بالفعل رب ضارة نافعة.
قال :ليست ضارة ،إنه ثمن التغيير ،بل إنها الخير كله .
قلت :والقتلى ،والمعتقلون ، والأطفال الذين تيتموا ،والنساء اللواتي ترملن ؟
قال :أنت مؤمن ؟
قلت :بفضل الله .
قال :كلامك لا يقوله مؤمن حق الإيمان ،انتبه إلى نفسك ،إنها مشيئة الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وقدره ،فهل من اعتراض ؟
قلت :اللهم لا .
قال :هل سيخلد أحد في هذه الدنيا ؟
قلت :لا
قال :والشهيد أين مآله ؟
قلت :جنات الخلد .
قال :وآلام الدنيا ألا يعوضها الله لأصحابها في الآخرة من نعيمه الذي لا يحد؟
قلت : نعم .
قال:ألا ينتقم الله عزوجل للمظلومين والمكلومين يوم القيامة ممن ألحق بهم الأذى ، وجرعليهم الويلات .
قلت :بلى.
قال :أين الضار إذن ؟
قلت :سيدي لنعد إلى الأمور الممتازة كما أسميتها ،قلت : أولا ترجيح زوال نظام لم نفكر يوما بزواله ،وثانيا ظهور حقيقة الأعداء والأصدقاء للعامة قبل الخاصة ،ماالذي تراه أيضا من إيجابيات مايحدث؟
قال :سقوط هيبة النظام ،وهذه ليست (ممتازة) فقط ، وإنما رائعة ،إنها معجزة ،وهذا السقوط تم على المستوى الداخلي والخارجي ، فمما يشبه تقديس رموز النظام انتقل الشعب إلى تحطيم أصنامه المادية والمعنوية ،انهارت الأصنام في النفوس أولا ،ثم في الشارع ،في المؤسسات ،الصغار والكبار يسخرون من النظام ويسقطونه آلاف المرات كل يوم،سقوط الهيبة ثم انهيار حاجز الخوف ،ثم القدرة على الإعلان عن كل ذلك بقوة ووضوح على الرغم من القتل والاعتقال ،نحن هنا أمام أمر عظيم يجب أن نفرح به ،لأنه بمثابة الولادة الجديدة لأمة كاملة .
قلت :هذه أقدرها ، وأشعر بها ، وبآثارها على الناس ، وعلى النظام ورؤوسه ،أعتقد أنهم لم يحسبوا حسابا لمثل هذا اليوم أبدا ،ولكن- سيدي- ألا ترى معي أن الملايين مازالوا نائمين ،أو لنقل مترددين ،خائفين ،ألا يضعف هذا من سقوط هيبة النظام ؟
قال:في كل ثورة هناك طلائع للثورة وهناك هامش محيد ،شبه ساكن ،غير مؤيد وغير معارض ،وهذه لها أسبابها ،منها :هبوط الهمة ، الجهل ،عدم الإحساس بالآخر ،عدم التعرض لظلم النظام ، الخوف ،وهذه أمور لا بد من معالجتها واحدة واحدة ، حتى يتم تفعيل الثورة وامتدادها لساحات أكبر.
قلت :سيدي في مصر مثلا خرجت الملايين إلى الشوارع ،أين نحن منهم؟
قال :في مصر لم ولن تجد الشراسة التي يعامل بها النظام الشعب في سوريا،لا تنس أن للسوريين تجارب مع النظام ذاق فيها من القمع والظلم مالا يوصف ،وحتى اليوم المظاهرات في سوريا تواجه بالرصاص ،هذا لم يكن في مصر ،ثم ان لبعض المشايخ دورا في تثبيط الهمم سامحهم الله ،أو عليهم من الله ما يستحقون .
قلت :سيدي ،لقد فوجئنا برجال كنا نظن بهم خيرا يبذلون الآن أقصى الجهود في الدفاع عن النظام بكل إجرامه المعروف لكل إنسان .
قال :أولا ، لا بد من القول بأن هناك مشكلة لدى المشايخ يجب تقديرها حق قدرها ،المشايخ موظفون عند الدولة في كل العالم الاسلامي تقريبا ،لا يوجد أي مصدر للدخل عند المشايخ غير أنظمتهم الحاكمة ،وهذا يؤثرفي مواقفهم ،ويقلل من درجة استقلالهم ،في أديان أخرى كالمسيحية هناك مصادر دخل أخرى تأتي للكنيسة ،وهذا يساعد في استقلال مواقفها ورأيها ،عند الشيعة مثلا هناك الخمس الذي لو أحسن استخدامه لبنى مؤسسة دينية دعوية مستقلة قادرة على كل شيء ،أنا لست مع الخمس ،ولكنني أضرب مثالا فقط لأقول إن الناس كل الناس قد تخلوا عن المشايخ ،ثم يطلبون منهم البطولات والمعجزات ،ليس هذا أمرا مقبولا ! ألست معي ؟
قلت :نعم ياسيدي ،هذه حقيقة .
قال :هذا طبعا لا يغفر للمشايخ الذين يبذلون أقصى الجهود في التزوير والتشويه دفاعا عن النظام ،وهؤلاء قسمان :قسم منافق دجال يجب فضحه بكل الوسائل الممكنة ،وقسم دعني أسميه مخلصا وهذا له رأي ووجهة نظر لابد من الاستماع إليها ، ومناقشتها وتفنيدها ،ومع ذلك ليس الأمر سهلا مع مثل هؤلاء ،فللبعض أسباب نفسية وعوامل قد أقول إنها غير واعية تجعلهم يقفون مثل هذا الموقف ،وهؤلاء أشبه بالمرضى الذين يحتاجون للعلاج.
قلت :مرضى أو أصحاء لا يهم ،النتيجة واحدة ،وهي تقديم الأسباب والذرائع لأصحاب الهمم الهابطة للجلوس والسكوت ،فماالعمل مع أمثال هؤلاء ؟
قال :دحض حججهم ،وتفنيد دعاويهم ،والحساب على الله تعالى .
قلت :ولكن الأمر يغيظ!
قال :هذا ابتلاء من الله تعالى وتمحيص ،فهو ينصب نماذج من المشايخ الواعين والمخلصين والواقفين إلى جانب الناس وثورتهم ،وينصب نماذج من الدجالين المنافقين ،وينصب نماذج من المخلصين!!! الضالين والمضلين ،وعلى المرء أن يختار ،ابتلاء على كل سوري أن يجتازه بعد أن يتحرى الحق والحقيقة .
قلت :ماالذي يمكن أن يضل إنسانا مخلصا حتى يصير ناطقا باسم النظام مدافعا عنه كأنه حاجب على بابه العالي ؟
قال:أولا ، أنا قلت دعني أسميه مخلصا ،تجاوزا ،وقصدت بذلك أنه لا يبيع مواقفه للنظام بمال أو منصب ،ولكن هناك أشياء أخرى ، لا أعرف إن كان يصلح معها إطلاق صفة الإخلاص عليه ، منها : العجب، الاعتداد بالنفس ،الذات المتورمة المتضخمة ،التي ترى سبة ونقصا في التنازل للاستماع للآخرين ،ثروة من السذاجة ، أولأقل الحماقة ،ثم هناك مقولات يعتمد عليها أمثال هؤلاء حتى على مستوى اللاوعي تؤدي بهم إلى أسوأ المواقف ،مثلا مقولة (عدو عدوي صديقي)، أو (صديق عدوي عدوي ) ،كأن يكون الواحد منهم لا يحب حركات الإسلام السياسي ،أو السلفيين مثلا ،فإن كان النظام عدوا لأمثال هؤلاء ، فإنه يحابي النظام ويقف معه في الصف نفسه ، أو يكون للواحد منهم تجربة ولو شخصية مع أحد ما ، وقد أدت هذه التجربة إلى عداوة ،فإن كل من يضع يده في يد هذا العدو،أولا يرى في سلوكه أو تاريخه عيبا يصير عدوا ، وهناك الزعامات الروحية بما تحاط به من تبجيل واحترام ،كل هذا يمكن أن يكون سببا في ضلال هؤلاء الذين لا أعرف إن كان يصح أن نطلق عليهم اسم المخلصين مع كل هذه العورات المكشوفة!! .
قلت :سيدي هذه أهواء لا تليق بالعلماء ،لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها ؟
قال :أنا معك ولست معك ،معك لأن من يعمل على تهذيب قلوب الناس وتصفية أرواحهم لا يجوز أن يحمل معه هذه الأمراض أو الأهواء ،ولست معك لأنني لا أريد أن أضع أمثال هؤلاء مع المنافقين الدجالين الذين يبيعون المواقف والبيانات بالدراهم والهبات ،ولأنه لا يروق لي أن يستسهل من يعيش في الخارج آمنا مرتاحا إطلاق الأحكام على من في الداخل .
قلت :هل تعتقد أننا مقصرون ؟
قال :كل يعمل على شاكلته ،ورب بعيد خير من ألف قريب ،والأعمال أحبها إلى الله أخفاها ،لا أستطيع أن أحكم على أحد ،ولكن يزعجني حديث المتكئين على الأرائك في الخارج في التنظير والحكم على الناس إذا كانوا لا يعملون شيئا .
قلت :سيدي ،قلت ترجح إسقاط النظام ، وفضح النظام وحلفاؤه ،وسقطت هيبة النظام في النفوس وفي الشارع ،حتى على المستوى الدولي ،بالفعل نحن بألف خير ،ماذا تضيف على ذلك؟
ابتسم بلطف كمن شعر بالانتصار وقال :أرأيت كيف أن الأمور ممتازة ! أعجبني عندكم في المراكز التجارية وفي كل فندق أو مطعم أو محل ،يعلقون لوحة تقول :اعرف حقك وطالب به كمستهلك ،أعتقد أننا بحاجة إلى أن نعلق لوحة تحمل عبارة :(اعرف حقك وطالب به كإنسان) ولكن داخل كل رأس عربي ،وهذا مابدأفعلا وأشعل ثورات العالم العربي كلها.
قلت:خبرني أكثر عن الأمور الممتازة.
قال :لقد دفع السوريون ثمن تأليب العالم على النظام ،والآن يفقد النظام حلفاءه يوما بعد يوم ،وفي هذا بشرى بإسقاطه القريب ،فنحن اليوم على خطوات من سقوط أكثر أنظمة الأرض إجراما .
قلت :هل نحن فعلا قد وصلنا إلى هذا ؟
قال :أعتقد أن النظام يقضي أيامه الأخيرة ، ويجب أن يؤمن كل سوري بذلك.
قلت :هل هذا نوع من الإيحاء؟
قال :إن الإيمان بالنصر من أهم أسبابه وعوامله ،وانظر إلى الاعتراض الصغير في درعا كيف تحول إلى ثورة مليونية في كل المدن السورية عندما آمن الناس بأن نهاية النظام ممكنة وقريبة .
قلت :سيدي ألا يحزن بعض الشيء أن يكون رموز المعارضة السورية اليوم من العلمانيين ،في حين أن الرجال من أمثال مصطفى السباعي ومعروف الدواليبي وغيرهما علما ودراية وحكمة وسياسة نكاد نفقدهم في الساحة السياسية ، وفي المعارضة بصفة خاصة ؟
قال :أولا ،الساحة ليست خالية والخير باق في أمة الاسلام ليوم القيامة ، وثانيا، لا بد أن نفرق بين العلماني الذي قد يتصف بأخلاق نجتمع معه ببعضها، وهو وإن كان غير مؤمن بما نؤمن به لا يحمل في قلبه غلا لأحد، وبين الفاجر الذي وإن كان على دين بأي ملة لا يراعي حرمة لأحد، وهو مشحون بأحقاد وأشكال من البغض والعداوة لأهل الايمان ،لقد اجتمعت في حياتي بكثيرين من العلمانيين وحاورتهم وأدرت حوارات بينهم وبين الإسلاميين ،وأكاد أجزم أن قسما كبيرا منهم يتصف بأخلاق عالية أدناها عدم الاهتمام بما تؤمن به وعدم التعرض له ،في حين أن الفجرة تراهم يكادون يتمزقون غيظا وكرها وحقدا على كل مظهر إيماني أو فرد يعلن انتماءه لدين الله عزوجل .
قلت :سيدي لقد ميز المرحوم المسيري بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ،الأولى مجرد فصل الدين عن جهاز الدولة الإجرائي ،في حين أن الثانية لا تعترف بالمقدس المفارق للمادة وبالتالي هي فصل للدين عن الحياة بالكامل ،هل هذا ما تقصدونه ؟
قال :لا ،الأمر أسوأ من هذا ،دعني أقول لك إن هناك علمنة باردة ،قائمة على موقف فلسفي من الحياة قد يرفض المقدس بالكامل ،ولكنه غير مبال بما يؤمن به الآخرون ، وهو يحترم مقدساتهم ، ولا يجرح فيها ،وهناك علمنة ساخنة فاجرة حقود تعادي الدين والمتدينين والمظاهر الدينية وتشمئز منها ، وتحاول محاصرتها وإلغاءها ،هذه العلمنة الفاجرة هي علمنة نظام الحكم في سوريا مع أنه قد لا يجاهر بإلحاد أو كفر ،ولذلك ترى أزلامه يصرون على إهانة المقدسات ،وعلى تنصيب رموز النظام آلهة من دون الله ،إن كنت غير مؤمن فلماذا تطالب الناس أن يؤلهوا زعيمك ؟! هذا نوع من الفجور والعهر الذي لا يقبله إنسان ،إن كنت إنسانا ماديا أو علمانيا أو مسلما علويا أو درزيا لماذا تقهر الناس وترغمهم على أن يقولوا ماليس له معنى عندك أو ماترفضه ملتك نفسها ،في رأيي أننا نستطيع الوصول إلى (عقل مشترك) نفكر به ونمارس حياتنا مع العلمانيين ،في حين أن النوع الآخر لا يعاشر بل ولا يجاور حتى في أرض واحدة .
قلت :لعلهم قد نقلوا هذه النسخة من العلمنة عن ستالين أو أتاتورك ؟
قال :هم قد ورثوا فجورهم عن أجدادهم قبل ستالين وقبل أتاتورك ،ولكن هل ترى معي أنه في القرن الحادي والعشرين لا يوجد مكان لأمثال هذين الرجلين ؟
قلت :اذن فنحن أمام سقوط النظام ؟
قال :نعم وبهذا تنتهي قصة نظام استبدادي عاش على دماء شعبه أربعين عاما خلال أشهر ،ألم أقل لك إن الأمور ممتازة ؟
قلت :ثم لا بد من إيجاد البديل .
قال:نعم ، وهذه مهمتكم أيها الشباب .
قلت :ولكن البديل على مايبدو لن يكون إسلاميا .
قال :لا أستطيع أن أجزم بذلك ،فللناس عصبية دينية قد تفوق وعيهم وعلمهم وسلوكهم والتزامهم الديني ،هذه العصبية هامة جدا ،وهي التي أوصلت الإسلاميين في بلد علماني كتونس إلى سدة الحكم ،وقد يتكرر ذلك في مصروليبيا وسوريا .
قلت :وهل ستنفع العصبية أمام المد العلماني سيما وأن رموزه صاروا نجوما ثوريين في ربيعنا العربي؟
قال :هي أقوى منه ،ولكن هذا لا يعني أن نقصر في تقديم البدائل الإسلامية لكل أطروحاتهم العلمانية ، وثق أن الناس سيختارون الإسلام عندما نجيد عرضه وتقديم أجوبته عن أسئلة العصر الراهنة ،أما إن أسأنا فسنكون المدخل الذي سيؤتى الإسلام منه .
قلت :سيدي أعرف أنني أتعبتك ،ولكني أعترف أنني قد صرت أكثر تفاؤلا وأملا وحماسا بعد هذا اللقاء ،أريد منك أن تنصحني .
قال :سأنصحك نصيحة من القلب وأرجو ألا تزعجك ،إعمل أكثر مما تتكلم وتكتب ،فمن صنعوا الثورة معظمهم قد لا يعرفون القراءة والكتابة ،اللهم قد بلغت .
انسحبت مودعا للرجل ، وقد فاضت نفسي بفرح كبير،كما شعرت بتقصير أكبر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين