في ميدان التربية
الشيخ العلامة : محمد الغزالي  
للسعي في تحصيل الفضائل واستكمال الأمجاد، سعادة يستشعرها الرجال المكافحون ويستطيبون بها مراحل الكفاح وإن طالت.
وربما كان هذا الإحساس المقارن نفحة من السماء، تذكر الإنسان بأصله العريق، وتنعش في مواهبه العليا، وتؤنسه بحياة الطهر والعفاف والترفع، إن حاولت الوساوس الأخرى أن تزل قدمه أو تخلد به إلى الأرض.
 
وإغراء التوابين والمتطهرين بنشوة هذا الإحساس الراقي بعض ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوصي الشباب بالتسامي عن الدنايا قائلاً: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ـ لعنه الله ـ من تركها خوفاً من الله آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه).
 
فخطورة النظرة الخبيثة، أنها محور لما يسميه علماء النفس بتداعي المعاني.
 
إن الفيضان المدمر قد يبدأ ثقباً صغيراً في السدود الحاجزة.
والحريق المستعر قد تبدأ شرراً خفيفاً.
 
كذلك تمرغ المرء في المعصية وتقلبه في حمأتها إنما ينشأ عن تهاون واستخفاف.
 
النظرة العابرة تعقب قلقاً وخواطر مبلبلة، وتثير في نواحي النفس لغطاً وحيرة... وأدنى مراتبها أنها لو لم تجلب شراً عاجلاً فهي عائق عن الفضيلة والتجرد لها، وكما قال الشاعر:
 
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً          لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر      عليه ولا عن بعضه أنت صابر
 
أما حين يملك الرجل إرادته ويحكم نظره ويراقب ربه ويمشي في طريقه وهو موقن بأنه لن يغيب لحظة عن شهوده وهو القائل: [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] {غافر:19}.
 
أما حين يدأب على متابعة الحظوة في سبيل الاستقامة والكرامة ولا تزيده الأيام إلا استهجاناً للآثام واحتراماً للفضائل، فإنه يرزق قلباً حياً يقر بالطاعات ويبتهج بأدائها، ويفرح بالبعد عن مساخط الله، فرحة الصحيح بالعافية من الأدواء والعلل.
للكسل لذة يتحدث عنها العجزة والقاعدون.
 
وللعمل لذة يعرفها أولو النجدة والبأس ويبلغون في ظلها أهدافهم القصية.
وشتان بين هذه اللذة وتلك..
 
للنكوص لذة يتشبث بها الهاربون الجبناء، وللمغامرة لذة يطير بنشوتها بغاة العلا، وعلى فم أحدهم:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد        لنفسي حياة مثل أن أتقدما
شتان بين لذة ولذة...
وللتهاون بالصلاة والنوم عنها لذة صغيرة، فإن أقام الصلاة ثقيل مرهق للكثير: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ] {البقرة:45}.
ولكن لذكر الله وإقام الصلاة سعادة يشعر بها قوم آخرون وتتجدد بها قواهم.
 وفي الحديث: (يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد. يضرب مكان كل عقدة ـ عليك ليل طويل فارقد ـ فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإذا توضأ انحلت عقدة فإذا صلى انحلت العقد الثلاث، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).
ومن التغرير السيء أن تحسب طريق الحق لا مؤونة له ولا جهد فيه.
وأسوأ من ذلك أن تنتظر الفلاح فيه باللهو واللعب وإتباع الشهوات.
إن الأمر يحتاج عناء طويلاً وإعداداً كبيراً، وقد مضت سنة الرجولة والبطولة من قديم أن من طلب عظيماً خاطر بعظيمته، ولأمر ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
وفي أيامنا هذه كثرت المغريات والمنسيات، حتى أصبح الطريق إلى الله يتطلب عزماً أشد، وبصراً أقوى، وهمة أبعد.
أصبح اللهو واللغو فنوناً لا تحصى، وركنت إليها النفوس حتى لكأنها تنزلق إليها من منحدر لا قرار له.
وازدحم الناس على موارد العيش يقتتلون على نيل المستطاع منها، فهم في تنافس وتطاحن، لا يبقيان على إيثار أو رحمة.
وحضارة الغرب أساسها الصناعة والتصنع، فهي أبعد ما تكون عن الطبيعة ومجالاتها الرحبة، وبقدر ما ابتعدت الأمم في ظلها عن بساطة الفطرة ابتعدت كذلك عن الله جل شأنه، فالرجل المعتاد يجد الساعات لمطالعة الغشاء في شتى الصحف والكتب ولا يجد الدقائق لقراءة آي من القرآن.
أما جبهة القوت المترامية وراء الدواوين والدكاكين والمصانع والمزارع، فإن الضجة التي تسودها تصم الآذان... وقلما تستبين في بغامها الممتد صوتاً بمجد الله ويذكر آلاءه.
على أن هذا الحجب كلها لا تعوق سائراً ولا تصد رائداً...
إنهم وهم يهول من بعيد وينكشف باطله من قريب...
وأصحاب الإيمان عندما يقومون بحق الله عليهم قد لا تكون هذه العقبات عرضة لهم، بل حفزا لهممهم، وضياء إلى أهدافهم...
ضم إلى هذا أن الله عزوجل يبارك كل جهد في سبيله مهما ضؤال، وأن اتجاهات الإرادة الإنسانية تعدل عنده القوة التي يثب بها جناح طائر ولو كانت تنتقل بخطوات سلحفاة.
فأيما عبد وصل فكره بربه وأحب أن يتجه له بعمله فإن ما يلقاه من حفاوة وتقريب وما ينقذف في قلبه من إشراق وإقبال أضعاف أضعاف ما يبذل من سعى.
[وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ] {الشُّورى:23}.
بل أن تطلع النفس إلى حسنة ـ ولو لم تفعلها ـ يكتب لها حسنة.
فإذا ارتقى الأمل في صنع الخير إلى عمل فقليله يكثر وضعيفه يوثق.
وظنون المغفرة والرضوان فيه تقبل وتصدق، كما قال الله تبارك وتعالى في حديثه القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
والحديث تصوير سمح لما وضعه الله في نيات الخير ومساعي الكمال من قبول وبركة.
فلا تستهينن بباعث طيب يتحرك في ضميرك، استجب له فربما كان المفتاح لعالم كبير من الخيرات والمغانم يرتفع بك إلى عليين، ويدفع بك في أقدام النبيين والصديقين والشهداء والصالحين...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: منبر الإسلام السنة 16 ربيع الآخر 1378 عدد 4.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين