الموجز في التاريخ

معركة القادسية

أمام انتصارات المسلمين المتتالية في العراق بقيادة المثنى بن حارثة؛ جُن جنون الفرس، وشعروا بخطر الكارثة التي حلَّت عليهم؛ فاجتمعوا بعد ذلك، وجلسوا ينظرون في أمر هذه القوة الناشئة، القادمة من الجزيرة العربية، في وقت كان الخلاف بينهم على الملك قائمًا، فرأوا أنه سبب هزائمهم المتتالية أمام المسلمين؛ فاجتمعوا على تنصيب يزدجرد بن كِسرى ملِكًا عليهم(1)؛ فأصلح يزدجرد من حال الناس، وقرَّبهم منه، فاجتمعوا حوله، وتباروا في طاعته ومعونته، ثم استنهضهم لقتال المسلمين، وأصلح لذلك المسالح والثغور، وفرض عليهم التجنيد الإجباري.

كانتْ عيون المثنى بن حارثة رضي الله عنه قد علمتْ باجتماع الفرس، واستعدادهم لقتال المسلمين، فأرسل المثنى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُخبره بأمر الفرس، فاستنفر عمر المسلمين لقتال الفرس، واتفقتْ كلمة المسلمين على تعيين سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه على رأس جيش يخوض معركة فاصلة مع الفرس، وفرض عمر على المسلمين التجنيد الإجباري، فاجتمع لسعد جيش كبير، سار به إلى القادسية(2)، ليكون بذلك عمر أوَّلَ من فرض التجنيد الإجباري على المسلمين، وليس الأمويُّون من فرضه، كما يقول البعض.

كان من وصايا عمر رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص: أن يُرسل إلى الفرس مَن يُفاوضهم، ويدعوهم إلى الإسلام، ولما وصل سعد إلى العراق شكَّل وفدًا من الرجال، اختارهم بصفاتٍ غاية في الحكمة، ثم أرسله إلى يزدجرد، وكان على رأس الوفد النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فتكلَّم النعمان بين يدي يزدجرد عن الإسلام والمسلمين، وعن حالهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها، وبماذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تغيَّر حالهم بعد بعثته صلى الله عليه وسلم؛ حتى خرجوا يدعون إلى هذا الدين، وعرضوا على يزدجرد بعد ذلك الإسلام، أو الجزية، أو المنابذة؛ فاستشاط يزدجرد غضبًا وقال: "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نُوكِلُ بكم قُرى الضواحي يُدبِّرون أمركم، فقد كنتم قبائل متناحرة متقاتلة، وكنتم تأكلون الْجِيف والدم والعظام"، وذكر من أمر العرب ما ذكر، ثم قال: "لولا أن الرُّسل لا تُقتل لأمرتُ بقتلكم"، ثم أمر لهم بوقر من تُراب(3)، ورجع الوفد إلى سعد بن أبي وقاص، وقالوا له: أبشر، فوالله لقد أعطانا الله أقاليد حكمهم؛ تفاؤلًا منهم بهذا التراب الذي أعطاهم.

اجتمعتْ كلمة الفرس بعد رفضهم عرض النعمان بن مقرِّن على خوض الحرب ضد المسلمين، وعيَّنوا رُستم قائدًا عامًا لجيشهم، ورستم كان من أشد قادة الفرس وأعظمهم، فسار رستم ليلتقي بجيش المسلمين في القادسية، ومرَّ في طريقه على قرية من القرى التي فيها مسلمون، فسأل أعرابيًا: ما الذي جاء بكم؟ فقال الأعرابي: جئنا نطلب موعود الله فيكم بملْكِ أرضكم وأبنائكم؛ إن لم تُسلموا، فقال رستم: فإن قُتلتم قبل ذلك؟ قال: مَن قُتل مِنَّا دخل الجنة، ومَن بقي أنجزه الله وعده، ثم قال له الأعرابي: لا يَغُرَّنَّك مَن حولك، فإنك لا تُجادل البشر، إنما تُجادل القدر -والله تعالى قدَّر وقضى أن يُورث الأرض عباده الصالحين فقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون}[سورة الأنبياء:105] وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[سورة الأعراف:128]- قال الأعرابي لرستم: نحن على يقين، فقتله رستم؛ ومضى(4).

ولـمَّا وصل رستم بجيشه إلى القادسية -وكان جيش سعد قد سبقه إليها– أرسل رستم إلى سعد بن أبي وقاص يطلب رجلاً يُكلِّمه، فأرسل إليه سعد رِبْعيَ بن عامر رضي الله عنه، وكان رستم قد جلس على سريرٍ من ذهب، وبسط حوله النمارق، والوسائد المنسوجة من الذهب؛ علَّه يُغري المسلمين بذلك، فجاء رِبْعيٌّ راكبًا فرسه القصيرة، ومضى حتى داس بها تِلك البُسط، ثم نزل، وهو رجلٌ قصير القامة، رثُّ الثياب، قد ربط سيفه بِخرقة على حقويه، مشى إليهم والرمح في يده، يتَّكئ عليه، يَخْرِقُ به نمارقهم، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: لو أتيتكم فعلتُ ذلك بأمركم، وإنما دعوتموني، فجلس على الأرض بين يدي رستم، ولم يجلس على السُّرر، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأخذ يحدثهم عن الإسلام، فقال له رستم: أمهلونا ننظر في أمرنا ونُخبر من وراءنا، فقال له رِبْعي: وإن مما سَنَّ لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ألا نُمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك، إمَّا أن تدخلوا في هذا الدين وندعكم وأرضكم، أو أن تدفعوا الجزية ونكُفَّ عنكم، وإن احتجتم إلينا نصرناكم، أو المنابذة في اليوم الرابع، إلا أن تبدأ بنا، فخلا رستم بقومه وقال لهم: ما رأيكم؟ فصغَّروا من أمرهم –أي من أمر العرب– فقال لهم رستم: ويلكم إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعرب تستخف اللباس، وتصون الأحساب، ثم رجع ربعي.

في اليوم الثاني طلب رستم رجلًا آخر يُكلِّمه، فأرسل إليه سعدٌ حذيفةَ بن مِحْصن الغلفاني رضي الله عنه، وكان من أمره كما كان من أمر رِبْعي بالأمس، وفي اليوم الثالث طلب رستم رجلًا آخر يُكلِّمه؛ فأرسل إليه سعدٌ المغيرةَ بن شُعبة رضي الله عنه، فجاء المغيرة وجلس على سرير رستم، فأقبل إليه الأعوان يَجذبونه –يُبعدونه– عن السرير؛ لأنه سرير الملك، فقال المغيرة: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، نظُنُّ أنكم توقِّرون بعضكم بعضًا، نحن العرب لا يستعبدُ بعضنا بعضًا إلَّا أن يكون مُحاربًا لصاحبه، ليس عندنا هذا التفاوت الطبقي، وما أرى هذا الأمر يستقيم فيكم، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأنَّ ملكًا لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.

تكلَّم رستم يرد على المغيرة، فصغَّر من شأن العرب، وضخَّم من أمر الفرس، وذكر ما كان عليه العرب من سوء الحال، وضيق العيش، وظنَّ أنه بذلك يُحرجُ المغيرة، ولكنَّ المغيرة رضي الله عنه قال له: كنا كما قلتَ وأكثر، لكنَّ الدنيا دُول، وبعد الشدة الرخاء، بعث الله فينا رسولًا فآمنَّا به وصدَّقناه، وذكر كما ذكر صاحباه: رِبعيٌ وحُذيفةُ، وخيَّرهم المغيرة بين الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فخلا رستم بقومه وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقًا واحدًا، ولزموا أمرًا واحدًا، هؤلاء والله الرجال، صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا؛ فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهم شيء، فلجُّوا وتجلدوا(5)؛ ليقضى الله أمرًا كان مفعولًا، وليصدق فيهم وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان القتال بينهم وبين المسلمين، وكانت معركة القادسية التي كسرتْ شوكتهم، وأظهرت وهنهم، وأزالتْ دولتهم، فانزاح الإسلام بعدها إلى بلاد فاس وما وراءها؛ حتى وصل أطراف الصين.

وهكذا لم تُفلح المفاوضات بين وفد المسلمين ورستم قائد جيش الفرس، واختار الفرس الحرب؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وكان الجيشان قد اجتمعا في القادسية، وكان سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين قد ثارتْ عليه قروح بين فخذيه وإليتيه، فلم يستطع ركوب الخيل، ولا الجلوس على الأرض، بل كان مكبًا على صدره، وتحته وسادة يشرف على الميدان من قصر (قديس) في القادسية(6)، وجعل بينه وبين جُنده رُسلًا، وكان عدد جيش المسلمين يزيد قليلًا على الثلاثين ألفًا، بينما كان عدد جُند الفرس يزيد على المائة وعشرين ألفًا، ومعهم اثنان وثلاثون فيلًا.

دامت معركة القادسية أربعة أيام، اليوم الأول سمي يوم أرْماث، والثاني يوم أغواث، والثالث يوم عِماس، والرابع يوم القادسية، كانت أربعة أيام بثلاث ليال، الليلة الأولى سُمِّيتْ ليلة الهدأة، لم يكن فيها قتال، والليلة الثانية سُمِّيتْ ليلة السَّواد، بقي القتال حتى دخل سواد الليل، والليلة الثالثة سُمِّيتْ ليلة الهرير، بقي القتال فيها حتى الصباح، ولم يكن يُسمع فيها إلَّا هرير المقاتلين(7).

اليوم الأول هو يوم أرماث، أشار سعدٌ على جُنده ألَّا يبدأ أحدٌ القتال حتى يُصلُّوا الظهر، فإن هم صلُّوا كبَّر فيهم أربع تكبيرات، وبعدها يبدأ القتال، وقال لهم: اعلموا أن التكبير لم يُعطَه أحدٌ قبلكم، وإنما أُعطيتموه عونًا لكم، فإذا كبَّرتُ الأولى فكبِّروا، وإذا كبَّرتُ الثانية فكبروا، ولتستتم عدتكم، ثم إذا كبَّرتُ الثالثة فكبِّروا، ولينشِّط فُرسانكم الناس ليبرزوا ولْيُطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلَّا بالله.

لـمَّا صلَّى المسلمون الظهر في القادسية؛ توزَّع القُرَّاءُ في الجيش، يقرؤون سورة الأنفال –سورة الجهاد– على المقاتلين، فهشَّتْ قلوبهم وعيونهم لها، ودبَّتْ فيهم السكينة والحماس، قُرئتْ سورة الأنفال، والتي يقول الله عز وجل فيها: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان}[سورة الأنفال:12] سورة الأنفال التي يقول الله فيها: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [سورة الأنفال:17] قُرئت هذه السورة على المجاهدين، فارتفعتْ حماستهم، واستعدوا كُلُّهم للشهادة في سبيل الله.

كبَّر سعدٌ التكبيرة الأولى فكبر المسلمون، ثم كبر الثانية فكبروا واستعدوا، ثم كبر الثالثة فبرز رجالٌ من المسلمين للمبارزة، وهي –أي المبارزة– فَنٌّ عسير لا يُجيده إلَّا الأبطال من الرجال، خرج غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، وطُليحة بن خويلد الأسدي، وخرج إليهم أربعة من فرسان الفرس، فجندلهم المسلمون، خرج الأول وهو غالب بن عبد الله الأسدي، فخرج له فارسي فقتله غالب، ثم رجع إلى صفِّ المسلمين غالبًا، ثم خرج بعده عاصم بن عمرو التميمي، فخرج له علْجٌ فارسي فجندله عاصم، ورجع إلى جيش المسلمين قد عصمه الله، ثم خرج عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فخرج إليه فارسيٌ ثالث، فقتله عمرو وعاد لصفِّ المسلمين منتصرًا، ثم خرج طُليحة بن خويلد الأسدي، وطُليحة هذا كان ممن ارتدَّ عن الإسلام بعد النبي ﷺ، وقاتله أبو بكر، ثم رجع إلى الإسلام، وحسُنَ إسلامه، وعيَّنه عُمر رضي الله عنه قائدًا في معركة القادسية؛ خرجَ طُليحة بن خويلد الأسدي، فخرج له عِلْجٌ فارسي، فجندله طُليحة وعاد إلى صفِّ المسلمين قد حماه الله.

كان رستم يرقب المبارزة من وكره فهاله الأمر، وعلم أن جُنده لا طاقة لهم بنزال المسلمين، فأمر بالهجوم؛ ليقطع المبارزة على المسلمين، فهي تُوهن في جيشه، فمال بنصف جيشه على بجيلة، وكانت عِدَّةُ قبائل قد شاركتْ في المعركة، من أكبرها بجيلة وأسد، وبكر بن وائل من ربيعة، وبنو تيم وغيرهم.

رأى الفرس ثغرة في قبيلة بجيلة فمالوا عليها ومعهم الفيلة، فكانت خيول المسلمين تنفر من الفيلة، إذ لا عهد لها بها، ولا وجود للفيلة في أرض الجزيرة، وأنزل الفرس بالمسلمين قتلاً، فهبَّتْ أسد تُنجدُ بجيلة وتَرُدُّ عنهم، وكانت فيهم –أي في أسد– مقتلةٌ كبيرة، قُتل منهم أكثر من (500) رجل في أوَّل يومٍ، فنادى سعدٌ بني تميم قائلا لهم: ألستم أهل الإبل والخيل؟ أمَا لكم حيلة مع هذه الفيلة؟ فقالوا: بلى، فعمدتْ بنو تميم إلى الفيلة يقطِّعون حبالها، حتى سقطتْ التوابيتْ (الصناديق) من على ظهورها؛ فأعروها كُلَّها، وسقط الرجال الذين على ظهورها، واقتتل الجيشان حتى المساء، ثم رجع كُلٌّ إلى مكانه، وهدؤوا حتى الصباح، وسُمِّيتْ تلك الليلة –كما ذكرتُ– ليلة الهدأة.

كان اليوم الأول يوم أرماث، وقع بسبب الفيلة اضطرابٌ في صفوف المسلمين، قُتل منهم في هذا اليوم خلق كثير، وقُتل من الفرس يومها أكثر من ألفي مقاتل، وفي ليلة الهدأة كان قد وصل جُند الشام بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، فعمد القعقاع إلى جُنده -وكانوا ألفًا- فقسَّمهم إلى مئة قسم، كل قسم مكون من عشرة، وأمرهم أن يقدموا تباعًا عند طلوع الشمس، كلما جاء عشرة تبعهم عشرة؛ ليرفع بذلك من معنويات جيش المسلمين، ويُرعب جيش الفرس.

في صباح اليوم الثاني وهو يوم أغواث خرج القعقاع وطلب المبارزة، فخرج إليه قائد من قادة الفرس، وهو ذو الحاجب (بهمن جاذويه) الذي أوقع بالمسلمين مقتلة في معركة الجسر قبل القادسية، فلمَّا رآه القعقاع صرخ في وجهه قائلاً: يا لثارات أبي عبيد والجسر، ثم ما لبث القعقاع أن جندله أرضًا، ثم نادى فيهم: هل من مبارز؟ فخرج إليه اثنان من قادتهم الـبيرزان، والـبندوان، فخرج مع القعقاع الحارث بن ظبيان، فجندلاهما أرضًا، فقتل صباح اليوم الثاني ثلاثة من قادة الفرس الخمسة، فوهن ذلك في عضد الجيش، وأراد القعقاع أن يثأر للمسلمين من يوم الفيلة، فعمد إلى الإبل وألبسها البراقع –البُرقع التي تلبسه المرأة– وأمر الجند أن يكونوا حولها بخيولهم، ولم يكن في اليوم الثاني فيلة؛ لأن الفيلة كانت في اليوم الأول قد سقطتْ صناديقها، فكان الفرس في اليوم الثاني يُصلحون تلك الصناديق؛ فصارتْ خيول الفرس تنفر من هذه الإبل، وتظُنُّها أشباحًا، فتقدَّم المسلمون، وأوقعوا فيهم مقتلةً عظيمة، واستمرَّ القتال حتى دخل سواد الليل، وسُمِّيتْ هذه الليلة الثانية بليلة السواد، ثم عاد الجيشان إلى معسكراتهم(8).

في الليلة الثانية عمد القعقاع إلى تسريب عدد من جنده إلى خارج أرض المعركة، يبيتوا في الخارج، ثم يأتوا في الصباح على مجموعات وهم يُكبِّرون؛ لترتفع بذلك معنويات المسلمين بهذا المدد القادم، ويرتعب الفرس من ذلك، ثم بدأ اليوم الثالث وهو يوم عِماس، وهو يومُ الفيلة، كان الفرس قد أصلحوا أمر الفيلة، وتلافوا خطأهم الأول، فجعلوا حول الفيلة عددًا من الرجال يذودون عنها مَن يتقدَّم إليها، وعلى ظهورها صناديق كبيرة، فيها رجال يرمون المسلمين بالنبل، فلقي المسلمون منها في هذا اليوم عنتًا شديدًا، وسعدٌ رضي الله عنه في عرينه يرقب المعركة، فأرسل إلى القعقاع وعاصم ليكفياه شرَّ الفيلة، فسألوا الفرس المسلمين، الذين كانوا في جيش المسلمين: أليس للفيلة مقاتل؟ أين تُضربُ حتى تُقتل؟ فقالوا: إذا ضُربتْ في عيونها وأشفارها لم يُنتفع بها، فنزل القعقاع برمحه، وحام حول الفيل الأبيض الذي تنقاد له الفيلة، فرماه برمحٍ في عينه، وكذا فعل عاصم، وغيره من المسلمين، حتى سقطتْ الفيلة، وسقط مَا عليها من الصناديق بمن فيها من الرجال، وولَّتْ بقية الفيلة هاربة، تدوسُ بأقدامها جيش الفرس، فخلتْ الساحة من الفيلة، والتحم الجيشان يتقاتلون بالسيوف حتى المساء، وكان يومهم سواء، لا غالب ولا مغلوب، ثم ما لبث أن نشب القتال بينهم ليلاً، فقد أدرك رستم أن جيشه ليس بقوة المسلمين في المبارزة والمطاردة؛ فاجتاح بجيشه كالسَّيل العارم معسكر المسلمين، وكان القتال ليلًا، والمقاتلون لا يتكلمون، إنما هو هرير القتال، فسمِّيتْ تلك الليلة الثالثة ليلة الهرير.

وفي اليوم الرابع وهو يوم القادسية؛ علم القعقاع بخبرته وفراسته أن النصر مع الصبر، وأن المعركة أوشكتْ على الانتهاء، وأنها لمن يصبر، علم أن أعداءه قاتلوا يومًا وليلة دون انقطاع، وقبلهما قاتلوا يومين مع راحة قليلة؛ علم أنهم وهنوا وضعفوا، فحمل عليهم حتى استطاع أن يقترب من قلب مقر رستم، وعندها جاء نصر الله، هبَّتْ ريحٌ فاقتلعتْ طائرة خيمة رستم، وثار الغبار حتى وصل القعقاع إلى سرير رستم، فلم يجده، وكان رستم قد اختبأ تحت بغل، واحتمى بعدليه، فجاء هلال بن عُلَّفه رضي الله عنه فضرب العِدل فسقط، ولم يعلم أن رستم تحته، وكان قد ضرب ظهر رستم، فهرب رستم، فتَبعه هلال وسحبه من رجله فقتله، ثم نادى في الجيش: قتلتُ رستم وربِّ الكعبة، إليَّ إليَّ، فأطاف به المسلمون وكبَّروا، وانهزم قلب الفرس، ثم انهزم بقيتهم، فتبعهم المسلمون حتى وصلوا نهر العقيق الذي خلفهم، وكان فيه نحوًا من ثلاثين ألفًا من جنود الفرس، قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل، فقتلوا كُلُّهم، منهم من غرق فلم يستطع الهرب، ومنهم قُتل بيد المسلمين.

نزل نصر الله على المسلمين في اليوم الرابع من أيام القادسية، بعد أن قدَّم المسلمون في هذه المعركة أكثر من (8500) شهيدًا، وقُتل من الفرس أكثر من (30) ألف عِلْجٍ، ثمانية آلاف وخمسمائة من المسلمين هو أكبر عدد قدَّمه المسلمون في معاركهم الأولى، وهو دليلٌ على ضراوة المعركة، واستبسال المسلمين، فكلُّهم قد قدم نفسه للشهادة في سبيل الله(9).

هذه المعركة كانت بوّابة لفتح بلاد فارس، ونشر الإسلام فيها، وبعدها فُتحتْ بلاد السند –بلاد الهند– وكان بعد القادسية معركة (جلولاء)، ثم فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى، وبعدها كان فتح (تُستر) بعد حصار استمرَّ عدة أشهر، ثم دخل آلاف الفرس في دين الله، ثم كانت معركة (نهاوند) فتح الفتوح، ولم تقم بعدها للفرس قائمة(10).

 

(1) الدواداري، عبد الله بن أيبك، كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق: بيرند راتكه، وآخرون، (الناشر: عيسى البابي الحلبي، د. ط، 1415/1994) 3/199.

(2) ينظر: البَلَاذُري، أحمد بن يحيى، فتوح البلدان، (بيروت: دار ومكتبة الهلال، د. ط، 1988) 1/250.

(3) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/500.

(4) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/508، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/295، وينظر: الحميري، الاكتفاء، مصدر سابق، 2/441.

(5) ينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/297.

(6) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/531.

(7) ينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/302، وينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/547.

(8) ينظر: الحميري، الاكتفاء، مصدر سابق، 2/478.

(9) ينظر: الصلابي، عمر بن الخطاب، مصدر سابق، 394 وما بعده.

(10) ينظر الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/116.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين