الأنسنة والعقلنة والأرخنة أفكار عفنة

منذ أن جاء الإسلام وبزغت شمسه في ربوع العالمين، وأعداؤه يحاربونه ويحاصرونه ويكيدون له، ويتربصون به الدوائر، فقد هالهم ما جاء به الإسلام من تعاليم قيمة، وما أرسى من مبادئ سامية، مما سارع في انتشاره وعلو سلطانه، وإقبال الناس عليه، وقوة تمسكهم به، فجن جنون خصومه، فتواطئوا على حربه بكل ما يستطيعون، فما زادتهم محاربته إلا خساراً، ولا الإسلام إلا انتصاراً، فتحيروا في أمرهم، وغلت بالحقد قلوبهم، وهاجت بالحسد نفوسهم، فأمعنوا في ذلك النظر، وقلبوا في وجوه حربه الفكر، فخرجوا إلينا بـ(القراءات الجديدة أو المعاصرة للقرآن الكريم) التي تتدثر بمناهج لسانية وتاريخية.

وتعني القراءة الجديدة: استخدام النظريات الحديثة في تأويل القرآن الكريم.

أدّت هذه القراءات الجديدة إلى تحريف المعاني القرآنية، وتناقضها مع الحقائق الشرعية، وتعارضها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومرد ذلك هو عدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ومعاملته كسائر النصوص البشرية.

ظلت هذه القراءات ردحاً من الزمن تمثل ظاهرة فردية فقد كتب محمد توفيق صدقي مقالاً بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) ونشر في مجلة المنار، العدد 9 عام 1906م، وذهب فيه مذهباً تأويلياً، فأعجب بذلك عبد المجيد الشرفي فكان هذا المقال إرهاصاً للقراءات الجديدة، إلا أنه منذ سنوات أصبحت هذه الظاهرة جماعية، ينتمي إليها أفراد من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، تجمعهم أفكار متقاربة متطابقة، ويوحدهم أو يكاد منهج مشترك، ويمكن تصنيفهم في نحلة واحدة.

واستعمل أصحاب القراءات الجديدة مصطلحات غير المصطلحات الشرعية؛ فبدل نزول القرآن استعملوا (الواقعة القرآنية) وبدل القرآن (المدونة الكبرى)، وبدل الآية (العبارة).

وتعمد أصحابها الاستشهاد بالقرآن والنص البشري معاً بدون أدنى تمييز بينهما، مع الدعوة إلى (أنسنة وعقلنة) النص القرآني، واعتبروا أن كل ما يعارض العقل شواهد تاريخية، وربطوا الآيات بالظروف الزمنية، ليصلوا في نهاية المطاف إلى أن القرآن الكريم نص تاريخي.

إن القراءات الجديدة للقرآن الكريم ما هي إلا امتداد للدراسات الاستشراقية التي يمثلها (نولدكه) في دراسته عن تاريخ القرآن الكريم؛ حيث انتهى إلى أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هي إلا امتداد لنبوات العهد القديم، وأن القرآن الكريم مأخوذ عن المأثورات اليهودية والمسيحية.

وتطورت هذه الدراسات حول القرآن الكريم في الستينيات من القرن العشرين، على أيدي التفكيكيين كـ(جون واسنبرو) و(كوك) و(كرون) وغيرهم.

وعن هؤلاء المستشرقين أخذ أصحاب القراءات الجديدة للقرآن الكريم، أمثال محمد أركون العلماني أصيل الجزائر، الذي كتب معبراً عن مرجعيته الأساسية:

ويرى المستشرقون المتخصصون بفقه اللغة أن كلمة "قرآن" ذات أصل سرياني أو عبري.

ففي نظره لا يوجد شيء خارج النص الاستشراقي؛ إذ المستشرقون - وحدهم - المؤتمنون على قراءة الشرع الإسلامي وتوثيقه أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن المسلمين!!

وهو لا يخفي رغبته بأنسنة النص، وإحالته إلى التاريخ، وينظر إلى النص على أنه من إنتاج محمد

صلى الله عليه وسلم، حسب كلامه فإنه يريد "أرخنة الخطاب القرآني ذاته".

ومنهم جلال صادق العظم (1934م -.....) معاصر شيوعي سوري من أصل تركي، اعتنق الفكر الشيوعي وجهر بإلحاده في كتابه الموسوم (نقد الفكر الديني) 1969 م، خلاصته أن الإسلام يناقض العلم الحديث!

ومما يثير العجب أنه رغم إلحاده عقد فصلاً خاصاً فيه يدافع عن إبليس سماه " مأساة إبليس"، ردَّ عليه كثير من العلماء، وله: (ما بعد ذهنية التحريم) الذي دافع فيه عن سلمان رشدي.

ومنهم نصر حامد أبو زيد المصري الهارب، و أسوأ ما كتبه (نقد الخطاب الديني)، أعاد طبعه عام 1995م، مع مقدمة طويلة جداً كلها إصرار على خطاياه، حاول إلصاق النص بالتاريخ لتسويغ التخلي عنه.

ومنهم محمد شحرور السوري الذي يقف على خلفية فلسفية ماركسية، فخرج علينا بكتابه المهلهل: الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة 1990م.

ومنهم المصري حسن حنفي، أستاذ الفلسفة على الفكر الاعتزالي، فأخرج لنا مؤلفاته التي تسير على غرار المنظومة الماركسية، وأهم أفكاره العفنة في كتابه (التراث والتجديد موقفنا من التراث القديم) صدر سنة 1980م.

ومنهم عبد المجيد الشرفي التونسي له صلة وثيقة بالدوائر الدينية المسيحية في إيطاليا على وجه الخصوص، ويتميز بكفاءته المنهجية العالية، وبأسلوبه العربي المتين، وبسعة اطلاعه على التراث الإسلامي على وجه العموم، وهو لذلك يعتبر أكفأهم أيضاً في نصرة هذه الوجهة التأويلية التي يلتفون عليها، وفي الترويج لها والدفاع عنها، أهم آرائه ضمنها في كتابيه: لبنات 1994م، والإسلام بين الرسالة والتاريخ 2001م.

ويكاد لا يخلو بلد من ممثلين لهذه القراءات الجديدة، ومنتمين إليها.

وهكذا نجد أن الأعداء دفعوا أغراراً من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، ويشوهون ديننا، لتكون الفتنة أشد وأنكى، حتى قال القسيس الأمريكي الحقود صمويل زويمر: (ولتقطع الشجرة بجزء منها).

وأخيراً محمد عابد الجابري، الذي استقبلت مقالاته الرمضانية المنشورة في صحيفة ''الاتحاد'' الإماراتية بهجوم شرس من قبل العديد من الباحثين والكتاب.

فقد أدرجه السيد زهره في مقالاته ''الحرب على الإسلام: الجوانب المعلنة والخفية'' والمنشورة بمجلة "التجديد العربي" ضمن إطار الحملة التي تشنها أمريكا والغرب على الإسلام والقرآن، مستشهداً بدراسة للبنتاغون خلصت إلى أن المشكلة الحقيقية هي مع القرآن، وتردد مؤخرًا ضمن الحديث عن"التحديث والإسلام" الحديث عما سُمي بـ"تحقيق القرآن" في ندوة عقدت في بيروت 25-26 يونيو/2003 ولقيت صدى في تونس، والبعض عبر بـ "تنقيح القرآن"، لذلك قام العديد من الطوائف بإعداد قرآن حديث وجديد (ولكنه غير مجيد)، وسموه (فرقان الحق).

واعتبرت صحيفة ''المصري اليوم '' ما كتبه الجابري تهجماً على الإسلام قبل أن تضيف: " أن القرآن سيظل محفوظاً على رغم الجابري وكل حاقد على الإسلام ".

وقارن وسام فؤاد في مقالته "الفكر الإسلامي بين ضغوط بنيدكت والجابري" المنشورة بموقع الشهاب بين أقوال بابا الفاتيكان وأستاذ الفلسفة، موسِماً الجابري بجهله التام بعلوم الحديث والناسخ والمنسوخ.

وفي نفس السياق كتب أحدهم "رسالة إلى الحاج محمد عابد الجابري " داعياً إياه إلى التوبة عن ادعاءاته.

وكتب آخر بقلم "أبي إسحاق نور الدين المغربي " وأخيراً يسقط القناع عن الفكر الاشتراكي: محمد عابد الجابري يزعم أن القرآن محرف"!

وأغرب تعليق قرأتُه هو ما نشرته جريدة الجمهورية المصرية التي اعتبرت ما كتبه الجابري أخطر من محاضرة البابا، ونشرت رسالة مفتوحة لأحد كتابها بعثها إلى شيخ الأزهر يقول فيها:

" إن ما أثاره عابد الجابري ليس بجديد. فقد سبق أن أثاره اليهود في ما عرف بقضية الناسخ والمنسوخ.... إن الكثير من جامعات شمال إفريقيا، وبالذات في المغرب، ارتكزت في بدايات تأسيسها على الإسرائيليات، وهذه المنطقة من عالمنا العربي هي أكثر المناطق اختلاطاً بأوربا، وأبناؤها أكثر الأجانب المقيمين في فرنسا وأسبانيا ".

ولعلي لا أجانف الصواب إذا قلت:

إن الحظ الأوفر من الشكر يجب أن يتوجه إلى أولئك الذين كانوا السبب الرئيس في وضع هذه البحوث وتدبيجها، أقصد أصحاب القراءات الجديدة والمعاصرة للقرآن الكريم، الذين كتبوا ما بَاعدَهم عن الصواب، فاضطرني وأمثالي إلى البحث والتنقيب في زمن الصمت والسكون، والتقصير في خدمة كتاب الله عز وجل، بل ومناظرة هؤلاء ومناصحتهم، طبقاً لقواعد المناظرة العلمية في ضوء ضوابط التفسير، ورُبَّ ضارة نافعة.

إن من نعم الله عز وجل على هذا الدين أن قيَّض له أناساً يهاجمونه ويعارضونه، ويعلنون عليه حرباً ضروساً لا هوادة فيها بأفكارهم وأقلامهم، ويرصدون لذلك الأموال العظيمة، والجهود الكبيرة، ويجندون لهذه الحرب أفتك ما لديهم من أسلحة فكرية مدمِّرة، ومادية مبيدة، ثم ينتظرون انتهاء دور الإسلام في قيادة العالم، ولكنهم سرعان ما تتجهَّم جباههم، وتكلح وجوههم، يوم يرون النار التي أوقدوها على الإسلام ارتدَّت إليهم، فأحرقت باطلهم، وكشفت عوارهم، فما زادت الإسلام إلا انتشاراً حتى كأنهم بذلك إنما يبشرون بالإسلام ليعرف الناس حقيقته فيدخلوا فيه أفواجاً، ويدير الناس حينئذ ظهورهم للأباطيل حين تحرقها نار الحقيقة.

ولا ندري فلربما كانت القراءات الجديدة للقرآن الكريم نعمة للإسلام لإظهار محاسنه وجواهره، وبضدها تتميز الأشياء، وصدق الله عز وجل حينما قال: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون﴾ [الأنبياء: 18].

ولله درُّ أبي تمام حينما قال:

وإِذا أرادَ اللّهُ نشــرَ فضـيـــلةٍ طـــــويــتْ أتـــاحَ لـــها لســـانَ حــسودِ

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورَتْ ما كان يعرفُ طيبُ عرفِ العود

المصادر والمراجع:

1- احميدة بن المأمون النيفر: الإنسان والقرآن وجهاً لوجه (التفاسير القرآنية المعاصرة) قراءة في المنهج (سلسلة نقد العقل المعاصر)، دار الفكر بدمشق 2000م.

2- خيرية السقة، الإسلام والعروبة في فكر الصادق النيهوم وروجيه غارودي، مطبعة المنارة بيروت ودمشق، 1421هـ 2000م.

3- سليم الجابي، القراءة المعاصرة للدكتور محمد شحرور مجرد تنجيم- كذب المنجمون ولو صدقوا، الطبعة الثانية، 1992م.

4- منير محمد طاهر الشواف، تهافت القراءة المعاصرة، الشواف للنشر والدراسات، الطبعة الأولى 1993م.

5- تنقيح القرآن: لعبة التأويل والنص القرآني! د. محمد أحمد الحضراوي، مقال في موقع اسلام أون لاين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين