التشاؤم والتفاؤل في نظر الإسلام

روى مسلم أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا طيرة، وخيرها الفأل»، قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم».

ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل، ولا تردُّ مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت».

كان أهل الجاهلية إذا خرج أحدهم لحاجة فرأى الطير طار عن يمينه، تيمن به واستمرَّ فيما عزم، وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع عما عقد ونوى عليه فالطيرة تستعمل في المكروه، والفأل في المحبوب، وبقيت بقايا من ذلك في كثير من المسلمين، فنهى الإسلام عن ذلك.

فالتفاؤل هو سنة الحياة، والطيرة أو التشاؤم نشوزها، والتفاؤل سنة الحياة لأنه سنة العمل، وسنة الفطرة التي يدين بها الوجدان قبل أن تدين بها الأذهان. فكل منا إنما دخل هذه الحياة وهو أضعف ما يكون حولاً وحيلة، دخلها عارياً ساهياً، قليل الأدوات محتاجاً إلى كل عون، في الطعام، واللباس، و المأوى، والوقاية، [وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28} ، وكل علامة من علامات هذا الضعف البالغ، هي في الوقت نفسه علامة من علامات الثقة بالله، والاعتماد على سنة الوجود، وعلامة من علامات التفاؤل الأصيل الذي يمتزج بطبائع الأشياء.

وفي التفاؤل ارتياح واستبشار، وفوز وظفر، وهو عنوان الثقة بالله، وحسن الظن به، فهو يبعث في النفس نشاطاً، وفي الروح قوةً، وفي العزم شدَّةً، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل.

روى الترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع: يا نجيح، يا راشد».

وروى أبو داود بإسناد حسن عن بريدة: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه».

أما الطيرة والتشاؤم فإنها تبعث في النفس الإحجام، واليأس من الظفر، وتدعو إلى التخاذل والإيحاء بالفشل، فتضعف الروح المعنوية ويسوء الظن بالعناية الإلهية، قال تعالى:[ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87}.

روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: «الطيرة شرك»؛ لأن من عارضته المقادير في إرادته، وصدَّه القضاء عن طِلْبته، وكان من المتشائمين، جعل التشاؤم عذراً لخيبته، وغفل عن قضاء الله عزَّ وجل ومشيئته.

وهذا ما قصَّه القرآن الكريم علينا عن أقوال رسل أربعة: قوم صالح قال تعالى:[قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ] {النمل:47}. فردَّ عليهم الله تعالى:[ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ] {النمل:47}.

وقوم موسى قال تعالى: [وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ فردَّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله:﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(131)]. {الأعراف}.

وقوم عيسى عندما أرسل الله إليهم اثنين بعد عيسى ثم عزَّزهما بثالث:[قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] {يس:18} فأجابهم الله تعالى:[قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ] {يس:19}.

وأخيراً قوم نبينا محمد صلوات الله عليه، فقد كان المنافقون والكفار من اليهود وغيرهم إذا أصاب الناس في المدينة المنوَّرة سوء يقولون: هذا من شؤم محمد!.

قال تعالى:[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا] {النساء:78}. يريد فما لهم لا يعلمون حقيقة التوحيد، وأنَّ كل شيء من عند الله فهو خالق المنافع والمضار.

ثم أعقب ذلك بإرشادهم إلى حقيقة أخرى، وهي سنة الأسباب والمسببات، وأن الإنصاف لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب، وجهل بتعرف السنن، وعدم اتقاء أسباب الضرر. فينبغي أن يرجع إلى نفسه حينئذ يلومها في غير يأس وشؤم في الحياة، وأن يأخذ مما وقع له درساً إلى تهذيبها وإرشادها، فتتفتح أمامه آفاق الآمال، وتمتلئ جوانحه بالأماني، فقال تعالى:[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا] {النساء:79}.

يقول توماس ارنولد في رسالة له عنوانها: «العقيدة الإسلامية»:

«إن الإيمان بقضاء الله وقدره، وأنَّ الخير منه والشر منه، وأنَّ كل شيء يحدث إنما يحدث بإرادته سبحانه، ولا يستطيع مخلوق أن يفعل ما لم يرده، كما قال تعالى: [وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] {الصَّفات:96}.

هذه العقيدة قائمة على آيات في القرآن الكريم صريحة بذلك، قال تعالى:[ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ] {المائدة:18}. [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {التوبة:51}.[وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] {الإنسان:30}.

ولكن في الوقت نفسه تجد آياتٍ في القرآن الكريم تشير إلى مسؤولية الإنسان الذي وهبه الله العقل، ودعاه إلى الخير، وحذَّره عاقبة الشر مما جعل الاختيار في الخير والشر مبنياً على إرادته واختياره وحده، فقال تعالى في صدد الكلام على عقاب الذين كفروا يوم القيامة: [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] {آل عمران:117} ، [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11}.

وهذا على أننا نجد الإسلام كما عرف عنه في كل أطوار التاريخ بأنه دين أخلاقي، يُشدِّد على أتباعه في التمسك بالواجبات الأخلاقية، وإن فيما يفرضه عليهم من الاعتقاد بأن كل شيء بأمره، وأن كل خير إنما هو طوع مشيئته وإرادته، ما يغرس في نفوسهم التبجيل وتكريم النفس مما يظهر أثره في سلوكهم الخارجي.

وكذلك في أوقات المحنة والآلام ترى لهذه العقيدة أثرها في الكفِّ عن الشكوى، وتمجيد خُلُق التسليم والرضا الذي هو من سمات حياة الإيمان.

فإذا مسَّهم ضر أو نزل بهم نَصَبٌ كانوا تحت تأثير هذه العقيدة أكثر احتمالاً وصبراً حين يذكرون أن هذا من ربٍّ كتب على نفسه الرحمة، رؤوفٍ بعباده رحيم.

فعقيدة القضاء والقدر في الإسلام ليست بعقيدة الاستسلام للأقدار والحظوظ، والوقوف موقف الخضوع والخمود.

لذلك كان من التعاليم الإسلامية التي يجب أن يتمسك بها كل تقي ويتثقف بها كل مؤمن أن يثق بالعدل الإلهي، وأن كل ما يحدث له من المصائب إنما هو مقسوم له، فيجب أن يقابله بالصبر والتسليم، إذ هو من فعل الحكيم الخبير، مهما خفيت عن الإنسان حكمته، وغابت عنه أسرار أفعاله، [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}.

ونحن نلمح هذا الدرس يتكرر ويتردد في تأليف علماء الدين، ولاسيما أهل التصوف منهم، وقد صور هذا الدرس في قصة موسى مع العبد الصالح ـ الذي لم يذكر اسمه صراحة في القرآن ـ والقصة معروفة في سورة الكهف، مغزاها أن يعرف المسلمون أنَّ وراءَ ظواهرِ الأشياء بواطن تحمل أسراراً دقيقة، وحكماً خفيَّة، لا يدرك كنهها العقل البشري، ولا يصل على غورها الفكر الإنساني، فيجب اعتقاد الحكمة في أفعال الله تعالى، والخير في تصاريف شؤونه، وإن خفيت عنا حكمه وغابت عن عقولنا أسراره.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 29/8/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين