الصراحة والمداراة والنفاق ـ 1 ـ
الشيخ: محمد أبو زهرة

1 ـ هذه كلمات ثلاث تجري على الألسنة، ومعانيها تتضاد في بعضها وتتقارب حتى يشتبه الأمر في بعضها، فالصراحة تتضاد مع الكلمتين الأخريين، لأنها إعلان، وهما لا يخلوان من كتمان، والمداراة قد تكون في صورة خفيفة، لا تعارض الحق، ولا تبخسه حظَّه، فتكون قريبةً من الصراحة، أو تدخل إليها من النافذة وإن لم يكن دخولها من الباب، وقد تتقارب من النفاق، حتى تصير ضرباً من ضروبه، فهي ذات حَدَّين وذات لونين، أما النفاق فهو والحق نقيضان لا يجتمعان، والقلب الذي يسكنه النفاق لا يسكنه الحق، ولكنه لا يدخل القلب دفعة واحدة، بل يدخل إليه، من أقرب أحوال المداراة له، ولا يزال ينمو ويزيد حتى يربد القلب، ويصير أسود لا يشرق بنور الحكمة، وبذلك يبلغ في النفس أقصاه، ويصبح المنافق ينافق لا لغاية يتغياها، ولا لمصلحة يستهدفها، بل يمرض به، ويصدر عنه من غير تفكير في غاية أو مصلحة، ولقد عبَّر الله تعالى عن المنافقين بأنَّ في قلوبهم مرضاً، وأن الله يزيد مرضهم كلما أوغلوا فيه وساروا في طريقه، كما يسير في التيه إلى أقصاه من ضلَّ الطريق، وسار في الضلال، فكلما أمعن في السير، بَعُدَ عن الجادَّة .

وهذه الألفاظ تستعمل في غير موضعها، ويذم حقها بباطل يحملونه لصاحبها، فقد يرمى المداري المضطر بالنفاق، والكيِّس بالممالأة، كما يرمى الصريح بالغلظة أو العنف، وقد يعتذر المنافق بأنه يداري ويواري، وبأنه يريد حماية الحق، ولا يريد ضياعه، وهكذا تلتبس الحقائق، فَحَقٌّ علينا بيانها.
2 ـ ولنبتدئ بالصراحة وهي كلمة تجري على الألسنة في مقام النطق بالحق، ولا يتمارى أحد في أنها خلق فاضل إذا كانت في موضعها، ولا نرى نحن أنها تستعمل في غير موضعها، لأن ما يسمى صراحة ولا يكون فضيلة لا يعد من الصراحة في شيء، ولكنه قيل سمي باسمها، وحملت هي أوضاره بغير حق، ولتشويه جوهرها.
وإن أصل المعنى في كلمة صراحة في اللغة يتلاقى فيه معنى العلو، والإخلاص تحقق الحق، ومعنى الجمال، فيقال: البناء الشامخ الذي يسامت السماء، وهو مُجَمَّل بأجمل الزينة وأبهى الألوان إنه ـ صَرح ـ وعَلَّل هذه التسمية الأصفهاني في مفرداته فقال: سمي بذلك اعتباراً بكونه خالياً عن الشوائب أي: خالصاً منها . وجاء في القاموس: أنه يقال صَرَحٌ للخالص من كل شيء، ويقال صَرح نسبة ككرم خلص، ويقول الأصفهاني: صريح الحق خلص عن محضه.
وبهذا التفسير اللغوي نجد الصراحة تتلاقى فيها معاني السمو، والإخلاص، ومحض الحق، والجمال في القول والكمال في النفس، والعلو عن سفاسف الأمور، والاتجاه إلى معاليها، وهي بذلك صفة ذوي الأخلاق العالية والنفوس السامية، والقلوب المخلصة، ومن يريدون الحق خالياً من الشوائب .
وأنَّ الصراحة فوق أنها صفة الأعلياء هي الطريق القويم، والجادة المثلى لإعلاء كلمة الحق، وإقامة بنيانه وتشييد أركانه، فهي علو للحق، ولأصحابه، وهي طريقة إعلائه بين الناس.
وإننا نجد الذين يروي التاريخ فضلهم وعلوهم كانوا من الصرحاء الذين لا يداجون، فمن كان في صراحة أبي بكر عندما عارضه عمر رضي الله عنه في مقاتلة مانعي الزكاة، فوقف الرجل الضعيف في بدنه القوي في دينه ووثب إلى لحية صفيِّه وأمسكها يقول له في حزم الأعلياء: ثكلتك أمُّك يا ابنَ الخطاب، أجبَّارٌ في الجاهلية خَوَّار في الإسلام.
 ومن كان في صراحة عمر رضي الله عنه  حين وقف ومعه نفر من المهاجرين يعارض الغزاة الذين أرادوا أن يقتسموا الأرض المفتوحة بينهم، ومازال بهم يسوق الحجة تلو الحجة، حتى واتوا بالحق، واستقاموا على الطريق.
 ومن كان في صراحة علي رضي الله عنه وهو سيف الإسلام الذي شَهَره الله تعالى على الشرك والنفاق، والبغي والفساد في الأرض، ومن يكون في صراحة الأعرابي الذي يقول لعمر رضي الله عنه: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فيحمد عمر الله على ذلك وهو فوق المنبر يتكلم ولا يخشى في الحق لومة لائم.
وهكذا نجد الصراحة كانت ميزاناً يعرف به الحاكمون العادلون، والرعية المدركة، وأهل الحق.
والصراحة صفة أهل الإيمان في كل الأجيال، فقد قال الله تعالى في أوصافِ المؤمنين: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54} .
3 ـ لقد امتاز سلف الأمة بالقول الصريح الخالي من كل الشوائب، الخالص الذي هو محض للحق .
واعتبروا كلمة الحق الصريحة الخالصة من كل الشوائب من الجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله.
ولقد حَرِص فقهاؤنا الأمجاد على الصراحة في كلمة الحق، وأي صراحة أعظم من صراحة أبي حنيفة في قوله لأبي جعفر المنصور عندما أراد حمله على تولي القضاء: لو غرقتني في الفرات على أن أتولى هذا الأمر ما توليت لك حاشية يريدون أن يكرموا لأجلك.
وإنه عندما أظلمت سياسة الملوك وقسا الحكام لم يكن يصلح الأمور إلا صراحة العلماء، وقد كان الظاهر بيبرس يهاب صراحة عز الدين بن عبد السلام حتى أنه قال عندما مات عز الدين: الآن أحسست بملكي، ولكنه ما كاد يعمل ما فيه شدة على الناس بسبب حروب التتر، حتى انبرى له محيي الدين النووي عالم الشام، وإمام جيله، فقد عارضه في فرائض شديدة مرهقة، ومنها إخراج أهل مصر من أراضيهم، ووافقه الأكثرون من العلماء بالترغيب والترهيب، ولكن النووي استمر على معارضته، وامتنع عن الموافقة، حتى لامه الظاهر بيبرس في مكاتبات جرت بينهما، وقد جاء في هذه المكاتبات التي أرسلها النووي في بيان إصراره على قول الحق والصراحة فيه ما نصه: وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد، ولا يمنعني ذلك عن نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب عليَّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم، ونحن نحب السلطان في كل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه.
ولقد التقى الظاهر بسلطانه والنووي ومعه الحق، وأراد أن يحمله بقوة السلطان على الموافقة على رأي غيره من العلماء، وأن يوقع على ما وقعوا عليه، فقال العالم الجليل، وقد وضع رأسه على يمينه: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنَّ الله عليك، وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة ـ الثياب الموشاة بالذهب ـ من ذهب، وعندك مائة جارية لكل جارية حُق من الحلي فإن أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي فتيتك بأخذ المال من الرعية.
لقد نفاه من بعد ذلك إلى بلده، ولكن لم يمنع ذلك النووي من أن يعتز بعلمه، حتى أن الظاهر عندما أراد أن يعيده إلى دمشق أبى، وأصرَّ على ألا يدخلها والظاهر بها.
4 ـ بأخلاق العلماء والقول الصريح والنطق بالحق حُمِىَ الحكمُ الإسلامي بيننا في دياجير الظلام، وإبان الطغيان فقد كان في كل عصر من ينطق بالحق، كما قال الإمام علي رضي الله عنه: لا يخلو وجه الأرض من قائم لله بحجة.
وهكذا رأينا في عصرنا سلسلة من أعظم رجالات التاريخ تنطق بالحق واشتهرت بالصراحة في غير عوجاء ولا لوجاء، رأينا الإمام جمال الدين الأفغاني ومن بعده صفيه وتلميذه وصديقه الإمام محمد عبده، ثم رأينا تلميذهما سعد زغلول، وكانت أقوالهم الصريحة صادعة بالحق، تصخُّ آذان إسماعيل، وتوفيق، وعباس، ثم فؤاد، ورحم الله آخر السلسلة سعداً، وهو يقول لفؤاد في قوة: دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة.
ويجب قبل أن نترك الصراحة وخواصها أن ننبه إلى أمور ثلاثة:
الأول: أنَّ الرجل الصريح السامي ليس من طبيعته أن يُبَيِّت أموراً في الخفاء؛ لأن الصراحة والخفاء نقيضان لا يجتمعان، وأن الرجل الصريح يكون شجاعاً؛ لأن الصراحة لها أعباؤها، ولها آثارها، خصوصاً في العصور التي يسودها النفاق، ويكثر فيها قول الزور، ورمي الأبرياء، فلا يقدم عليها إلا كل قَويٌّ يستطيع أن يعلن ما يقول، ولذلك لا تجد الفتن التي تتخذ من الخفاء والظلام عشّاً تفرخ فيه، يقوم بها الصرحاء الأخيار، وأن الرجل الصريح لا انحراف فيه، بل هو مستقيم النفس، مستقيم الخلق، مستقيم الإدراك، والفتن يتجه إليها المنحرفون في ذات أنفسهم، والمنحرفون في أقوالهم وأفعالهم.
وإن الصرحاء لا يكونون هدامين، ولكن يكونون حُماةً لكل خير، دعاةً له، والفتن دائماً لا يقوم بها إلا الهدامون . والصراحة والفتن ضدان لا يكونان في موضع واحد، وحيث كثر النطق بالحق، وحسن الاستماع إليه، فإن الفتن لا تفرِّخُ ولا تعيش؛ لأنَّ الصراحة تقتلها، ونور الحق يظهرها.
الأمر الثاني: أن الصراحة ليست غلظة، ولا فحشاً في القول، ولا قذفاً للناس، ولا كشفاً للعيوب إنما الصراحة هي النطق بالحق، حيث يقتله الإخفاء، وإعلانه حيث يُلجْلِج الباطل، وكلما كان قول الحق رفيقاً في غير عنف كان أجدى وأبعد أثراً من غير أن يذهب عنصر الجهر به، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي صدع بالحق وجاهر به كان أرفقَ الناسِ قولاً، وأعفَّهم تعبيراً، وألطفهم في قول الحق والتعريف به، وألينهم في المعاملة، ولذلك قال تعالى:[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159} . وليس من الصراحة أن تتجهَّم للناس في اللقاء، ولقد روي أنَّ رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بئس أخو العشيرة وابن العشيرة، ولما لقيه تطلق في وجهه، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: يا رسول الله قلت في الرجل ما قلت، ثم تطلقت في وجهه، فقال النبي الرحيم الرؤوف: متى عهدتني يا عائشة فَحَّاشاً!؟
فالتجهم في لقاء الناس نوع من فحش المعاملة، وبلا شك لا يكون فحش القول من الصراحة في شيء، وليس منها رمي الناس بالشر، ولو كان حقاً، ما دام لا يترتب على الرمي نفع، وإقامة لصرح الحق، وقد رأينا ناساً مفترين، يرمون بعض الناس بكل فسوق القول، فإذا وجه إليهم لوم قالوا: نحن نحب الصراحة، ألا فليعلموا أن الصراحة قول الحق غير المشوب بالفساد، فإذا كان فيه فساد، أو يتأشبه إثم، فليس حقاً خالصاً، ولذلك كان الجهر بالمعاصي ليس من الصراحة وإن من أبعد الناس عن الله يوم القيامة من يجاهر بالمعاصي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين )، قيل: ومن هم يا رسول الله قال: ( من يعمل عملاً بالليل قد ستره الله فيصبح يقول: فعلت كذا، وكذا يكشف ستر الله ).
وليس من الصراحة رمي النساء أو الرجال بالفحشاء، فإن ذلك من شأنه أن يشيع الفاحشة بين الناس، وقد قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ] {النور:19} .
الأمر الثالث: أن الحياء لا يتعارض مع الصراحة، فالحياء إحساس نفس بحق الغير، وامتناع عن قول الفسوق والفجور وامتناع عن كل مالا يراه المجتمع أمراً لائقاً يُقِرُّ به صاحبه، وهذه معان لا تعارضها الصراحة، بل إن الصراحة تتلاقى معها؛ لأن الصراحة هي النطق بالحق الذي ينفع الناس بيانه، ويعد السكوت عنه إخفاءً لما لا ينبغي السكوت عليه، والحياء لا يعارض هذا فلا يصح أن يمتنع شخص عن القيام بقول الحق والدعوة إليه بدعوى أن الحياء يمنعه، فإن ذلك لا يعد حياءً، ولكن يعد ضعفاً واستخذاءً، وفرق بين الحياء والاستخذاء؛ لأن الحياء ضبط نفس، وإحساس بحق الجماعة، وخضوع للمبادئ الفاضلة، والاستخذاء: رضا بالهوان، ورضا بالباطل، وسكوت على الباطل، والساكت عن الحق كالناطق بالباطل.
وإن الأمر الذي يتقرَّر في الأذهان أنه ليس كل نطق بأمر واقع يعد صراحة، بل إن النطق الذي يعد صراحة هو النطق بما يفيد ويجدي هو الصراحة، وهو النطق المستقيم.
إن الوقائع بالنسبة للجهر بها أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ما يكون كشفاً للأستار التي يَضَرُّ المجتمعَ كَشْفُها، كإعلان ما استتر من الرذائل، والكشف عن المخبوء من النقائض، فإن ذلك يضر ولا يفيد ويشيع الشر، ويحرض على الرذيلة، وقريب من ذلك اغتياب الناس، ولو كان صدقاً، وقد قال الله تعالى:[ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ] {الحجرات:12} . سئل عليه السلام عن الغيبة، قال: (ذِكْرُكَ أخاك بما يكره، فقال السائل: ولو كان صدقاً ؟ فقال عليه السلام: إن كان صدقاً فقد اغتبته، وإن كان كذباً فقد بَهتَّه).
القسم الثاني: ما يكون في ذكره إثبات حق في مجلس القضاء، وهذا واجب ديناً على كل من عاين على أنه فرض عين، فإن الله تعالى يقول:[ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ] {البقرة:283} .
والقسم الثالث: أن ينطق بالحق لأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإرشاد الخلق إلى الحق، ونقد ما يؤدي إلى الضياع، وتأييد ما فيه مصلحة العباد، ودفع لجاجة أهل الباطل، وهذا بلا ريب من الصراحة، وأولئك هم الذين يقول الله فيهم:[وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ] {الحج:24} .اللهم اجعلنا في زمرة أولئك الهداة المتقين.
للمقالة جزء ثانٍ وأخير.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين