موسم العبادة

الشيخ: مجد مكي
إن للزراعة مواسم، وإن للتجارة مواسم، وإن للدراسة مواسم.
فإذا جاء موسم الزرع شمَّر الزارع عن ساقه، فحرث وبذر، وجدَّ ودأب.
وإذا جاء موسم البيع عرض التاجر بضاعته، وأقام عليها نهاره، ووضع في ترويجها ذهنه ويده.
وإذا جاء موسم الامتحان ترك التلميذ لهوه وسهر ليله وعكف على كتابه.
ورمضان هو موسم العبادة للمؤمنين.
ـ وإذا كان الزارع يتعب نفسه بالحرث والبذر أملاً بيوم الحصاد، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرعوا من الصالحات لتحصوا ثمراتها حسنات يوم يقوم الحساب.
ـ وإذا كان التاجر يكد ويدأب ليربح المال وينجو من الضيق والخسار، فهذه هي التجارة الرابحة:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ(13) ]. {الصَّف}..
ـ وإذا كان التلميذ يدرس خوفاً من السقوط يوم الامتحان، والفضيحة بين الرفاق، فإن الامتحان الأكبر أمامنا، هذا امتحان غاية الخسارة فيه أن يضيع التلميذ سنة ثم يعود فيصلح ما أفسد، ويتدارك ما ضيَّع، وذلك امتحان تعلن فيه النتائج على رؤوس الخلائق جميعاً، ينادي المنادي: أن لقد نجح فلان ابن فلان، فتتلقاه ملائكة الرحمة بالرعاية والإكرام إلى دار النعيم المقيم، وقد سقط فلان ابن فلان، فتتسلَّمه زبانية النار بالشدة والهوان إلى دار العذاب الدائم.
هنالك الخسارة الحق: [فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ] {الزُّمر: 15 ـ 16}.
هل تعرفون منى (اتقوا)؟ إننا نقولها دائماً ونسمعها، وكثير منا لا يعرف معناها. كلمة (اتقوا) من (الوقاية) يقال: اتقى فلان البرد بالمعطف، أي: اتخذه وقايةً منه. واتقى الفارس الطعنة بالترس، أي: وقى نفسه به، فاتقوا الله معناها: قوا أنفسكم من عقابه.
فبماذا نتقي عذاب الله؟ بالقرآن. ورمضان أحق الشهور بتلاوته والإقبال عليه وتدبره، وفي الحديث الصحيح: (وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم والترمذي.
أفلا تحبون أن تنزل السكينة على قلوبكم، وأن تستشعروا الطمأنينة، وأن تتخلصوا من الهمّ والقلق والاضطراب؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أولا تحبون أن تغشاكم الرحمة من الله؟ ومن غشيته الرحمة فقد نال كل خير ونأى عن كل ضرر وكل ألم؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أولا تحبون أن يكون جلساؤكم الملائكة؟ هل أشرف من هؤلاء الجلساء. وأن يُطْرَد من حولكم الشياطين: شياطين الإنس والجن؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أولا ترون الناس يحرصون على الشهرة، وعلى ذيوع الاسم؟ إن غاية ما يتمنونه أن يعرفهم أهل الأرض، وما هذه الأرض بالنسبة إلى هذا الكون الواسع؟ والذين يقرؤون القرآن ويتدارسونه بينهم يعرفهم أهل الملأ الأعلى وتصل أخبارهم إلى من في السموات ويذكرهم الله فيمن عنده. أفلا تريدون أن تنالوا هذا الشرف العظيم الذي لا شرف بعده؟ فاتلوا القرآن وتدارسوه.
إن ليالي رمضان هي مواسم الزرع لمن أراد أن يزرع للآخرة.وهي مواسم التجارة لمن أراد الربح الباقي في الآخرة، وهي مواسم الاستعداد للامتحان لمن أراد أن ينجح في الامتحان الأعظم في الآخرة.
ولكن الغافلين المساكين أصيبوا بقصر النظر، فلا يرون إلا ما بين أيديهم، يحسبون أن حياة الإنسان هو هذه الأيام التي يقضيها في الدنيا. ولو وضع على عينيه نظارات الشرع ـ لمداواة ما به من قصر النظر ـ لرأى أن الطريق أمامه طويل، وأن السفر بعيد، وأن هذه الحياة الدنيا مرحلةٌ من مراحل العمر.
إننا كركب مسافرين، يقطعون ما بين المشرق والمغرب، نزلوا ساعة يستريحون فالأحمق يحسب أن الطريق انتهى. فيأكل زاده، ويسيّب دابته، ولا يعد العدة للمسير، فإذا قامت القافلة، ومشت تخلف عنها، أو ضل في البادية أو مات من الجوع.
والعاقل من يعلم أن عليه يريح راحلته، ويزودها بالزاد ليقطع الطريق عليها، ويوفر زاده ليكفيه أيام الرحلة.
ما هذه الحياة؟ وما مدتها؟ سبعون سنة؟ مئة سنة؟ مئة وخمسون سنة؟ هل يعيش أحد أكثر من مئة وخمسين سنة؟ وما مئة وخمسون سنة بالنسبة إلى الآخرة !!
بل هبوه أنه عاش عمر نوح، قريباً من ألف سنة؟ إنها كيوم واحد من أيام الآخرة، بل إن في الآخرة يوماً مقداره خمسون ألف سنة.
فأين نحن من ذكر الآخرة؟ لقد نسيناها وشغلتنا عنها ترهات الدنيا وهموم العيش والتقاتل على حطام فانٍ لا يبقي منه بعد الموت شيء.
إننا نرى الأموات تمر بنا مواكبهم كل يوم، ولكنا نظن أن الموت كُتب على الناس كلِّهم إلا علينا، ونُبصر القبور تملأ الأرض ولا نفكر أننا سننزل يوماً إلى القبر.
ولو أنا إذا متنا تركنا=لكان الموتُ راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا=ونُسأل بعدها عن كل شيء.
نتجاهل الموت وهو نازل بنا وبعد الموت الحساب الدقيق عن كل عمل عملناه، أحصاه الله ونسوه، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يُفاجأ به العبد يوم القيامة يوضع تحت عينيه: [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا] {الإسراء:14}.
إذا أنكر أسكت الله لسانه، وأشهد عليه جوارحه، فشهدت اليد بما بطشت أو سرقت، والرِّجل بما مشت إلى الحرام، والعين بما رأيت من الحرام، والفرج بما باشر من الحرام.
لا تعجبوا، فأنتم ترون الشريط المسجل وتسمونه ينطق.. هذا في الدنيا ومن عمل البشر بتوفيق الله وهدايته... أفتنكرون أن تشهد عليكم الأعضاء في الآخرة، وأن ينطقها الله الذي أنطق كل شيء؟
فتعالوا نتخذ من رمضان موسماً للرجوع إلى الله، وتعالوا نَتْلُ القرآن ونتدارسه لعلنا نكون من هؤلاء الذين تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين