المؤمن كالنخلة

ابن قيم الجوزية


عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء ، لا يسقط ورقها ولا يتحات . فقال القوم : هي شجرة كذا ، هي شجرة كذا ، فأردت أن أقول : هي النخلة ، وأنا غلام شاب فاستحييت ، فقال : هي النخلة" رواه البخاري
وقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعنى المتقدّم، وهو تشبيه المؤمن بالنخلة في أوجز عبارة، وذلك فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها مِنْ شيء نفعك" والمقصود إلا ونفعك
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدة.
قال البغوي رحمه الله: "والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة هي أنَّ الشجرةَ لا تكون شجرةً إلاَّ بثلاثة أشياء؛ عِرق راسخ، وأصلٌ قائم، وفرع عالٍ، وكذلك الإيمان لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء؛ تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعمل بالأبدان"
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا         يرمى بحجر فيلقي بأطيب الثمر
ذكر ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة أوجه التشابه بين المسلم والنخلة التي شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم بها ، أحببت أن أتحفكم بها .
قال رحمه الله : " تأمل هذه النخلة التي هي إحدى آيات الله تجد فيها من الآيات والعجائب ما يبهرك . وهي تشبه المؤمن من وجوه كثيرة .
أحدها : ثبات أصلها في الأرض ، واستقراره فيها ، وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار .
الثاني : طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها . كذلك المؤمن طيب الكلام . طيب العمل . فيه المنفعة لنفسه ولغيره .
الثالث : دوام لباسها وزينتها ، فلا يسقط عنها صيفا ، ولا شتاء . كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه تعالى .
الرابع : سهولة تناول ثمرتها ، وتيسره . أمَّا قصيرُها ، فلا يُحْوِجُ المتناولَ أن يرقاها . وأما باسِقُها ، فصعوده سهل بالنسبة إلى صعود الشجر الطوال ، وغيرها ، فتراها كأنها قد هيئت منها المراقي والدرج إلى أعلاها . وكذلك المؤمن خيره سهل قريب لمن رام تناوله لا بالغرِّ ، ولا باللئيم .
الخامس : أن ثمرتها من أنفع ثمار العالم ، فإنه يؤكل رطبه فاكهة وحلاوة ، ويابسه يكون قُوْتًا وأُدُمًا وفاكهة ، ويتخذ منه الخل والناطف والحلوى ، ويدخل في الأدوية ، والأشربة ، وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار .
الوجه السادس : أن النخلة أصبر الشجر على الرياح ، والجهد وغيرها من الدوح العظام . تميلها الريح تارة ، وتقلعها تارة ، وتقصف أفنانها . ولا صبر لكثير منها على العطش كصبر النخلة . فكذلك المؤمن صبور على البلاء لا تزعزعه الرياح .
السابع : أن النخلة كلها منفعة ، لا يسقط منها شيء بغير منفعة . فثمرها منفعة ، وجذعها فيه من المنافع مالا يجهل ، للأبنية والسقوف ، وغير ذلك . وسعفها تسقف به البيوت مكان القصب ، ويستر به الفرج والخلل ، وخُوصُها يتخذ منه المكاتل ، والزَّنابِيل ، وأنواع الآنية ، والحُصُر ، وغيرها ، وليفها وكربها فيه من المنافع ما هو معلوم عند الناس .
وقد طابق بعض الناس هذه المنافع ، وصفات المسلم وجعل لكل منفعة منها صفة في المسلم تقابلها . فلما جاء إلى الشوك الذي في النخلة جعل بإزائه من المسلم صفة الحِدِّة على أعداء الله ، وأهل الفجور ، فيكون عليهم في الشدة والغلظة بمنزلة الشوك ، وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرُّطَب حَلاوة ولِينا : أشداء على الكفار رحماء بينهم .
الثامن : أنها كلما أطال عمرها . ازداد خيرها ، وجاد ثمرها ،وكذلك المؤمن ، إذا طال عمره ازداد خيره ، وحسن عمله .
التاسع : أن قلبها من أطيب القلوب ، وأحلاه . وهذا أمر خُصَّت به دون سائر الشجر . وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب .
العاشر : أنها لا يتعطل نفعها بالكلية أبدا . بل إن تعطلت منها منفعة ، ففيها منافع أُخَر حتى لو تعطلت ثمارها سنة ، لكان للناس في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع ، وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط . إن أجدب منه جانب من الخير ، أخصب منه جانب ، فلا يزال خيره مأمولا ، وشره مأمونا . ورد في الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " خيركم من يرجى خيره ، ويؤمن شره ، وشركم من لا يرجى خيره ، ولا يؤمن شره " .
انظر مفتاح دار السعادة ج 1 ص 230

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين