قراءة في غزوة خيبر ـ 1 ـ

الدكتور عثمان قدري مكانسي

 الخروج إلى خيبر 
قال محمد بن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة - حين رجع من الحديبية - ذا الحجة وبعض المحرم ، وولي تلك الحجة المشركون ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر
 استعمال نميلة على المدينة 
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي ، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت بيضاء .
 
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى خيبر عامر بن الأكوع ، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع أن يرتجز، انزل يا بن الأكوع ، فحد لنا من هناتك ، قال : فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
 
 والله لولا الله ما اهتدينا       ولا تصدقنا ولا صلينا
    إنا إذا قوم بغوا علينا       وإن أرادوا فتنة أبينا
    فأنزلن سكينة علينا         وثبت الأقدام إن لاقينا
 
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحمك الله ؛ فقال عمر بن الخطاب : وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به فقتل يوم خيبر شهيدا ، وكان قتله ، فيما بلغني ، أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل ، فكلمه كلما شديدا ( جرحه جرحاً شديداً ) ، فمات منه ؛ فكان المسلمون قد شكوا فيه ، وقالوا : إنما قتله سلاحه ، حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأخبره بقول الناس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لشهيد ، وصلى عليه ، فصلى عليه المسلمون .
إضاءة
1-          إن المجاهد لا يعرف الراحة ، فمهمّته الدعوة إلى الدين وحمل راية الحق ، فما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الحديبية حتى مكث فيها أقل من شهرين ، أراح جنده من وعثاء سفرهم ، وأعدّهم لمهمّة جديدة .
2-          اغتنام الفرص من أولويات الداعية ، فحين أمِنَ المسلمون في صلح الحديبية مكرَ قريش في هدنة بين الطرفين انطلق يؤمّنُ حدودَ دولته الجديدة ومجتمعَ المسلمين من جهة يهود الذين ما فتئوا يتربصون بالمسلمين ، وكانت خيبرُ آخرَ حصونهم في الحجاز ، وهم على عداوته مصممون ، وفي تأليب القبائل عليه ما ضون.
3-          من أساليب القيادة أن ينيب النبي صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين – في غيابه- على المدينة ، فلما انطلق بجيش المسلمين إلى خيبر – شمال المدينة بمئتي كيلومتر تقريباً – استعمل عليها ( نميلة بن عبد الله الليثي ) وذكر ابْنُ هِشَامٍ أنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم استعمله على خَيْبَر بعد فتحها . ونميلة هذا قتل مِقْيَسَ بن صُباَبة يوم الفَتْح، وهو من قومه وكان النّبي ـــ صلّى الله عليه وآله وسلم ـــ أهدر دم مقيَس لأنه قتل غيلة رجلاً من المسلمين قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ ،ودفع المسلمون لأخيه مقيَس ديته ؛ فأخذها ثم رصد قاتلَ هشام حتى قتله وارتدّ، وهرب إلى مكة ،فلما كان يوم الفتح قتل نُميلة ُ مِقْيَسًا : وفي ذلك تقول أخت مِقْيَس:
 
          لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةُ قَوْمَهُ            فَفَجَّعَ أَضْيَافَ الشِّتَاءِ بِمِقْيَسِ
والحقيقة أنْ لا كرامة لمن يقتلُ مسلماً ثم يرتد إلى جاهليته ، نعوذ بالله من الغيّ والضلال .
4-          من أساليب التربية النبوية أن يحمّل القائد العظيم صلى الله عليه وسلم بعض جنوده الشجعان الأذكياء مهمّات يدربهم فيها على تحمّل المسؤولية فكان أن دفع رسولُ الله راية الجيش لابن عمه وصهره علي رضي الله عنه ، وسيمر معنا أنه رضي الله عنه كان أهلاً لذلك فهو فتى الإسلام وبطل الميدان.
5-          إن التشويق للجهاد والحضَّ عليه يرفع المعنويات ويدفع إلى المعركة بنشاط ويدفع السأم والملل والخوف . فهو أسلوب رائع يحفظ نفسية الجيش في أعلى المستويات ، وهذا ما فعله عامر بن الأكوع في رجزه المشهور الذي تناقله الخلف عن السلف . معان رائعة وصوت جهْوري وأداءٌ ممتاز . وما الأناشيد التي نسمعها في الثورات وهتافات الانتفاضات الشعبية ضد العدو الداخلي والخارجي إلا ثورة إعلامية لها دورها المتميز في شحن النفوس وتهيئتها للمعركة .
6-          يرى الرسول صلى الله عليه وسلم من صدق عامر بن الأكوع في هزجه ورجزه ما يثبت في قلبه أن هذا الرجل مودّع ، وينزل الوحي عليه يثبت ما وقر في نفسه صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر ، فيبشره بلقاء الله تعالى بقوله ( يرحمك الله) ويسمع الفاروق هذه البشرى وكان يرجو أن يعيش هذا الرجل ليفيد في أجواء الجهاد أكثر فيقول : (وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به) ولكنّ الأمر كله بيد الله سبحانه . وما كان قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا البوحَ بقدر الله تعالى وإرادته.
7-          الهداية من الله ( لولا الله ما اهتدينا) وما علينا سوى طلب الهداية والسير في سبيله ، ويرى الله تعالى منا صدق التوجه – وهو الكريم الهادي – فيهدينا سبحانه ، وعلى هذا نفهم السؤال المتكرر كل يوم عشرات المرات ( اهدنا الصراط المستقيم ) . وما الثبات الذي رأيناه في ثورتي مصر وتونس ، وما نراه في ليبيا واليمن ، وما نزال نراه كل يوم في ثورة سورية أمام باطل الإجرام الدموي اليومي فيها إلا ثمرة الهداية الربانية للأبطال الميامين الذين يعلمون أن الحق عزيز ، وأن ثمن النصر غالٍ.
8-          يظن الناس كما ظن الصحابة الكرام أن الشهادة لا تكون إلا أن يُقتل الإنسان بسهم أو طلقة رصاص أو طعنة سيف بيد العدو ، إن وسائل الشهادة كثيرة كثيرة ، والنية واحدة ( الصدق مع الله تعالى ) فقد رجع سيف ابن الأكوع عليه فقتله ، فكان شهيداً ، بل إن المؤمن لينال الشهادة وهو على فراشه ما دام صادقاً في طلبها . قالها صلى الله عليه وسلم ( إنه لشهيد) فأكدها مرتين بإنّ ولام التأكيد . وشهداؤنا في هذا الزمن أكثر من أن يحصوا ، رحمهم الله وأجزل ثوابهم وألحقنا بهم شهداء .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين