موقف أهل الإيمان من أهل الطغيان

الأستاذ : سليمان الحسيني الندوي

صدرت أخيراًفي فترة الثورات العربية الإسلامية فتاوى من علماء السلاطين والأمراء، تؤكد على المسلمين أمر الطاعة لأولي الأمر، استدلالاً بالآيات والأحاديث، وهذه الفتاوى تلبس على المسلمين، وتخلط الحق بالباطل، وتستدل بالنصوص في غير مواضعها وغير سياقها، وقد نصت الآيات على أن من لم يحكم بما أنزل الله، فهو فاسق ظالم كافر، فكيف بمن يحارب شرع الله، ويضاد دين الله، ويقتل عباد الله، أهذا ولي أمر المسلمين ؟

إن أولياء أمور المسلمين لابد أن يكونوا منهم وإن كانوا فاسقين, أما أن يكونوا عملاء للأعداء مفروضين من قبلهم، محروسين بقواتهم ومؤامراتهم فليسوا منا، وليس علينا طاعتهم، فما يغالط به علماء البلاط، إنما هى عمالتهم بالواسطة للأعداء.
وأحب أن أقتبس بعض النصوص وبعض التصريحات،وأذكرها لمن يبصر ويسمع ويعقل.
وري جابر بن عبد الله، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلي إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله" وبهذا جرّأ الرسول الكريم أمته: أن تقول كلمة الحق في وجه السلاطين الظلمة الطغاة المفسدين.
وتظل الأمة بخير مادام فيها من يصدع بكلمة الحق آمرا ناهيا مهما تكن العاقبة، وتفقد الأمة استحقاقها للبقاء، إذا شاعت فيها روح الإستسلام، وانتشر فيها الوهن والجبن.
وهذا ما حذّر منه الحديث الشريف الذي يقول: "إذ رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم".
ومعني "تودع منهم" أي لا خير فيهم ، فقد استوي وجودهم وعدمهم، فإن مبرر وجود الأمة:أن تقوم برسالتها، وهي الدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم تقم بهذه الرسالة فلم تعد فائدة لبقائها.
وقد رأينا النبي صلي الله عليه وسلم يعلمنا، أن أفضل الجهاد:" كلمة حق عند سلطان جائر" فاعتبر الرسول صلي الله عليه وسلم ذلك أفضل الجهاد لأن المقاتل في الميدان كثيرا ما يسلم ويعود بأجر وغنيمة، أما من يواجه السلطان الجائر بكلمة الحق، فكثيرا ما يقدم عنقه فداء لكلمته.
وإذا كانت السنة النبوية قد نوهت بفضل من قتل من أجل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن القرآن قد ندد أبلغ التنديد بالذين يقتلون الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، من الأنبياء، وورثة الأنبياء، الذين يواجهون أهواء الباطل بكلمة الحق، واعتبر القرآن هذه الجريمة من كبريات الجرائم ، التي تستوجب عذاب الله ونقمته في الدنيا والآخرة، كما قال تعالي:{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغيرحق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ،أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ومالهم من ناصرين} آل عمران: 21،22).
وذلك لأن هذه الجريمة تخرس ألسنة الحق، وتخلي الساحة للطغاة والظالمين، يعملون فيها ما تهوي أنفسهم، وماتزينه لهم شياطينهم،وإن بلغ في الشر ما بلغ ، دون أن يقول لهم أحد: لم؟ بله أن يقول لهم: لا!
والتخلي عن الشريعة الإسلامية ، وتبني القوانين الوضعية وحمايتها ومحاربة قانون الله ـ تعالي ـ ردة شديدة،وأخطر أنواع الردّة، ردّة السلطان، أو رِدّة الحاكم، الذي يفترض فيه أن يحرس عقيدة الأمة، ويقاوم الردة، ويطارد المرتدين، ولا يبقي لهم من باقية في رحاب المجتمع المسلم، فإذا هو نفسه يقود الردّة سرا وجهرا، وينشر الفسوق سافرا ومقنعا، ويحمي المرتدين، ويقتح لهم النوافذ والأبواب، ويمنحهم الأوسمة والألقاب، ويصبح الأمر كما قال المثل:(حاميها حراميها)... أو كما قال الشاعر العربي:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها              فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!!
نري هذا الصنف من الحكام، مواليا لأعداء الله، معاديا لأوليا الله، مستهينا بالعقيدة ، مستخفاً بالشريعة، ومصادرها المعصومة من القرآن العزيز والحديث الشريف، غير موقر للأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، مهينا مقدسات الأمة ورموزها ، من الصحابة الأبرار، والآل الأطهار، والخلفاء الأخيار، والأئمة الأعلام، وأبطال الإسلام! وهؤلاء يعتبرون التمسك بفرائض الإسلام جريمة وتطرفا، مثل الصلاة في المساجد للرجال، والحجاب (أي لبس الخمار) للنساء، حتي إن المرأة المحجبة لتمنع من التعلم في المدارس والجامعات، ومن التوظيف في وظائف الحكومة والقطاع العام، ومن العلاج في المستشفيات العامة، حتي الولادة، تمنع منها ما لم تخلع حجابها!
ولا يكتفون بذلك، بل يعملون وفق فلسفة(تجفيف المنابع) التي جاهروا بها، في التعليم والإعلام والثقافة، حتي لا تنشأ عقلية مسلمة، ولا نفسية مسلمة، ولا شخصية مسلمة.
ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل يطاردون العلماء والمعلمين، والدعاة الحقيقيين للإسلام ، ويغلقون الأبواب في وجه كل دعوة أو حركة صادقة، تريد أن تجدد الدين، وتنهض بالدنيا علي أساسه.
والغريب أن بعض هذه الفئات- مع هذه الردة الظاهرة- تحرص علي أن يبقي لها عنوان الإسلام، لتستغله في هدم الإسلام، ومطاردة دعاته، ولتعاملهم الأمة علي أنهم مسلمون ، وهم يسخرون من الإسلام، ويقوضون بنيانه من الداخل، وبعضها تجتهد أن تتمسح بالدين، بتشجيع التدين الزائف، وتقريب ممثليه من الدجاجلة والمرتزقة، من المنافقين الذين يحرقون لها البخور، ممن يتزيون بزي مشايخ الدين، والدين منهم براء! ممن سمّاهم الناس(علماء السلطة، وعملاء الشرطة)!
وهنا يتعقد الموقف، فمن الذي يقيم الحد- حد الردة- علي هؤلاء ؟ بل من الذي يفتي بكفرهم أولا، وهو كفر سماه الحديث الصحيح ؟، ومن الذي يحكم بردتهم، وأجهزة الإفتاء الرسمي في أيديهم؟ ليس هناك إلا (الرأي العام) المسلم، والضمير الإسلامي العام، الذي يقوده الأحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر، والذي لا يلبث- إذا سدت أمامه الأبواب وقطعت دونه الأسباب- أن يتحول إلي بركان ينفجر في وجوه الطغاة المرتدين، فليس من السهل أن يفرط المجتمع المسلم في هويته، أو يتنازل عن عقيدته ورسالته، التي هي مبرر وجوده، وسر بقائه.
وقد جرب ذلك الإستعمار الغربي الفرنسي في الجزائر، والإستعمار الشرقي الروسي في الجمهوريات الإسلامية في آسيا، ورغم قساوة التجربة وطولها هنا وهناك، لم تستطع اجتثاث جذور الهوية الإسلامية، والشخصية الإسلامية، وذهب الإستعمار والطغيان ، وبقي الإسلام وبقي الشعب المسلم.
غير أن الحرب التي شنت علي الإسلام ودعاته من بعض الحكام (الوطنيين)! العلمانيين والمتغربين في بعض الأقطار العربية والإسلامية- بعد استقلالها- كانت أحد عداوة، وأشد ضراوة، وأعتي قساوة، من حرب المستعمرين.
ولا يوفوتنا هنا أن ننبه علي نوع من الردة لا يتبجح تبجح المرتدين المعالنين، فهو أذكي من أن يعلن الكفر بواحا صراحا، بل يغلفه بأغلفة شتي، ويتسلل به إلي العقول تسلل الاسقام إلي الأجسام ، لا تراه حين يغزو الجسم، ولكن بعد أن يبدو مرضه، ويظهر عرضه، فهو لا يقتل بالرصاص يدويّ، بل بالسم البطيء، يضعه في الدسم والعسل والحلوي، وهذا يدركه الراسخون في العالم، والبصراء في الدين ولكنهم لا يملكون أن يصنعوا شيئا أمام محرّفين، لا يمكنون من أنفسهم ، ولا يدعون للقانون فرصة ليمسك بخناقهم، فهؤلاء هم (المنافقون). الذين هم في الدرك الأسفل من النار، الذي يلقون الناس بوجهين، ويتكلمون بلسانين، لسان مع أهل الدين، ولسان مع اللأدينيين:{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلي شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}(البقرة: 14).
إنها (الردّة الفكرية) التي تطالعنا كل يوم أثارها في صحف تنشر، وكتب توزع، ومجلات تباع، وأحاديث تذاع، وبرامج تشاهد، ومسلسلات تعرض، وتقاليد تروج، وقوانين تحكم.
وهذه الردة المغلّفة- في رأيي- أخطر من الردة الكشوفة، لأنها تعمل بإستمرار، وعلي نطاق واسع، ولا تقاوم كما تقاوم الردة الصريحة، التي تحدث الضجيج ، وتلفت الأنظار، وتثير الجماهير، وهذا ضرب من الكيد الخبيث، والمكر الكبار لأعداء الأمة.
إن النفاق أشد خطراً من الكفرالصريح، ونفاق عبد الله بن أبي ومن تبعه من منافقي المدينة أخطر علي الإسلام من كفر أبي جهل ومن تبعه من مشركي مكة.
ولهذا ذم القرآن في أوائل سورة البقر: {الذي كفروا} ، أي المصرحين بالكفر في آيتين إثنتين فقط: {الآيتان: 6،7،} وذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية:{الآيات:8-12}
إنها الردة التي تصابرنا وتماسينا ، وتراوحنا وتغادينا، ولا تجد من يقاومها، إنها _ كما قال شيخ الإسلام الندوي- ردة ولا أبا بكر لها!
أما الإستسلام للجبابرة والمستكبرين في الأرض بغير الحق بالتبريرات المختلفة التي يتمسح بها الناس من أمثال وأشعار، فإن هذا المنطق التبريري للظلم الصارخ لا يقبل في ميزان الإسلام، ولا يصلح في مجال السياسة، ولا يستفيد منه إلا الجبابرة والمستبدون، المسلطون علي الناس، ليطول بقاؤهم، ويستمر طغيانهم.
بل رأينا القرآن يدين هذه الشعوب التي تستسلم للطغاة، وتتبع أمرهم، وتسير في مواكبهم طائعة منقادة، متحملة الإثم مع سادتهم الجبابرة المستكبرين في الأرض، كما قال تعالي علي لسان نوح عليه السلام يشكو من قومه:{قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} (نوح: 21).
وفي السنة جاءت أحاديث تحذر من السير في ركاب الظالم، أو الطاعة له في معصيته، أو تصديقه بكذبه، أو عونه علي ظله.
وقد ذكرنا بعضها فيما سبق، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام:
"السمع والطاعة حق علي المرء المسلم، فيما أحب وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
" من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ...." إلخ الحديث .
وقال عن أمراء السوء الذين لا يهتدون بهديه، ولا يقتدون بأمره، "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وهذه النصوص كلها توجب علي الأمة: ألا تطبع أمر هؤلاء المسرفين، ولا تتبع أمر هؤلاء الجبارين، ولا تركن إلي هؤلاء الظالمين، حتي لا يحيق بالأمة ما حاق بمن اتبعوا أمر الجبابرة في عاد وثمود وغيرهم من المعذبين الهالكين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين