لا صوم لبخيل

الشيخ: علي العماري

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.
 
ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنَّه ما سئل‏ عن شي‏ء قط فقال: لا. إن كان عنده أعطي،  وإن لم يكن عنده وعد وعدا كريما. وكان يعطي‏ عطاء من لا يخاف الفقر.
 
هذا هو المثل، والقدوة الصالحة لكل مسلم‏ ومسلمة: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21} .
 
والصوم عبادة لم تشرَّع عبثاً، وإنما شرعت‏ لغايات نبيلة كريمة، تهدف إلى خير الفرد، وخير المجتمع.  فما لم تتحقق هذه الغايات فالجدوى قليلة من هذه العبادة. فكل عمل أريد منه غاية معلومة كان لابدَّ للاعتداد بهذا العمل أن تتحقق هذه‏ الغاية. .
 
ولعل من أبرز الغايات في فريضة الصوم أن يشعر الغني بحاجة الفقير حين يلذعه ألم الجوع والعطش.  فيرق قلبه، وتسخو يده، ويعطي مما رزقه الله،  وإذا تكرر هذا منه شهراً في كل عام ذاق لذة الإعطاء، وأصبح الجود سجية فيه فيستريح للبذل‏ كما يستريح للكسب.
 
أما إذا صام، وقام، وتعبد وتهجد، ثم ظلَّ‏ محكم الإقفال على يديه، لا يشعر بحاجة المحتاج،  ولا يبذل معروفه لقريب أو غريب، ولا يبادر لفعل الخير حين يهيب به داعي الوطن فلا فائدة من صيامه وقيامه، وتعبده وتهجده، بل إن‏َّ الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد أن مثل هذا بعيد عن الإيمان الصحيح، فقد سئل صلى الله عليه وسلم:  أيكون المؤمن بخيلا؟قال: لا.
 
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً،  ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً).
 
وإذا كان الأمر كذلك - وهولا شك كذلك - كان صيام البخيل شبحاً لا روح فيه، وكيف يقبل‏ صيام مسلم ينفي عنه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم الإيمان.
 
وقد كان أول ما يبدأ به صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العيد الحثّ على الصدقة، فقد روي‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد من يوم الفطر فيصلي بالناس تينك الركعتين ثم يسلم فيستقبل‏ الناس، فيقول: تصدقوا. وكان أكثر من يتصدق‏ النساء. . .
 
وفيما روي عنه صلى الله عليه وسلم، واشتهر على ألسنة الدارسين والوعاظ، قوله: (صوم‏ رمضان معلق بين السماء والأرض لا يرفع إلا بزكاة الفطر).
 
وهو حديث صريح في أنَّ صوم البخيل غير مقبول،  وإخراج الزكاة أول مراتب الجود، ووراء ذلك‏ مراتب كثيرة تصل إلى حد ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعطي حتى لا يبقى‏ عنده شي‏ء، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعيش‏ في نفسه وأهله عيشة الفاقة حتى ليمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيته نار إن هو إلا التمر والماء!.
 
وقد رأى بعض العلماء أنَّ أداء زكاة المال تكفي‏ في نفي صفة الشح عن المسلم، ولكن ذلك يرده‏ قوله تعالى: [لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}  .
 
ووجه الاستدلال بالآية أن نسقها يدل على أن‏ قوله تعالى: [وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ] {البقرة:177} لا يراد به‏ الزكاة، لقوله سبحانه بعده:[ وَآَتَى الزَّكَاةَ] {البقرة:177} .  فلما عطف الزكاة عليه دل على أنه أراد بالأول‏ شيئا مغايراً لها، وهو الصدقة التي قد تكون واجبة وقد تكون مندوبا إليها.
 
وحديث القرآن الكريم عن الشح والأشحاء ضافي الذيول، بعيد المدى، وهو حديث مخيف،  ينذر هؤلاء بأنهم لا مكان لهم في الأبرار، ولا مكان‏ لهم عند الله.
 
وسنكتفي هنا بقطرة واحدة، ولعلنا نعود إلى الموضوع في فرصة أخرى.
جاء في سورة محمد[إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ(36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ(37) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(38) ]. {محمد}..
وهذه الآيات قد نفَّرت من البخل أبلغ التنفير،  وهي -مع وجازتها- تعتبر أوسع حديث عن البخل‏ في القرآن الكريم.
 
وقد جاءت هذه الآيات في آخر سورة القتال‏ لتؤكد أن النصر كما يكون ببذل الروح يكون ببذل‏ المال، وأنه لا فرق بين من يضن بدمه في سبيل‏ الله، ومن يضن بماله، وأن الناس إذا لم يطيعوا الله ورسوله، وينفقوا من أموالهم فقدوا المعنى‏ الذي كانوا به ناساً، يعمرون هذه الأرض،  ويقيمون دين الله، وكان حقاً على الله أن يستبدل‏ بهم غيرهم يكونون أطوع لله ورسوله، وأجود بأموالهم.
 
والآيات مبتدأة ببيان حقيقة الدنيا، فهي لهو ولعب، تمضي سريعة، ولا يبقى منها في يد الإنسان‏ شي‏ء، ومختومة بالتوعد من الله تعالى بأنَّه قادر على أن يأتي‏ بقوم آخرين لا يفعلون كما يفعل هؤلاء الذين‏ يبخلون، ويعصون أوامر الله سبحانه.
 
وقد أبانت عن أثر خليقة الشح في النفس‏ الإنسانية، فهي إذا هيَّجت دمَّرت، فالله سبحانه  يدعو الناس، بل يدعو المؤمنين المتَّقين إلى بذل‏ شي‏ء يسير من أموالهم لأنه يعلم أنه لو طلب منهم‏ أن يبذلوها كلها، لبخلوا، وظهرت أحقادهم،  ولو كان البخل غير متمكن من الإنسان هذا التمكن‏ ما وقف هؤلاء من هذه الدعوة الكريمة هذا الموقف: وإن تؤمنوا وتتقوا. . . لا يسألكم أموالكم، أي: لا يشق عليكم بطلب الأموال كلها، لأنه إن سألكم إياها كلها، وأجهدكم بخلتم مع الإيمان‏ والتقوى، وهذا غير مقبول.
 
أما ما يدل في هذه الآيات على أنَّ الشح رذيلة بالغة الحد في الشر، فقوله سبحانه أولاً:  [وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ] {محمد:37} فسواءً عاد الضمير في«يخرج» على الله تعالى، أو على البخل، أو على سؤالهم‏ أموالهم مع الإجفاء في السؤال، فالمعنى أن طلب‏ المال كله مدعاة إلى إخراج الأحقاد من النفوس، وأن يكون الأمر كذلك حتى يكون هذا الطلب‏ مكروها عند النفوس.
 
وقوله سبحانه ثانيا: [وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ] {محمد:38} وأكثر المفسرين على أن (عن) هنا حلَّت محل (على) على معنى: أن من يبخل فضرره‏ عائد على نفسه.
 
وقليل من المفسرين من تنبَّه لدقيقة من دقائق القرآن الكريم، فأقروا (عن) على معناها، والمراد كما فهم هذا القليل: أن‏ من يبخل فإنما بخله عن داعي نفسه لا عن داعي‏ ربه، ولا عن داعي عقيدته ودينه، ومعلوم‏ أنَّ النفس أمارة بالسوء، وأن كل ما يفعله الإنسان‏ من الشرور ليس عن داعي ربه، فلماذا خصَّ‏َّّ البخل بهذا؟
 
لعل السر في ذلك هو الإشارة إلى أن‏ الشحَّ راسخٌ في النفس فيصدر عنه البخل، ومن هنا فلمح التفرقة بين الشح والبخل، فالبخل المنع،  والشح هو المعنى النفسي يصدر عنه، وهذا على ما رآه بعض أصحاب الدقائق.
 
وتصدير الآيات بوصف الدنيا بأنها لعب ولهو منفِّر أشد التنفير من البخل، فإن هذا الوصف‏ يتضمن أنَّ الآخرة هي الجد كل الجد، وهي خير وأبقى، فحين يدعى الإنسان إلى الإنفاق عليه‏ أن يدرك هاتين الحقيقتين فيسارع إلى إجابة ما يدعى إليه.
وكذلك النص هنا على أنَّ ضرر البخل عائد على نفس البخيل على التفسير المشهور، أو صادر عن لؤم النفس، ففي هذا الصنيع تقبيح للبخل،  وحط منه.
 
وقوله تعالى: [وَاللهُ الغَنِيُّ] {محمد:38} فيه توبيخ شديد على البخل، فالله تعالى حين يدعو الناس إلى الإنفاق‏ لا يدعوهم لأنه في حاجة إلى أموالهم، فإنَّه الغني سبحانه،  ولا غني غيره.
وأخيرا هذا التهديد الشديد في ختام الآيات:  [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] {محمد:38}.
هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم، وبعض‏ ما جاء في الأحاديث النبوية عن رذيلة البخل،  فهل يأمل البخلاء بعد ذلك أن يتقبَّل الله منهم‏ صياماً؟!.  
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر السنة السابعة والثلاثون رمضان 1385هـ ، الجزء السابع.



 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين